رواية “طيف الحلاج” لـ مقبول العلوي.. التماهي وتموج السرد 

طيف الحلاج
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي                  

     صدرت عن دار الساقي بلبنان سنة 2018 الطبعة الأولى من رواية “طيف الحلاج” للمبدع السعودي “مقبول العلوي”، وفازت الرواية بجائزة دولة الشارقة للرواية بمناسبة تنظيم معرض الشارقة الدولي للكتاب في شهر نوفمبر 2019.

     الرواية عبارة عن نص مثير، عمل المبدع السعودي على بنائه وفق خلطة متعددة الأصناف من التقنيات الموظفة عادة في كتابة الرواية، وفي كل مرة يوظف فيها تقنية جديدة كان الروائي يلج بواسطتها منعطفا جديدا، ويشيد بمكوناتها معطى مستحدثا له علاقة وتأثير في مجرى أحداث الرواية، وفي عناصر بنائها وتركيبها.

     على مستوى عتبة ولوج الرواية كسر الروائي قاعدة المقدمة المكرسة منذ القديم من طرف الجميع حتى أصبحت واحدة من علامات الأعمال الأدبية، وأصبحت المقدمات أساسا وموضوعا للبحث والتحليل والنقاش، نقول كسر الروائي قاعدة المقدمة وسماها بدلا من ذلك بالنهاية، مثيرا بذلك هنا العلاقة الجدلية بين البدايات الرصينة، والمقدمات العسيرة، والنهايات المفرحة ومقابلاتها الحزينة. والحال هو أن البداية صنو النهاية، فالعلاقة بينهما ليست علاقة جدلية فقط، بل هي علاقة وجود وانبثاق، من عمق البداية تتأصل النهاية، وعند الزاوية الهامشية المهملة للنهاية توجد بداية جديدة، وتنبثق عتبة أخرى، ومقدمة مغايرة. وهكذا أفلح المبدع في إطار تغيير هذه التقنية في تكسير أفق للانتظار طال تنميطه كثيرا من طرف المبدعين والنقاد على السواء، حتى أصبح علامة على نظام للكتابة والإبداع والتفكير لا يمكن لأحد أن يحيد عنه بسهولة ويسر. ثم إن استعمال المبدع للنهاية في البداية مرتبط بكون الرواية كلها نهاية، نهاية علاقة نوري إبراهيم مع فالح راشد، نهاية علاقة الإثنين مع حليمة، نهاية حلم نوري إبراهيم بشهادة الدكتوراه، نهاية إيمان نوري إبراهيم بالناس وبالصداقة وبالمروءة، وقد أفضت هذه النهاية الأخيرة بالسارد إلى الانخراط في حالة الحلاج، وهكذا تنامى الحكي بطريقة مضبوطة للوصول إلى تقمص شخصية الحلاج والتماهي معها، قصد الاختباء والاحتماء، والتعويض النفسي.

     أشار المبدع إلى مفهوم التغيير الذي يركز عليه السارد في النص الروائي، وهو يشكل ثابتا بنيويا في مجرى الرواية وأحداثها، وقد بينت معطيات الرواية أن هذا التغيير المنشود أصبح مفتوحا على عدة إمكانات، ويحضر التصوف في هذا الإطار بقوة وعنفوان، فقد وظف الروائي التصوف باعتباره عنصر تحويل، وتغيير، وتبديل، وهو ما برهن عليه عدة مرات وباستمرار عبر توظيف تقنية التكرار الحاضرة بغزارة في النص الروائي عن طريق الانسحاق في شخصية الحلاج، والتماهي المطلق مع حياته، ومنحنياته الشخصية والعلمية والفكرية، لقد شكل الحلاج في الرواية مبدأ أنطولوجيا وفقه تمت عملية تشييد معمار الرواية، لقد كان الحلاج بالمقاييس النقدية المختلفة الشخصية الأساسية والمحورية في الرواية، إذا نزعنا شخصية الحلاج من الرواية حتما سوف تنهار، ويتم نسف أسسها.

     لقد صدر المبدع روايته عن طريق التنويع في الضمائر، حيث اعتمد على ضمير المتكلم، وضمير الغائب، وضمير المخاطب، نوري إبراهيم مرة يوجه السرد بضمير المتكلم فيسوق حكيا خاصا بمساره في الحياة، ومرة يتحدث بضمير الغائب عن الشخصيات المساهمة معه في فضاء الرواية، ومرة ثالثة يوجه الخطاب إلى غيره كالحلاج، وأبي بكر الشبلي…  وهذا التغيير في الضمائر مكن الروائي من تكسير رتابة الحكي الخطي المتواصل، كما مكنه من بناء حكي يحمل باستمرار عناصر جديدة مفاجئة، فالرواية كتبت بطريقة التموج أو الموجات، يتقدم السرد على مستوى الزمان والمكان، ثم يعود إلى الوراء لكي يستدرك أحداثا ومعطيات لها أهمية في بناء معمار الرواية، موجة تنكسر، وأخرى تتراجع، والثالثة تقبل متحفزة، مستعدة للانتشار والتأثير. ثم لاحظنا تبادل الأدوار في السرد، حيث تنازل نوري إبراهيم عن دوره وسلمه إلى حليمة زوجته وابنة خالة فالح، لكي تسرد نموذج المرأة الفظة التي تتكفل بختان وتشكيك البنات، وقد كانت حليمة من ضحاياها حيث عملت المرأة على تشكيك وإغلاق    مكمنها مع إعادة ختانها مرة ثانية، وقد أجادت حليمة في هذا إذ ورد في الرواية وصف دقيق جدا لعملية ختان الصبايا وتشكيكهن مع التركيز على آلامهن الجسدية والنفسية التي تترك البنات أشلاء وحطاما، وتظل هذه الآلام دفينة، وموشومة في الذاكرة الحية.

     لقد ترك نوري إبراهيم لحليمة بضعة فصول لكي تحكي فيها كل الحكي الدفين، ثم عاد وتناول منها عملية السرد مرة أخرى، وفي الفصل الأخير الذي توقفت فيه حليمة عن السرد أشارت إلى أن نوري الذي كان وقتها زوجا لها بدأ يتحدث عن الحلاج باستمرار، في الحلم كما في اليقظة، وهنا يبدو الأمر وكأنه تمهيد لشروع نوري في الاشتغال على الحلاج. والمثير في هذا السياق هو لماذا تنازل السارد نوري عن السرد لحليمة؟ عدة أسباب يمكن أن تعن لنا في بيان أسباب هذا التنازل، ربما يكون نوري قد تعب من السرد وأراد أن يرتاح قليلا ثم يواصل خصوصا وأن السرد في الرواية سريع ومتعب، أو ربما يكون ” الزاد السردي ” الذي أمد به المبدع سارده قد نفذ أو أوشك ولهذا أوقف الروائي سارده ريثما يضبط معطياته من جديد، أو ربما يكون نوري اختار محطته للراحة من أجل الإعداد الجيد لمخطوطته عن الحلاج، والأرجح هو أن نوري لم يكن يتوفر على تصور مكتمل عن عملية ختان الصبايا وتشكيكهن، وبما أن الأمر كانت له علاقة بالعجز الجنسي لفالح الذي كان متزوجا من حليمة وله علاقة مأساوية بإزالة بكارتها ونزع تشكيكها فقد آثر نوري ترك سياق هذه التفاصيل الكثيرة لحليمة التي هي أدرى بشؤونها وشؤون الصبايا أمثالها.                     

     من المهم للغاية أن نؤكد بأن الروائي كان مبدعا موفقا في رسمه للشخصيات، لقد آثر المبدع في نحته لشخصيات روايته التروي والتريث، لقد اختار صيغة بناء الشخصيات عن طريق توظيف أدوات وتقنيات علم النفس، لقد كان يعمد إلى تقديم كل شخصية لنا عبر عتبات متعددة ومختلفة، بحيث كان كل مرة يفاجئنا بتوضيح علامة من علامات الشخصية ويقوم بإضافتها إلى السابقة حتى يصل إلى استكمال بناء جميع زوايا الشخصية المادية والمعنوية، وبذلك كان يستطيع الاستمرار في تكثيف السرد ومراكمته خدمة للنص الروائي في كليته. وكان الروائي منسجما مع اختياراته الإبداعية عندما قام بتدبير أهمية الشخصيات الروائية عبر تحديد المركزي منها والفرعي، رواية “طيف الحلاج” اعتمد فيها المبدع على كتلة من الشخصيات مثلثة الأضلاع ذات دور وحضور مركزيين، وأضاف إليها كتلة من الشخصيات متعددة الألوان والمشارب ذات حضور فرعي، وأحاط الروائي كل شخصية مركزية بشخصيات فرعية تقوم بإبراز وبيان وخدمة امتداداتها عبر ثنايا النص الروائي، لا يمكن اعتبار الشخصيات الفرعية هنا زائدة أو هامشية، ورغم أنها كانت أحيانا تتوارى في النص الروائي ويخفت صوتها بل ويستكين مرات أخرى، فإنها كانت تعود من جديد إلى الظهور من أجل إسناد دور الشخصيات المركزية،  لقد كان لها بصيغة أو بأخرى أثر واضح في تفعيل حجم وقيمة الشخصيات المركزية، هذه الأخيرة التي أثبتها المبدع وفق تقسيم ثلاثي واضح المعالم، الشخصية التاريخية المثيرة للجدل أبو عبد الله الحسين بن منصور الحلاج المتصوف الكبير الذي تم قتله والتنكيل بجثته في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله في القرن الرابع الهجري، ونوري إبراهيم الذي هو في نفس الوقت السارد الذي أسند إليه الروائي الإمساك بزمام الأمور فهو إذا سارد ومشارك في بناء أحداث الرواية، والدكتور فالح راشد المريض نفسيا والعاجز جنسيا والذي هو على قرابة بالدم والنسب مع نوري إبراهيم.

     مباشرة في إطار النهاية التي صدرت بها الرواية يتفاعل السارد نوري إبراهيم مع مجموعة من التقابلات التي تم اعتمادها أثناء بناء الرواية وتبدو في الصفحات الأولى وكأنها  عبارة عن عقد أو ميثاق سوف يكون جسرا متينا لتصدير الرواية، والتقابلات في عمقها عبارة عن عملية رسم خط الحياة المنكسر باستمرار، حيث يحضر العذاب في مقابل النعيم، والطمأنينة في مقابل القلق، والصحة في مقابل السقم….ثنائيات اعتمدها المبدع على لسان حال نوري إبراهيم ونجدها في الرواية منبثة بكثافة في كل زاوية وجانب، وقد وجد السارد ضالته في الحلاج من حيث توظيف لغة التصوف واعتمادها عن طريق استعارتها تاريخيا من زمنها ومجالها التداولي مثل الإيثار، والتضحية، والمحبة، والوجد، والشوق…وهي ليست كلمات فقط بل هي مصطلحات دالة تتجسد معانيها في تشخيص الحالات وبيان المآلات، وقد وضح نوري إبراهيم أدوات العمل الإبداعية هذه مباشرة عند تخطيطه لبيان النهاية الذي صدر به الروائي روايته، حيث استنادا إلى النهاية / العتبة نستنتج أنها من سرد نوري إبراهيم الذي اعتمد عليه المبدع في الانتقال إلى النهاية عبر العتبات، ثم طبق تقنية الفلاش باك لكي يسرد أحداث الرواية التي أصبحت في الترتيب مقدمة تسبقها النهاية، كأنها عبارة عن تعزية نفسية تطهيرية، ثم بعد ذلك نجد البداية، أي الانتقال من النهاية إلى البداية وهذه عبارة عن علاقة دائرية كانت نتيجة لعلاقة علية، حيث النهاية تفضي إلى البداية، ثم إلى النهاية…وهكذا في حلقة دائرية لا متناهية تغوص في مجال ميتافيزيقي متعال. إذ مباشرة مع ولوج اللبنة الأولى في الرواية يوظف المبدع على لسان سارده كلمة “أعرفهم…”، وهي من المعرفة والعرفان، والمعرفة تثير مشكل طرح الترتيب بين السابق واللاحق، وهؤلاء الذين يعرفهم نوري إبراهيم لن يكونوا سوى جميع شخصيات الرواية، بمعنى إنه يعلن منذ البداية عن جدارته بثقة الروائي فيه، فهو سوف يقود الجميع نحو بر الأمان، نحو بناء نص روائي جميل ومثير وله من القدرة الفنية الجمالية الكثير مما مكنه من انتزاع جائزة روائية جديرة بالتقدير والاحترام، هذه الشخصيات لها أسماء تعكس دلالات حقيقتها على مستوى الواقع الروائي، بمعنى تحقق وحصول التناسب بين الإسم والشخصية، فالسارد نوري إبراهيم من التنوير الذي هو تطور وتحول وتغيير، ومن النور الذي هو التصوف والعرفان، فبينهما علاقة قدرية مرسومة منذ الأزل، والدكتور فالح رشيد لا يفلح إلا في الدسائس والمؤامرات ولا يرشد إلا في السفه وإلحاق الأذى بالآخرين بحيث إن اسمه يستعفف من أفعاله وأقواله ونزواته، والحلاج يحلج الصوف كما يحلج الكلمات والأفكار والمعاني والمواعظ والمحبة، والمعيد الجديد الأستاذ راضي كان راضيا كل الرضى بما ينسجه الدكتور فالح في السر والعلن… إن هذه الدلالات التي تعكس حقيقة الشخصيات لها ارتباط واضح بالبناء الواعي الذي انخرط فيه الروائي، بحيث يعرف جيدا كيف يحرك خيوطه بعد ربطها وتجديلها ببعضها البعض.      

     لقد سعى الدكتور فالح راشد من خلال التأثير في كثير من منتسبي الجامعة إلى العمل على حرمان نوري إبراهيم من شهادة الدكتوراه، وحرمانه منها كان بسبب حقده وكرهه، وقد اعتبر نوري إبراهيم أن سحب شهادة الدكتوراه من طرف الأصدقاء وأبناء العائلة علامة على تدني هذه الشهادة أمام المعرفة الحقة التي تتجاوزها وهي التصوف، ومعرفة الحلاج، ومن هذا الجانب سوف يلج نوري إبراهيم إلى الرواية التاريخية حيث سوف يلجأ إلى كتابة مخطوطة الحلاج، وهي تقنية أخرى من تقنيات الكتابة الروائية، والسؤال هو لماذا اختار نوري إبراهيم الحلاج لكي يستلهمه روائيا؟ لقد كان السارد يتماهى مع الحلاج، لحظة الحلاج شبيهة بلحظة نوري إبراهيم مع أخذ التباعد التاريخي بعين الاعتبار، خصوم الحلاج اصطادوه بأخطائه، وأصدقاء نوري إبراهيم اصطادوه بأخطاء الحلاج، فأحس نوري وكأنه أصبح الحلاج، محققا بذلك الاندماج والذوبان التاريخي من خلال وعي زمني فيه نكوص ورجوع إلى الوراء، إلى الماضي من أجل البحث عن الحل والخلاص بعد حصول العداء المستحكم بين الدكتور فالح وأتباعه وبين نوري إبراهيم، وقد كان العزم معقودا من أجل إسقاط نوري الذي كان يتفوق بالمنطق والحجة القوية، ولكن الدكتور فالح كان تلميذا نجيبا لأعداء التنوير والفكر الحر المستندين إلى ادعاء الدين لكسب المناصب، ولذلك تميزوا بالاستبداد بالرأي، وممارسة المحاكمة الفكرية لنوري، والتسطيح، وتصفية الحسابات الضيقة، معيدين بأفعالهم وأقوالهم أساليب محاكم الرأي والتضييق والإقصاء، ويحيل هذا إلى ما يسمى بالأمن الفكري الجامعي، وسوسيولوجيا الجامعة هنا تمثيل “ميكرو” لكيان سياسي من حيث وجوب الحفاظ على استقراره الاجتماعي والفكري بجميع الوسائل المتاحة، والدكتور فالح رغم أنه من عائلة نوري فإنه يناصبه العداء، إذ من نفس الصلب يبرز التوتر والعداء والإقصاء والتناقض، وهو صراع في الحقيقة بين الحداثة والقدامة، بين المحافظة والتغيير، ولذلك فإن اختيار الحلاج كان له لدى السارد ما يبرره، حيث بالإضافة إلى كونه كائنا تاريخيا ماضويا مهما وبارزا ومأساويا، فإنه شخصية بعيدة عن عناصر الزيف التي يحياها نوري مع من يحيط به، ويعاصره، ويعايشه.   

لقد انفجر الصراع على أشده بين الدكتور فالح راشد وبين قريبه نوري إبراهيم بسبب الأنثى، بداية أيام الشباب والأهواء وخصوصا في مدينة لندن حيث كان يحلو للقريبين أن يفجرا طاقاتهما الرجولية، وانطلاقا من علاقاتهما مع بنات الليل في لندن انفتح جرح العجز الجنسي للدكتور فالح، في مقابل ثبوت الفحولة الراسخة لنوري. لقد انفجر الصراع بينهما وبلغ ذراه حيث يحب فالح استغلال البنات وتصويرهن في أوضاع مخلة، يرفض نوري ذلك فيتأجج الصراع ويستحكم وتترسب الأحقاد في النفوس. وكانت حليمة بنت خالة فالح هي الأنثى التي انصهرت في جسدها ونفسيتها كل علامات التنافس بين الندين، وعلامات الكره والحقد التي كان يكنها فالح لنوري. فبعد طلاق حليمة من فالح بسبب عجزه الجنسي ومرضه النفسي، تزوجها نوري، فلم يكن حظه بأحسن من سابقه حيث طلقها بسبب الصور المخلة الخليعة التي التقطها فالح لنوري مع بنات لندن ودسها لحليمة من أجل نسف حياتها مع زوجها، وهكذا يبدو جليا أن لا شيء يبدأ في الرواية لكي يثبت ويستمر، فكل ما يتم بناؤه وتشييده سرعان ما يصبح نهاية، ويبدأ في التلاشي والذوبان.

     لقد كان المبدع مناورا ماهرا في كتابة هذه الرواية، ومن هنا قيمتها، فكما أسلفنا أعلاه عمل المبدع على توظيف مجموعة من التقنيات في كتابة نصه، وكان يحسن تغيير هذه التقنيات على مستوى الكيف والنوع، ولذلك نلاحظ انتقاله المفاجئ من السرد الروائي العادي إلى السرد الروائي التاريخي، لقد اختار أن يضمن نصه الروائي مخطوطة خصصها للحلاج، وقد كتبها السارد بواسطة فصول بعناوين فرعية، عكس نص الرواية الذي لم يخصص له المبدع إلا أرقاما تفصل بين الفصول تم توزيعها حسب اللحظات التي اختارها السارد، وقد كتب نوري إبراهيم المخطوطة وهو يوجه فيها الخطاب إلى الحلاج مباشرة، ويعمد نوري في المخطوطة إلى إخبار الحلاج بأدق تفاصيل حياته، والخطى التي خطاها انطلاقا من مدينة الطور، والبيضاء، مرورا بواسط، وتستر، والبصرة، ومكة، ثم بغداد ثم… كما يفصل له الحديث عن أساتذته ودروسه وأسفاره، وقد كانت المخطوطة نتيجة لانخراط  نوري في عالم التصوف والروحانيات، وكأنه يعيش نوعا من الحلول، والتعالي، والاتصال بالعالم الماورائي حيث يسمع مناجاة الحلاج لربه. وقد بدت المخطوطة عبارة عن رحلة ذهنية اختلط فيها الحلم بالحقيقة بالهلوسات، عاشها نوري بتفاصيل دقيقة رواها بكل جزئياتها، وقد أوحت تقنية التفاصيل الدقيقة، والجزئيات الهامشية إلى توجيه الإحساس بكون المخطوطة وهي توجز حياة الحلاج تبعث في النفس نوعا من اللهاث والسرعة وهما يعدوان بالحلاج إلى نهايته المحتومة، وهذه هي المفارقة في المخطوطة، حيث في اللحظة التي يعتقد فيها السارد أنه بكتابة المخطوطة سوف يعمل على تبرئة الحلاج ودفع التهم عنه نراه لا يسقط إلا في متاهة الإسراع بإغراقه في أتون التعذيب والقتل والصلب وقطع الأطراف، ويرتبط هذا المعنى مباشرة بالجمع بين السردي التخييلي والتاريخي الفعلي، فالمخطوطة رغم كونها اعتمدت على التخييل من خلال إثارة الجمالي والفني إلا أن كثيرا من مكوناتها ظل أسيرا للحدث التاريخي، والأمر يعود للتداخل الذي حصل بين سيرة نوري وسيرة الحلاج، والتماهي الكبير الذي عاشه نوري مع سيرة الحلاج وحياته. ورغم صعوبة الترحال بين الزمن الماضي والحاضر في التوليف بين التخييلي والتاريخي فإن المبدع عبر سارده استطاع أن يحقق نوعا من النجاح في تمثل مفهوم تداخل الأزمنة، وامتزاجها، وهو ما أتاح له استلهام التاريخي في كتابة الرواية، بمعنى اختراق الزمن وتلاشي حوافه بين الماضي والحاضر، استحضار الزمن الماضي وتوقيف حركته عند عتبة معينة وتجميدها كما لو أن هذا الزمن لم يتحرك خطوة واحدة إلى الأمام، ثم التصرف فيه بواسطة تغيير زمنه بزمن جديد يحسن المبدع الإمساك به والتصرف في تدبير أحداثه وتبعاته، وهذا ما أراده نوري بالضبط، لقد استلهم التاريخي وحوله إلى سرد تخييلي من أجل تغيير منحنيات حياة الحلاج والوصول إلى إثبات براءته ورفع الظلم المسلط عليه من طرف مجايليه، ألم نقل أعلاه بأن نوري كان يرى بأن لحظة الحلاج هي نفسها لحظته هو؟ لقد اعتقد نوري بوثوقية قاطعة بأن براءة الحلاج هي مدخل أساسي لحصوله على التوازن النفسي الذي طالما افتقده، ومن ثم استرجاعه لحقوقه وفي مقدمتها حصوله على لقب الدكتوراه.      

     لقد كانت محنة الحلاج سببا في جعل نوري إبراهيم يصاب باليأس والإحباط من عصره الذي لم يتغير البتة في شيء عن الماضي، نفس الجمود والتكلس، لا حركة إلى الأمام، لا تغيير يذكر، فالرواية تكرس الحديث عن الحقد، والغيرة، والكره، والرغبة العارمة في الانتقام، وهي في نفس الوقت ويا للمفارقة تدعو إلى الانتصار للإنسان، ولقيم التعايش، والحضارة، والحداثة، والتغيير، والحركة.                   

                                            

 

 

 

مقالات من نفس القسم