رواية « كاتيوشا» .. الحرب الذاتية والعشق

كاتيوشا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
رواية «كاتيوشا» من الروايات التي تنتمي للأدب الكلاسيكي الرفيع، رواية لا تعتمد على الحوارات المطوّلة دون أن تقتضبها، غوص في أعماق البعد النفسي للمرأة بتفوّق على بعض النساء الكاتبات في اقتناص تفاصيله، في دقة متناهية رسم شخوص العمل من أبعادهم الثلاثية

نورا علي 

إذا ما تأملنا الغلاف فقط نتذكر على الحال الحكاية المعروفة:
« صعدت كاتيوشا الصبية على الجرف، والنهر يغلفه الضباب؛ هي أغنية شعبية ذائعة الصيت في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، اشتهرت أيام الحرب العالمية الثانية، تحكي قصة فتاة تنتظر عودة حبيبها من الحرب، سمّيت منصات إطلاق الصواريخ كاتيوشا على اسم الأغنية، وهي أول مدفعية ذاتية الدفع، أطلق عليها الألمان اسم سيمفونية ستالين، وقد أعيد إنتاج الأغنية بعدة لغات، وهي حاضرة في معظم احتفلات روسيا الرسمية.»
فردتا حذاءٍ على هيئة قذيفة أو صاروخ، تُخرج من أحداهما مجموعة من الزهور البيضاء، خلفية حمراء، تناغم شديد بين قصة العنوان واللوحة، توظيف ذكي لمحتوى الرواية التي تدور أحداثها في معركة حول رجل من امرأتين؛ الزوجة كاتبة العمل والعشيقة غريمتها وصديقتها! كفردتين لا يمكن استخدام واحدة منهما دون الثانية في عوالم الروائيين الذين يختلقون عدة عشيقات لاشعال إلهامهم الروائي، فكيف وظّف الروائي وحيد الطويلة هذا العنوان الجميل المميز في روايته؟!
في ٢١٦ صفحة من القطع المتوسط صدرت منذ أيام عن مؤسسة بتّانة الثقافية رواية «كاتيوشا» للأديب المصري وحيد الطويلة.

اختار الكاتب عنوانًا ذكيًا فيه الكثير من الغموض والأبعاد الجمالية، أسقط الكاتب من خلاله تيمة عمله من البداية حتى النهاية على المعارك الذاتية التي تخوضها كل امرأة عاشقة في لغة تشبه السمفونية في توالف عجيب وذكي مع حبكةٍ روايةٍ تحملها روايتان، حالات متراكبة من الانتظار والقلق والخوف والألم والفضول ينغمس فيها القارئ ليعرف نهايتها، كمن يترقب نهاية معركة لابد من حسمها.
وعند الانتهاء من قراءة الرواية لابد من الاشادة بعنوانها كونه سبقًا وتفردًا في انتقاءه، عادةً تكون العناوين الروائية كاشفة أو مغايرة، وبعض العناوين لا يمكنها حمل قناعة القارئ من البداية حتى النهاية، لكن الطويلة فعلها دون أن يفتعلها، بمعنى أنه حاك من المفردة التي تحمل عدة أوجهٍ حبكةً تحمل نفس الأوجه الأربعة للعنوان.

( وحتى الكتاب الذين يكتبون عنها لا يعرفونها، كل معلوماتهم عنها من لسان النساء الأخريات فقط، يعرفونها بملابسها حتى ولو ضاجعت كل واحد منهم.
أنت لا تعرف النساء، لا يفتشن فقط عن إبرة في كوم قش، بل يفتشن عنها في رواية، أنت والرجال لا تعرفون كيف تلقط المرأة الحكاية وحدها مع أنها رأتها مع عشرة رجال في الوقت نفسه، ترى المرأة قصة الحب أو الغرام في مطعم، تفاجئك بها مع أنك كنت الأقرب إلى أشخاصها، وتجاورهم في الطاولة، ترى وحدها وتسمع ما حدث وتعيده بدقة مع أن أذنك كانت أقرب أذن للطاولة التى تمت فيها الصفقة أو الاعتراف. في روايتك “نافذة الليل”، تلك التي كتبت فيها عن بائعات الحب،
أعترف أنك استطعت أن تكتب تفاصيل عن النساء لا تعرفها إلا امرأة، أشياء لا يراها الرجال، امرأة تتدفق الأنوثة من محياها حين تنظر بعينين مستثارتين لسوتيان تريد أن ترتديه، حركة اليد المبتهجة نسخة غير مخصصة للطباعة…)

ومراعاةً لعدم حرق مضمون العمل كونه جديدًا ولم يُطرح بعد في المكتبات سأختصر فيه قدر استطاعتي؛
تدور الأحداث في صوتين؛ الراوي العليم والبطلة مشيرة، يحكي الراوي قصة امرأة ترافق زوجها إلى المطار لتقوم بوداعه وفي لحظاتٍ حميمية عند سفره لأول مرة من دونها للتخلص من متعلقات خاصة به في دولة الإمارات بعد قرارهما بعدم العودة للعمل هناك، مسربًا بعض ملامح البطل! يعترف لها أثناء دخولهما المطار بعشقه لأحدى صديقاتها، هنا تقع الحادثة عند مدخل المطار فينام في غيبوبة لمدة شهرين ونصف، في هذه الأثناء يبدأ صوت البطلة في تدريج مدروس للكشف عن ملامح بطلاتها الأربعة عبر زوجها الكاتب الوسيم المعروف؛ رشيد.
تدور الأحداث ببطء في أربعة مراحل:

المرحلة الأولى كيف تعاملت الزوجة العاشقة مع فكرة موتها بوجود عشيقة غيرها، التوغل في تفاصيل نفسية شديدة الخصوصية ليس من السهل معرفتها للرجال؛ معاناة المرأة في تلقي صدمتين؛ خيانة زوجها وتواطئ صديقتها المقربة في فعل الخيانة، إسقاطات كثيرة فلسفية ونفسية وأدبية تُعرّي المشهد الأدبي بأكمله.
المرحلة الثانية؛ محاولة البحث والتنقيب بين صديقاتها الثلاثة الأقرب لأصابع الاتهام، من خلال مشيرة نتعرّف عليهن واحدةً واحدةً دون إخراجنا يمرر الكاتب كولاجًا من مختلف الفنون، ليوغلنا في المرحلة التالية الأصعب؛ معرفة غريمتها، وما ترتب عليه من انفعالات نفسية وسيكولوجية في غاية الدقة، حالة من التأهب تقودنا بوتيرةٍ أسرع إلى المرحلة الأخيرة؛ من ينتصر؟ الزوجة أم غريمتها؟ ومعركة ذاتية نعيشها من خلال مشيرة.
يبقى دور البطل؛ الزوج رشيد مجمّدًا وحاضرًا في كل مرحلة ومع كل بطلة، رسم ذكي للزوج الكاتب وإسقاطات والكثير من التساؤلات حول ماهيّة البطل: هل هو شخصية حقيقية موجودة بيننا؟ أم مجرد خيال من صنيعة الكاتب؟ محاكاة فيها الكثر من الخبث الروائي الجميل تستدرج القارئ نحو النهاية غير المتوقعة.
ليظهر في الصفحات الأخيرة من جديد صوت الراوي العليم، استطاع الطويلة خلق عالمٍ في عالمٍ، حبكة في حبكتين؛ العالم الروائي المُتخيّل والوقائع المتسلسلة في تحول الحدث؛ الزوج على كرسي متحرك يقرأ/ الزوجة في حالة غيبوبة فاقدة دورها الرئيسي.
والعالم المتحرك داخل الحبكة الريئسية عبر أربع بطلات متهمات حتى تثبت إدانة إحداهن وتفاصيل خاصة جدًا بعوالم النساء.
لذا جاء الإهداء مرتين؛ في البداية: “إلى النساء، إلى منى وفيروز وليلو” بينما تضمنت الصفحات الأخيرة إهداءً ثانيًا على لسان مشيرة التي تغلغل في تفاصيلها حد اليقين، فأن تعيش معها في ٢١٦ صفحة ليس هينًا دون أن تشعر بالملل أو التباطئ تقرأ بكل تركيز كي لا تفلت منك جملة لشدّة التماكن السردي، كما لو أن الكاتب أعد وجبةً على نارٍ هادئة؛ هكذا يكون الطبخ على نارٍ هادئة يمنحك حبكةً مسبوكةً ومذاقًا يشبهان مذاق “كاتيوشا”
(كأنك بلا باطن، مع أنك كنت تخبيء خلف ذلك كل خطاياك، بلا أسرار، كأن قلبك غرفة واحدة لا أربعة، وضعت كل المفاتيح على الطاولة كي تطمئن الملائكة أنها تستطيع الاستحمام عارية في قلبك، وخبأت مفتاحًا للشيطان في بطنك تحديدًا في سرتك، الآن عرفت لماذا يقولون على شخص ما متصف بالنبل أن بطنه نظيفة)

اللغة وهي أحد أهم أدوات كل عمل، لكن هنا يمكن الجزم أنها أداة الكاتب الأهم، كون الفكرة بسيطة وغير متكلفة، فعندما يمتلك الكاتب لغةً روائيةً حيويةً ومقنعة يستطيع الخوض بها في غمار أيٍ مِن الأفكار، تحمل لغة الطويلة هنا وجهين؛ وجه اللغة الفصيحة الناعمة الخالية الأخطاء، المليئة التراكيب والشاعرية، فيها جزالة المعنى وافراط الصور والمفردات، بينما الوجه الثاني لها؛ جاءت عاميّة مصرية دارجة مختلفة قليلًا عن المتعارف عليه.
فمثلًا يستخدم مرةً “شيء” في جملته الفصيحة، بينما يستخدم: “شئ” في جملته العامية، عدا العبارات والأمثال الشعبية والمفردات المتعارف عليها في سياق الحوارات بين البطلة وبين بطلاتها، وبين البطلة وبين ذاتها.
( راحت تسحبني في الكلام كأنها حبيبتي التي أشكو لها نزق زوجي وعدم وفائه: لماذا فكر في هجرك؟ نور أصابعك رآه الجميع. من قال إن الحرب الباردة انتهت كاذب أو جاهل، هي ليست على الدوام بين أمريكا وروسيا، بل تجلس بيننا على طاولة واحدة، نسخة غير مخصصة للطباعة كلانا تخبئ عاصفتها تحت قشرتها.)

لا يمكن تجاهل المجهود الواضح الذي ظهر في صياغة بعض المشاهد، فبين المشهد والمشهد كان يمرر الكاتب كولاجًا من شتّى بحور الثقافة والفنون كما أسلفت، كمن يغترف من كل بحر قطرة، فهل كان هذا التمرير عشوائيًا؟
(هذه لقطة سيأخذها مخرج للسينما ليسجل مشهًدا لا يخطر إلا على بال فنان مجنون، عشت مجنونا في حبك لي، توقظني بين مشهد ومشهد من عز النوم، وسط الناس يدك على كتفي أو ظهري تضعها دون إدعاء، تقول أحب هذه المرأة سرًا وعلنًا، على مذهب أبي حنيفة وروميو وجولييت وولادة و المستكفي وعباس ابن الأحنف وفوز. في المقابر، يلملم حفارو القبور أو المكلفون بالدفن عظام من توفي من قبل، يضعونها على جنب ليفسحوا للجديد، لكنهم حين يرون عظامًا تضيء في ظلام القبر، يعرفون أن صاحبتها أو صاحبها مات على قصة حب، مات بالعشق، لذا لا يحركونها من مكانها ولا يدفنون أحدًا فيه من بعد)
من هذا الاقتباس فقط نستطيع الجزم أن كل جملة وُضعت بشكل مدروس يخدم المشهد دون إثقاله، كمن يؤكد لنا الحالة بعدة حالات متشابهة دون فصلنا عن التسلسل الدرامي للأحداث، فعندما تكتب هكذا مشاهد أو مونولوجات بشكل عشوائي يقع الكاتب في مأزق الثرثرة وبالتالي يترهل المتن الروائي للسرد، وتضعف الحبكة، لكن الطويلة حقق العكس فبرهن قدرته في احتواء الحدث وتحريكه عبر مشاهد متعددة، وهذا صعب جدًا في حبكة كل تيمتها تُختزل على الخيانة وأبعادها النفسية والاجتماعية.

رواية «كاتيوشا» من الروايات التي تنتمي للأدب الكلاسيكي الرفيع، رواية لا تعتمد على الحوارات المطوّلة دون أن تقتضبها، غوص في أعماق البعد النفسي للمرأة بتفوّق على بعض النساء الكاتبات في اقتناص تفاصيله، في دقة متناهية رسم شخوص العمل من أبعادهم الثلاثية، حتى ظهور دور الكلب لم يغفل عنه، فعندما يبدع المصور في التقاط صورة معتادة نشاهدها كل يوم كحالة الغروب مثلًا، يتحول الغروب إلى لوحة فنيّة معبرة من الصعب غض النظر عنها، قد يعتبرها البعض من الأعمال التي تندرج تحت المدرسة الرومانسية لكن هذا لا ينصفها، كونها مستقلة باسلوبها الفلسفي والنفسي أكثر منه إلى الرومانسية، فلم تكن مجرد قصة لعاشقين كالقصص التقليدية المستهلكة، فقد لعِب الطويلة على أعصابنا في مشاهد تحمل رعب وقلق المعركة، ومرر المتخيّل في توقعات نسفها في مفارقات نهاية كل مشهد.
في النهاية لا يسعني غير أن أشكر الكاتب على هذه الجرعة من الجمال الدسمة المُشبعة.

تنويه؛ تعمّد الكاتب وضع التنوين على الهمزة المتطرفة دون اتباعها بالمد في عدة مواقع: سوءً عوضًا عن “سوءًا” ولا يمكنني البت في هذه الهنات البسيطة وغيرها لأنني أتعامل مع مخطوطته قبل النشر، لربما هي أخطاءٌ مطبعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة سعودية 

مقالات من نفس القسم