رواية الغائب: عين على الاغتراب وشاعرية اللغة

رواية الغائب: عين على الاغتراب وشاعرية اللغة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسامة علام

تطالعك رواية الغائب للروائى التونسى المقيم بكندا أنيس بن عمار و المنشورة بدار المصرى بالقاهرة بوجه يوحى بالألفة من صفحاتها الأولى. ألفة يحيك الكاتب خيوطها مع القارئ بسلاسة وود. و كأنه صديق شخصى حميم عاد ليحكى لك قصته. مستفيدا من قدرته على السرد الممتع و مخزون تجربة حياتية غنى و مدهش. فأنيس بن عمار مهاجر الى الغرب منذ مايقرب العشرين عاما. هجرة بدأت مع سن الثامنة عشر. ذلك العمر الذى تستطيع الحياة فيه انبات أجمل ما فينا. وبعد تجربة شعرية ملفته فى المهجر يُصدر عمله الروائى " الغائب". رواية يقف بها الكاتب على الحد السحرى الفاصل  بين الشعر و السرد. مذكرا بتجربة سردية مماثلة فى شاعريتها و هى رواية الجزائرى مالك حداد الفاتنة " ليس فى رصيف الأزهار من يجيب".

ربما الاغتراب هو البطل الأهم للرواية. بداية باغتراب بطلى العمل أشرف و أمير فى بلدهم الأم. وطن يقبع على الضفة العربية للمتوسط بلا تحديد. هناك حيث الفقر هو الصديق الأقرب. وحلم الهرب الى اوربا بشكل غير شرعى هو الحلم الشرعى الأوحد. لتكون قوارب الموت هى طوق النجاة الوحيد. ورغم تكرر التجارب الابداعية للكتابة عن الموضوع. فالغائب تعيد تكوين لوحة بازل تجربة الهجرة الغير شرعية الى أوربا بطريقة ألفريد هتشكوك فى صياغة الحدث. لتبدأ الرواية باخبارك ان البطل و صديقه يعيشان فعلا فى مونتريال الكندية. و بالتالى فالكاتب يعقد صفقه مع القارئ من الفصل الأول بأن ازاحة فعل المفاجأة ستكون فى مصلحة الاستمتاع برسم الشخصيات و الأحداث و الأماكن. ليسرد بطل الرواية أمير حكايته على خيط مشدود و متوتر. عابرا منحنيات حياة المهاجر الغير شرعى الذى يجيد الكاتب ادخالك الى تفاصيل عوالمها. عوالم لاتبتعد كثيرا عن مرادفات للاحساس بالاغتراب. كالحنين الى الماضى و القلق و البحث الدائم عن الشعور بالأمان. لتنعكس عنها حلول خاصة جدا تفرضها عوالم الحياة كمطارد فى بلد أوربى كأسبانيا. فتصبح السرقة مهنة. و العاهرة حبيبة. و العلاقة بالأم ورقة يتم قذفها فى صندوق البريد.

وسط هذا الشعور بالاغتراب و الذى تذوب فيه كل شخصيات الرواية، يقع القارئ فى فخ حب أبطال العمل و التعاطف معهم. و كأن حياة برشلونة قد قهرت الجميع. فانكسرت قوقعة تكبرهم البشرى. ليظهر جوهر انسانى هش، صادم و مخجل. ليصاحبك القلق على مصائر أبطال الرواية. وتقبل ان تسامحهم على كل جرائمهم الانسانية متمنيا نجاتهم دوما. و كأنك ترى ضعفك الشخصى كقارئ انعكاسا لروح أبطال الرواية، أمير الهارب من قسوة الاب و المتيم بحب أمه المقهورة، أشرف الشقى و العقلانى و العارف بحدود عالم طموحه، كلارا الأسبانية الباحثة عن رجل و حب و مؤانسة للروح و الجسد، عيسى الصومالى الحالم و المحب و صاحب المكتوب فى الشقاء كبلاده وحتى سانتو الأسبانى، الكاره لدونيته و الباحث عن انتقام من نفسه و من المجتمع.

وكما أن الاغتراب هو المحرك الاهم لكل ابطال العمل. فتبدو اللغة دائما هى عطر هذه الرواية الخفى. لغة تستطيع أن تذهب بك بعيدا فى رسم الاماكن و الشخصيات. لتصنع رابطا بين اللغة السينمائية القادرة على رسم عوالم بصرية ثلاثية الأبعاد. و بين لغة شاعرية حميمة و مربكة. تلك اللغة التى استطاع أن يضع بها الكاتب قصة حب خاصة جدا بين عيسى الصومالى و راكبة  المترو الأسبانية. لتأخذك هذه القصة من عوالم القلق و الخوف على أبطال الرواية وتمنياتك لهم بالنجاة لأنهم مساكين و طيبون رغم كل شئ. الى عوالم شديدة الشاعرية. لتذوب حدود الذكورى و الأنثوى، الأفريقى و الأوربى، الغنى و الفقير، المهاجر اللاشرعى و بنت البلد المستقرة، فى انفتاح بديع للمشاعر الانسانية  ببراءة مدهشة.

تحمل رواية الغائب رسالة ابداعية ممتعة. تستطيع ان تهب القارئ الاستمتاع و المعلوماتية المنشودة عن تجربة ربما تداعب خيال الكثيرين. عمل يحمل بناءا دراميا متماسكا و قادرا على الادهاش. ربما يجدر الاشارة أيضا الى أن الكاتب لم يستخدم حقه فى قص زوائد كتابية كان يمكن الاستغناء عنها. زوائد كانت فى ميزان اللغة الممتعة على حساب سرعة وقع الاحداث أحيانا. ليبقى أن العمل فى مجمله عمل مدهش و يستحق القراءة ويسمح أيضا بالدخول الى عوالم كاتب محترف أدهشنى أن تكون هذه الرواية عمله الأول.

 

 

مقالات من نفس القسم