رواية “ست أرواح تكفي للهو” .. وماهية الجنون

ست أرواح تكفي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.دينا عبد السلام

دعاء إبراهيم روائية وقاصة سكندرية صدر لها مجموعة قصصية بعنوان (نقوش حول جدارية) في العام 2013، ومتتالية قصصية بعنوان (جنازة ثانية لرجل وحيد) عام 2016، ورواية (لآدم سبع أرجل) عام 2017. ومنذ عملها الأول برزت موهبتها جليًّا، بالإضافة إلى أنها طبيبة تنضم لسلسة طويلة من الأدباء الأطباء، وهو الأمر الذي بات يمثِّل ظاهرة لافتة للنظر، نذكر على سبيل المثال لا الحصر “يوسف إدريس، ومحمد المنسي قنديل، ومحمد المخزنجي، ونوال السعداوي”، وفي الأدب العالمي”أنطون تشيكوف، ووليم كارلوس وليمز، وسومرست موم”.

في روايتها الجديدة “ست أرواح تكفي للهو” الصادرة مؤخرًا عن دار إيبيدي تتبع الرواية عددًا من  الأفكار والرؤى التي تتقافز وتتزاحم داخل عقل البطل، الذي لا نجد له اسمًا بين دفتي الكتاب، رغم أننا نغوص في أعماقه، ونعيش مع أفكاره على مدار الرواية، حيث يتم رصد جميع الأحداث بضمير المتكلم ومن داخل وعيه، حتى الأصوات الأخرى للشخصيات نسمعها من خلال وعيه هو. نراه في بداية الرواية يفر هربًا من جريمة قتل، فلقد قتل سعيدًا للتو، أو هكذا يعتقد، يحاول الاختباء من الجيران حتى لا يُفضح أمره. ونتعرف على سبب القتل تباعًا، فالسبب كما يقول أن سعيدًا كان يلاحقه، فاضطر لقتله. البطل يشعر دومًا بأن ثمة شخصًا يراقبه، وأن المخابرات تلاحقه وتجند من حوله ليتابعوا أخباره، فرفقاؤه في المدينة الجامعية تم تجنيدهم للوشاية به، حتى أمه تم تجنيدها من قِبل المخابرات لتنقل أخباره أولاً بأول.

يعترف لاحقًا أن سعيدًا لم يكن هو المقصود بل قطته، ولكن السكين استقر بجسد سعيد بدلاً من أن يستقر بجسد القطة. وعلى مدار الرواية، يتخيَّل البطل نفسه أشياءً عدة، فتارة يعتقد أنه المرآة المعلقة بحجرة النوم، والقادرة على رصد كل ما يدور حولها، وتارة يتخيَّل نفسه العصا التي يستخدمها العُمَّال لضرب المجانين في مصحة الأمراض العقلية، ويتماهى مع ظله حينًا، كما يتخيَّل أنه يضاجع زوجة سعيد الخائنة (أو ربما قطة على الرصيف، فيشتمه أهل الحي)، ثم يقتل قطط “كرستين” الجارة العجوز عن طريق رميها أي القطط من السطوح، أو هكذا يزعم، فتقتل”كريستين” نفسها إثر ذلك قفزًا من فوق السطوح.

تقرر كلٌ من أمه وزوجته إيداعه المستشفى، فلقد أصبح يُشكل خطرًا على كل من حوله. البطل إذن يُعتبر مضطربًا عقليًّا”، أو مختلاً عقليًّا، أو مجنونًا بمعاير المجتمع الذي يعيش به، فهو يرى ويسمع أشياء مختلفة، لديه وعي مغاير لوعي الآخرين، وهو ما تأكده الطبيبة للأهالي الذين يقسون على ذويهم، ويزجّون بهم إلى المستشفى للتخلص منهم: “تتحدث الطبيبة بكلمات قليلة مع الأهل، وأحيانًا ما تزعق بهم حين يفيض بها الكيل في إفهامهم طبيعة المرض، وأن المريض ينكر مرضه، فكيمياء مخه بها عطب، تعطي لهم مثالاً توضيحيًّا: حيث تسأل أحد أفراد الأسرة: – لو قلت لك أنك مش في المستشفى وأن المكان ده مش موجود غير في عقلك هتصدقني وتكدب اللي أنت شايفه بعينك؟!” (156). تتعجب الطبيبة ذاتها أيضًا من رغبة والدته في التخلص منه سريعًا وإيداعه المستشفى (خاصة وأنه لا مكان لديهم لاستقباله بالمستشفى)، كما تتعجب من رد فعل جيرانه الذين لم يعودوا قادرين على تحمله، حيث يدور الحديث التالي بين الطبيبة ووالدته:

– بس أنا معنديش أماكن للحجز النهاردة، بكرة الصبح في حالات أكيد هتخرج، ممكن تروحي دلوقتي بيه وتيجي الصبح بدري، بإذن الله حدخله.

– ما ينفعش يرجع، هيقتلوه!

– يعني أيه حيقتلوه؟! هما متخلفين؟! أستغفر الله العظيم، وبعدين هو إحنا عايشين فين؟!

رغم طيبة الطبيبة البادية، وتفهمها لاختلاف طبيعة تلك الحالات، فإنها على رأس المنظومة التي تبدأ في التنكيل بهذه الحالات، فهي جزء لا يتجزأ من المنظومة التي ترى أن هؤلاء الأشخاص “مرضى”، وأن أدمغتهم بها “عطب” على حد تعبيرها، فكونه “مختلفًا” أو “مغايرًا” بالنسبة لها يجعله “مريضًا”، نراها بعد ذلك تعطي الأوامر بحقن الحالات بـ”نيورال”، وحين تهدأ الحالات، يتم إدخالهم في النسق الطبي الروتيني: يصطفون في طوابير لأخذ جرعات الدواء، يتم فتح أفواههم جبرًا للتأكد من أنهم قد بلعوا الدواء، وإذا رفض أحدهم الامتثال للأوامر، يوسعه العُمال ضربًا بعصيهم الثقيلة، وهو ما حدث مع البطل حين رفض أخذ الدواء في يومه الأول بالمستشفى:

  • أنا مش عيان عشان أخد دوا!

العصا التي على حافة الأرض هبطت على ظهري في ضربات قوية متسارعة، جعلتني أسقط وأتكوم وأنا أسعل، ويسيل مني لعاب ممخط ببعض الدماء، وبينما أنا كومة تحاول استكشاف ما (171) يحدث، وجدت فمي يُفتح وتُقذف فيه الحبات الثلاث وخلفها قطرات ماء. (172).

الغرض من ذلك الدواء كما يقول لنا البطل هو أن يتحوّل عقله إلى “ورقة بيضاء بلا أي شخبطة” (172) وهو التعبير الذي استُخدم مرتين في الرواية ذاتها، المرة الأولى كانت حين وجد وجوه المرضى عند وصوله المستشفى “ورقة بيضاء لم يخطط بها أحد، ما أسوأ هذا البياض! هذا العدم الذي يبدو وجودًا، الوجود الذي لا يصنع أية شخبطة، هل سأصير أبله مثلهم مع الوقت؟! (163).

ومن أهم مقومات ذلك النظام الطبي متابعة تلك الحالات في عنابرها عن كثب من قِبل الممرضات، فغرف الممرضات التي يوجد بها باب وشباك تجعل الحالات “تحت المراقبة المستمرة” (171). حين يتم إيداع البطل ب(عنبر (أ) رجال)، يخضع لذلك النظام الصارم، الذي يعتمد القسوة والضرب، فالجنون خطر داهم في المجتمعات العقلانية، فهو يمثل الآخر المرعب، الضد الذي يجب أن تتم مواراته في المستشفيات العقلية والمصحات.

في كتابه “الجنون والحضارة” رصد “ميشيل فوكو” تاريخ الجنون بدءًا من العصور الوسطى، فبنهاية العصور الوسطى، كان مرض “الجزام” قد اختفى من العالم الغربي، وهو الأمر الذي استدعى أن يحل محله بديل آخر، إذ لم يكن ممكنًا ترك ذلك النسق شاغرًا في المخيلة الجمعية، وكان لا بد للنفي والإقصاء أن يُمارسا ضد أشخاص جدد. لذا لاحت في أفق عصر النهضة (سفينة المجانين) أو التي يطلق عليها أيضًا (سفينة الحمقى)، تلك السفينة التي يوُضع بها المجانين ليتم التخلص منهم إقصاؤهم، إلا أن ذلك الإقصاء لم يكن نهائيًّا، فتلك السفن كانت تعود بين الحين والآخر لترسو على الشواطئ فيرى الناس حمولتها من المجانين، وظلت تلك السفن تروح وتجيء، وترسو على شواطئ مختلفة، ومن ثم ظل للمجانين وجود مرئي حتى بعد إقصائهم، فصاروا يمثلون الغائب الحاضر الذي لم تمحَ صورته كليةً من الوجود. وظل للمجانين في الأدب والفنون وضعٌ خاصٌ، إذ غالبًا ما كان يُنظر لهم على أن لهم قدرات خاصة، وبصيرة قد يفتقدها من يعتبرهم المجتمع “عقلاء”، فمسرحيات”شكسبير” على سبيل المثال، تعج بالمهرجين (ومن ضمن ترجمات كلمة fool الأبله، فمضحك الملك هو ذلك الأبله الذي يأتي بحركات تثير الضحك، ويقول كلامًا هزليًا، إلا أن كلامه ينطوي على قدر كبير من الحكمة، ورجاحة العقل، واستشراف المستقبل). لكن وبدءًا من منتصف القرن السابع عشر، وعلى مدار القرن الثامن عشر، بدأ احتجاز المجانين في مؤسسات خاصة بذلك، انتشرت في أرجاء أوروبا، لتحل محل مستعمرات “الجزام” التي صارت خاوية، ففي “عصر العقلانية” كما يطلق عليه، أعتُبر الجنون مضاد العقل، وكان لا بد من نفي وإقصاء المجانين تمامًا. فلقد تم ترسيخ وإعلاء قيمة العمل، بسبب المصالح الاقتصادية البازغة، وأصبحت السلطات تخشى أن يرى المواطنون المجانين يتسكعون من دون عمل، وصارت تعد ذلك تحريضًا للآخرين على عدم الانضباط، ضمت أيضًا تلك المؤسسات الصعاليك، والغانيات، والمتشردين، إلى جانب المجانين، وانتشرت تلك المؤسسات في أنحاء أوروبا، وكانت تعتمد على العقاب لتهذيب سلوك هؤلاء المحبوسين. وشهدت نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، نشأة المصحة العقلية، وظهور مصطلح “المرض العقلي”، حيث تم عزل المجانين وحدهم، وبدأ إخضاعهم للعلاج الطبي. ويرى”فوك” أن ذلك العلاج لم يكن أرحم من وسائل العقاب التي كانت متبعة من قبل، بل اعتمد أيضًا على العقاب والتهديد لردع المجانين، ويرى أن ذلك العصر شهد الشقاق بين الجنون والعقل، فلم يعد هناك حوار مفتوح بين الاثنين، بل أصبح الطب النفسي والتحليل النفسي لا يمثلان سوى “مونولوج العقل عن الجنون”. وما فعله “فيليب بينل ووليم تيوك” لم يكن سوى تمهيدٍ ل”فرويد” الذي أسس للسلطوية المطلقة للطبيب النفسي، وللقدسية التي أحاطت بتشخيصه، وينهي “فوكو” كتابه بأمثلة لمفكرين وأدباء وفنانين، مثل “نيتشه، وفان جوخ وأنتونين أرتو”، والذين كان يُنظر لهم من قِبل الكثيرين على أنهم مجانين، رغم أن أعمالهم أصبحت مرجعيات للإنسانية.

وفي الرواية نرى الكثير من ملاحظات “فوكو” تتجسد أمامنا، فالمرضى يخضعون لنظام طبي صارم لا يرى فيهم سوى مجانين، والعقاب والعصي التي تنهال عليهم هي وسائل تأديب لكل من يفكر في الرفض والثورة، ويدور هذا الحوار بين البطل والطبيبة النفسية:

  • واشمعنا أنت بس اللي مختلف عن اللي حوليك؟! ما سألتش نفسك أنت ليه مش زي الناس؟! ليه أنت غريب ومختلف؟! ليه ما تكونش زي الناس؟!

نظرت إلى ساعتها، علمت أن وقتي انتهى، وأنها تود الانصراف. قلت وهي تهم بالتحرك:

  • في ناس قليلة مش شبه حد، مش شرط يبقوا مجانين!

ابتسمت بسخرية وهي تترك العنبر:

  • وبرده كان مخهم بيدوب وبيتفلسفوا مش كده؟! (181).

الطبيبة إذن ليس لديها وقت لسماع كلامه، فبالنسبة لها كل ما يقوله ترهات، وقاموسها الطبي الجامد الذي لا يرى فيه سوى “مريض” يعاني من “عطب بالمخ” لا يسمح لها باستيعاب كلامه واختلافه. وفي موضع آخر من الرواية، يقول البطل: “أنا صاحب معجزة ينكرها البشر، أملك شيئًا غير تقليدي، وهم اعتادوا كل ما هو تقليدي، الحكايات التقليدية، الآراء التقليدية، الحياة التقليدية، كل ما هو غريب يصيبهم بخيبة واضحة، يهز كل ما هو تقليدي بداخلهم، فلم يجدوا غير طريق واحد للخلاص، لوقف الصراع الذي ينفعل داخل صدورهم، لا بد من التخلص من كل ما هو غريب ورجمه حتى الموت!” (الرواية 229).

ونجد أيضًا في الرواية بقايا للإرث الذي كان يقر بأن للمجانين قدرات مختلفة، وهو ما نجده متداولاً في الثقافة اليومية بمقولات مثل: “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”، فنرى في الرواية أن أهل المجنون يرونه “بتاع ربنا”، و”بتاع ربنا ليس له إلا الله”، فهو عار في الدنيا وخير في الآخرة” (157). ولأن الأنساق الجامدة المبنية على فكرة الثنائيات: العقل والجنون، الذكر والأنثى، الصحة والمرض، النهار والليل، لا تحتمل وجودهم وما يمثلونه من اختلاف، فلقد تم إقصاؤهم، وإعلاء الطرف الأول من تلك الثنائيات على حساب الطرف الثاني، فأصبح العاقل خير من المجنون، والذكر خير من الأنثى… إلخ، وتم بناء كل الأنساق الفكرية والاجتماعية والاقتصادية على ذلك الأساس.

لقد وجد “جاك دريدا”، أحد أعمدة “المذهب التفكيكي”، أن ثنائية (العقل والجنون) القائمة على كونهما أضدادًا يمكن تفكيكها بسهولة بالغة، فحتى أكثر الناس عقلانية (كما يُطلق عليهم) تنتابهم نوبات من الجنون بأشكال مختلفة. ويدلل “دريدا” على صحة نظريته من كتاب (تأملات في الفلسفة الأولى) لـ”رينيه ديكارت”، ولذلك دلالة بالغة، فـ”ديكارت” هو رائد “المذهب العقلاني”، ومقولته “أنا أفكر، إذن أنا موجود” أصبحت من ثوابت العقلانية، واستخدام كتابه لإثبات أن الفاصل بين العقل والجنون واهٍ للغاية، لهو ضربة قاضية للعقلانية. فـ”ديكارت” يرى في كتابه أن الأحلام تشبه الجنون إلى حدٍ بعيد، فكلاهما وهمي ومخطئ ومُربك للعقل بحسب “ديكارت”، لأنهما يغيران أوضاع الأشياء الطبيعية، وعلاقاتها، فتصبح تلك الأحلام مثل خيال الفنانين الجامح الذي يعبث بمواضع الأشياء وعلاقاتها، ومن ثم يستنتج “دريد”، بناءً على نظرية “ديكارت”، أن الإنسان حين يحلم يكون أكثر جنونًا من المجنون ذاته.

يستطيع الإنسان أن يطير لبلاد أخرى، أو يتحدث مع أشخاص ليس ثمة علاقة بينه وبينهم، أو يأتي بأفعال خارقة للطبيعة في شطط خياله أو في أحلامه، ولقد حدث ذلك سابقًا في الأساطير والمعجزات والرؤى. الحدود الفاصلة إذن بين العقل والجنون واهية ومائعة، تتلاشى بين الحين والآخر، نعيش جميعًا لحظات الجنون، نشارك فيها، نراها في تراثنا ومعتقداتنا، ومع ذلك لا نحتمل من نطلق عليهم “المجانين”. والأغرب أن الحضارات التي قامات على أسس العقلانية سببت الكثير من الخراب والدمار والحروب والقتل، ولكننا مازلنا لا نقر بأن العقل أكثر جنونًا من الجنون ذاته.

في بحث نُشر لي في العام 2016 باللغة الإنجليزية في Journal of Literature and Art Studies رصدت جنون كلٍ من شخصية “أوديسيوس وهاملت”، “أوديسيوس” هو ذلك الشخص الذكي الذي استطاع أن يجعل اليونانيين ينتصرون على أهل طروادة بعد أن فشلوا في اختراقها لمدة عشرة أعوام، بأن اقترح عليهم بناء حصان خشبي كبير يتم تقديمه باعتباره هديةً من قِبل اليونانيين الذين تظاهروا بالانسحاب لخداع أهل طروادة، واكتملت أركان خطته بنجاح، إذ فتحت المدينة الحصينة أسوارها لإدخال الحصان، فخرج الجنود اليونانيون ليلاً من قلب الحصان وفتحوا أبواب المدينة أمام الجيش اليوناني، الذي استطاع أن يسحق المدينة الحصينة، وهو ما حدث بحسب الأساطير وبملحمة الإلياذة والأوديسة. نجد أن “أوديسيوس”، المعروف بذكائه وحكمته، قرر، قبل بدء الحرب بين اليونان وطروادة، أن يجنح للجنون أو يصطنعه ليتم إعفاؤه من المشاركة في الحرب، لأن أحد العرَّافين أخبره أنه سيقضي عشرين عامًا بعيدًا عن بيته إذا ما شارك في تلك  الحرب. وكذاك قرر “هاملت”، ذلك الشخص الذكي الواعي المتعلم في جامعة “ويتنبرج” في ألمانيا، قرر أن يصطنع الجنون حتى لا يعرف من حوله ما يدور بعقله ليكتشف قاتل أبيه الحقيقي. نجد أن تلك الشخصيات الذكية والماكرة استطاعت أن تصطنع الجنون، وتستدعي حالته بمهارة بالغة جعلت من حولهما يعتقدون أنهما فقدا عقليهما، فهل كان الجنون كامنٍا بداخلهما، مما جعل استدعاءه سهلاً يسيرًا؟ وهل الجنون جزء لا يتجزأ من النفس البشرية ولكننا نقوم بمواراته؟

كون الكاتبة طبيبة يثير في النفس تساؤلاً عن موقفها الشخصي من الجنون والسلطة الطبية ومؤسسات العلاج النفسي التي لا بد وأن لها خبرة بها بسبب طبيعة عملها. لا نلحظ ثمة إدانة لتلك المؤسسات وممارساتها على لسان الكاتبة، ولكن كيف لها أن تفعل؟ فالرواية مكتوبة من وجه نظر ذلك البطل الذي لا اسم له، كما أن المصطلحات التي وردت في الرواية واصفة الجنون على أنه “مرض” و”عطب” وردت على لسان طبيبة مستشفى الأمراض النفسية، وليس على لسان الكاتبة. على أن حبكة الرواية لم تقلب موازين المعادلة وتزلزل كيان المؤسسة الطبية السلطوي بشكل قوي مثل رواية “طار فوق عش المجانين” لكن كاسي، ولم تُظهر مثلاً أن جنون البطل مرادفٌ للعبقرية، أو أن اختلافه ينم عن موهبة لا يستوعبها من حوله، أو كرامة لا يراها الآخرون، فالكاتب يشكل بناية روايته كما يشاء، نافخًا فيها من روحه وقناعاته وثورته. اختارت الكاتبة لحبكتها أن ترصد الحياة من داخل عقل البطل الذي يراه الآخرون مجنونًا، لنرى شططه، وتهيؤاته، وقسوة من حوله وعدم فهمهم إياه. ويحسب للكاتبة أنها أسندت البطولة لشخصية مهمشة، ومنفية لا صوت لها، لنعايش وعيها وخيالاتها كما نسجتها.

 البطل ليس له اسم، تسأله الجنية العارية عن اسمه فيجيبها “هتفرق؟!” (207)، يبدو أنه أدرك أن وجوده لا يُشكِّل فارقًا، فلا هوية له ولا شخصية، هو مجرد مجنون ليس أكثر، لم يعد يُمثِّل سوى رقم جديد بـ(عنبر أ رجال) بالمصحة العقلية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أستاذ نقد أدبي مساعد بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية، مخرجة ومنتجة مستقلة وكاتبة.
نُشر بجريدة القاهرة ديسمبر 2019

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي art 14
Uncategorized
موقع الكتابة

انتحار