رفات طه حسين

طه حسين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. أحمد يوسف

نسينا طه حسين المفكر والرائد والمجدد الجسور. نسيناه كما نسينا أمثاله ممن أنعم الله بهم على بلادنا في القرن التاسع عشر وانبعثوا كطائر الفينيق من الرماد والنار لينيروا الظلام، ويبددوا الأوهام ويضعونا أمام حقائق لا مفر منها في عالم العلم والفن والفكر. فلا تقدم إلا بالعلم، ولا رقي إلا بالفكر، ولا ذوق راق إلا بالفن. أنقذوا الغريق من ظلمات العصور الوسطى، ومتاهات الفكر المتخلف، ورجعية الفن، واستعباد البشر للبشر. ولم نبق لأنفسنا من نور طه حسين إلا آثار صامتة في متحفه للعظة والاعتبار يقوم عليها أناس استمرأوا اجترار الكسل اليومي وعادة الذهاب والإياب من الوظيفة. وحين نسترد شيئا من الوعي، يكون وعيا منقوصا معيبا لأنه ظني سمعي ونستحضر طه حسين المارق، الخائن العميل المدعي الكذوب لنرسخ صورة ذهنية مغلوطة عن هذه الأنوار في عقول أجيال لا تقرأ، ولا تسمع، ولا تتذوق.

وحين نسينا طه حسين، أحضرته إلينا مصلحة الطرق والكباري والمحاور والأنفاق التي ضاقت بها القاهرة بما رحبت، ولم تر بدا من هدم مقبرة طه حسين وأسرته الزيات وزير خارجية مصر وقت حرب أكتوبر، وزوجته أمينة ابنة طه حسين. ورأت أن تتخلص هي من رفات طه حسين في أرض مصر، كما تخلصنا قبل ذلك من أنوار طه حسين، وجعلنا بيننا وبينها أمدا بعيد. فهل يأتي علينا وقت قريب لنرى فرنسا تطلب من مصر رفات طه حسين لتزهو به ولنضع رؤوسنا في الوحل، ونتوجها بالخزي والعار.

أليس عجيبا أن يحتفي طه حسين في سفارة الباكستان برمزها محمد إقبال بعد وفاته(1877-1938) ويؤكد في الكلمة التي ألقاها أن إقبال آمن وحلم وعمل، ومات ليبقى حلمه مجسدا في قيام دولة الباكستان، ونلقي به إلى المجهول؟ يقول طه حسين:

“ولكني أعيد النظر في تاريخ حياة إقبال القصيرة العريضة، لأدرك مصدر امتياز هذا الرجل، الذي لم يملك، في حياته، من مظاهر السلطان شيئًا، والذي لم يزل يسيطر، منذ وفاته، على الملايين بسلطان خفي متجدد متزايد. ولكنني وقد دعيت للتشرف بالحديث إليكم، عُدت إلى حياة إقبال فخيل إليّ أنه يبين لي ولكم امتيازه، وأردت أن أتحدث إليكم في هذا الجانب من جوانب حياته.

لقد كان إقبال من المؤمنين

لقد كان إقبال من الحالمين

وكان إقبال من العاملين

 

والمؤمنون الحالمون العاملون هم الذين يغيرون وجه التاريخ، هم الذين يضطرون الدنيا إلى التوقف أمام سيرتهم والاحتفال بهم كل عام، بل في كل آن. إن عدم الرضا عن الدنيا والتطلع إلى دنيا كاملة، دعا بعض الصوفية إلى كراهية الحياة واعتزالها كل الاعتزال، ولكن تصوف إقبال تصوف إيجابي فعال، إذا رأى الدنيا فلم تعجبه، فعليه أن يريد وأن يعمل على تغييرها إلى ما يرضيه. وهنا سر امتياز محمد إقبال، سر احتفالنا به عامًا بعد عام. إن محمد إقبال قد شارك في حلم الحالمين بإنشاء الباكستان، وقد مات ولم يرها، وأتم العاملون عملهم فأُنشئت بعد وفاته بعشرة أعوام. إن محمد إقبال دعا إلى مُثل عليا يسيطر فيها الخير على الشر، والعدل على الظلم، والمحبة على الكراهية والبغضاء، ورأى ذلك كله حقيقة لابد أن تنبثق من الأرض كما تنبثق البذرة مهما حجبها الطين.

إن محمد إقبال قد شارك في حلم الحالمين بإنشاء الباكستان، وقد مات ولم يرها، وأتم العاملون عملهم فأُنشئت بعد وفاته بعشرة أعوام. إن محمد إقبال دعا إلى مُثل عليا يسيطر فيها الخير على الشر، والعدل على الظلم، والمحبة على الكراهية والبغضاء، ورأى ذلك كله حقيقة لابد أن تنبثق من الأرض كما تنبثق البذرة مهما حجبها الطين.

وسر امتياز إقبال، وسر احتفالنا بذكرى إقبال، هو أن طريق هذا العمل لا يزال يدعو كل ثائر على الشر، متمرد على الظلم يضطرم ضميره بجنون النشوء والنماء.

فهو يتنبأ بأن صوته الشاعري سيأتي غدًا، أي سيردده غيره من الذين يقبلون دعوته ويرفعون صوته ويرددون نداءه. امتياز إقبال إذن فيما أراه: إيمان انتصر به على كل حيرة وشك. وحلم رأى به طريق الخير والارتقاء يكاد يلمسه ويكاد يريه الخليقة رأي العين. وعمل جاد لا يمتد إلى طيلة الحياة الإنسانية فقط، بل يعلم صاحبه أنه سيحتاج إلى أعمار أخرى غير عمره حتى يتم.

ما أرى خلق الباكستان كان بمثابة غاياته، وإنما هي وسيلته إلى إيجاد البيئة الصالحة لخلق المؤمن الخيّر الصالح. ما أرى خلق الباكستان كان آخر المراحل، بل كان أولها.

وإنما أردت أن أُحيي هذا الحالم العظيم، وهذا المؤمن الصامد، والعامل والإمام في طريق العاملين والمجاهدين. هذا الذي خرج من الدنيا في لاهور لا يملك شيئًا، وهو اليوم يملك هذا المُلك العظيم، يملك أفئدتنا ومشاعرنا، ويملك فيما نرجو إخلاصنا للمُثل التي بشر بها، وطلب أن نعمل لها وبها مؤمنين مخلصين.”

لقد كان طه حسين مؤمنا وحالما وعاملا. وكان سر امتيازه أنه لم يرض بما كانت عليه مصر، فعمل مع العاملين، وناضل مع المناضلين، ونال من أذى الجهل والشر ما نال. والفرق بين حال طه حسين وحال إقبال، أن أهل إقبال شادوا فوق ما شاد، وسعوا بالباكستان إلى أبعد مما كان يسعى، ورضينا بالقعود عما سعى إليه طه حسين، ثم رضينا بالدنية أن نزيل رفاته من مرقدها. فأين اتحاد الكتاب؟ وأين وزارة الثقافة؟ وأين جامعة القاهرة؟ وأين صوت رئيس مجمع اللغة العربية الذي شاد أركانه طه حسين؟ وأين صوت اتحاد المجامع العربية التي كان طه حسين مؤسسا لها وأول رؤسائها؟ أين كل ذلك مما يحدث لرفات طه حسين؟ وأختم قولي بما ختم به طه حسين كلمته عن إقبال” وإنما أردت أن أُحيي هذا الحالم العظيم، وهذا المؤمن الصامد، والعامل والإمام في طريق العاملين والمجاهدين. هذا الذي خرج من الدنيا في لاهور لا يملك شيئًا، وهو اليوم يملك هذا المُلك العظيم، يملك أفئدتنا ومشاعرنا، ويملك فيما نرجو إخلاصنا للمُثل التي بشر بها، وطلب أن نعمل لها وبها مؤمنين مخلصين.”فطوبى لهؤلاء.

………………………….

*الناقد الأدبي والأستاذ بآداب الزقازيق

* الشروق 2/9/2022

 

 

                                      

مقالات من نفس القسم