ينفتح محكي “غزل الحكي” للكاتبة حبيبة زوكَي هكذا: “خلت الساحة من كل شيء إلا من تمثال تحلم به كل الحوامل وتعشقه كل العذارىّ” وتنسدل ستارته الأخيرة كالتالي: ” خلت الساحة من كل شيء إلا من عجوز تبحث عن منفى الضياع والجوع والظمأ”، ولعمري فإن هذين المشيرين الدالين- فضلا عن عتبة العنوان- قد يسمحان ببناء مفترض يوجه فعل قراءة هذا النص الحلو المر، بما يعنيه هذا التوصيف الطباقي من تشخيص لفعل جمالي قد لا يتخذ من الجمال موضوعا له، أو ما تعبر عنه الأدبيات النقدية بـ”جمالية القبح”. من منطلق أن الموضوع لا يصادر- ضرورة- على أدوات الكتابه، فالفنية قد تتمظهر في الصوغ الأدبي أكثر مما في سواه من قضايا وأطاريح. من دون أن يحمل هذا الكلام على الظن بأن مسألة الحدود هنا محسومة سلفا بين معنى ومبنى متضايفين، فالنصية مشروطة بجدلية معقدة يتضافر فيها الملفوظ والتلفظ، المقول والقول، في إنتاج التدليل، لا من خلال الكتابة وحسب، بل وعبر نشاط القراءة أيضا. فما الذي تغيَّته الكاتبة في هذا المتن؟ وأي أثر للمعنى سوف يشيده قارئه على تعدد مستويات تلقيه وتنوعها؟ لن نجازف هنا بتقديم إجابة أو شبه إجابة من شأنهما اختزال النص في مسار خطي يقيد عملية التلقي بما لا لزوم له. بيد أننا نكاد نجزم بأن مجال الرؤية والأداة، والحال هذه، لا ينبغي أن يحيد عما رسمه “مفتتح” النص و”مختتمه” من أفق مغلق لدى الشخوص التي حطم الواقع أحلامها بشراسة. إذ على قدر الوعي بهذا الواقع أتت الخيبات. والخطورة هنا قد لا تكمن في موت الأحلام أو احتضارها، على أقل تقدير، بل في طبيعة الحالمين الذين تبخر حلمهم هباء. إنهم صفوة المجتمع وخميرة المستقبل، من خريجي الجامعات والطاقات الشابة المعطلة التي ضاق بها الوطن وألبست عليهم سبل العيش والحياة، فباتت تفكر في الانتحار، بصيغ شتى ليس أقلها مأساوية: الهجرة والبحث- بعيدا- عن ملاذ حيث لا ملاذ.
وليس من قبيل المصادفات أن تلجأ الكاتبة- وهي شاعرة أيضا- إلى استعارات بليغة-عديدة- كاستعارة التمثال، مثلا، وما يعنيه سقوطه من معان ودلالات، قد نختصرها في الحلم المجهض لدى العذارى والحوامل اللائي ستتخذ صورهن، أخيرا وبعد رحلة سردية ماتعة ومثيرة، مشهد “عجوز تبحث عن منفى الضياع والجوع والظمأ”.
وعليه فنحن في”احتضار الأحلام” إزاء نص قوي بأطروحته، قوي برؤياه، قوي بأسلوب معالجته. وهو من ثم نص يجمع بين الحرافة والعذوبة، بين قراءة تحولات الواقع والالتزام الفني. أي أنه بقدر ما يراهن على أن يكون مفيدا ينحت أدواته البانية كي يكون دالا كذلك.
ولئن كانت شعرنة اللغة وانثيال الصور وتوظيف المتخيل الشعبي والأسطوري وتقليب وجهات النظر ورصد تفاعلات الشخوص والأحداث والأفضية، والدفع بالمفارقات إلى منتهاها و…إلخ.. بعض من مزايا المبدعة حبيبة زوكَي في هذا النص فإنها، وكما سيلمس القارئ ذلك، ليست كل مزاياها وليست كل مزايا هذا النص الحابل بالهموم والأسئلة و….اللمسات الفنية الرشيقة.
وقد تصدرت الغلاف الخلفي كلمة للناقد والروائي الأردني أحمد أبو صبيح جاء فيها:
غزل الحكي لوحات خلفيتها الإنسان والوطن، ترتبط لوحاتها بخيط وطيف واحد، إنه ذلك الواقع والحلم لحياة قوامها النضال والتمسك بالأرض، كما أنَّ الكاتبة تدعو إلى نبذ الهجرة والاغتراب.
الكاتبة مسكونة بحب الوطن ومن خلال كتابتها تعكس نظرتها وتفاعلها مع ضجيج الحياة بمرارتها وقسوتها وعشقها ورأفتها، وكأن حبيبة تدور بعين الكاميرا لتمسح النماذج البشرية في مشهد الحياة الكبير. كما أنها تنويعات متباينة تدل على تجربة كاتبة تمتلك إحساساً مرهفاً إزاء القضايا الإنسانية، تعيش لحظات الانكسار والغد المشرق.
تغوص حبيبة كثيرا بالنفس البشرية، عبر لغة جميلة مكنتها من اختزال كثير من المواقف في بؤر عميقة تعتمد على التركيز وشدة الدلالة تاركة للقارئ متعة اكتشاف التصور وتوالد الأحداث بقدرة رائعة. والإنسان الذي يحتل مكانة واسعة في هذا العمل يمتد كامتداد العمل ويخترق الحدود والبحار والمحيطات ليصل بإنسانيته إلى جميع أصقاع الأرض.
وفي هذا الكتاب تطرح حبيبة إشكالات كثيرة وتعتبرها تحدّياً مطروحاً أمام الإنسان لتصل من خلال ذلك إلى أن الثابت في الحياة هو ما نستطيع استخلاصه من المحتوم المأسوي.