رسالة إلى غادة

رسالة إلى غادة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

هل تذكرين وقت أن كنا برفقة الأصدقاء الذين فاجأتهم معرفتي بغادة، وصداقتي لها، حين ارتبكَ الناس على المقهى بفعل المطر، بينما كنتِ تشجعيننا على البقاء أسفله.. وأنت التي كنتِ مصابةً البرد ..؟!

فاتنا وقتها أنكِ سحابة كبيرة .. وأن المطر قُبَل سحابةٍ أخرى -هي أختكِ التي في البعيد- على خدك هذا الأحمر، كيف لم نفهم الأمر، وأنت تمتلكين عينين فاضحتي الخضار، وقلبًا، هو فطيرة طازجة كبيرة محلاة بالسكر ..!

لعلّي قلتُ لكِ إنني أشعر بفراغ كبير عندما تغادرين القاهرة، بالرغم من أني لا أعيش فيها، ولا ألازمكِ، كل ما نتبادله هو الرسائل، حيث تستوي الأمور: أرسلتِ لي من القاهرة أو من غيرها،  أشعر أن مكانا ما من العالم يضئ، بينما تدخل القاهرة الحزينة إلى نفق بكائها المخيف بغيابك .. لا شك أنه شعور مدغدغ مثل طعم النعناع اليانع في أكواب الشاي .. شعور بالمعية .. كنتُ في القاهرة أو في الجنوب فأنا دائما في معية  الحسين، وغادة، والسيدة، و ابن الفارض، والمقطم ذي الكفوف القطيفة، معية الحاج حسن بأسوان، والقنائي بقنا .. وياقوت العرش والمرسي، والحبيب الشاذلي الضارب في جذور الرمل .. علاقتي بالأحباب في الدلتا محدودة .. لكنها المعية على أية حال ..

حينما تغيبين بعد جلسة نجلسها على المقهى .. أظل أتابعكِ  بعدما أتأكد أنكِ لن تنظري إلى الخلف .. أتابعكِ وأنتِ تبعدين وتبعدين .. وضوح الألوان والملامح يتخافت .. أتابعكِ وأنت تتحولين إلى قطعة نور حقيقية، تسير بين الناس و الشوارع والتفاصيل الكثيرة .. تسيرين كما يسير النسغ من قاع الجذور إلى سكّر الفواكه واحمرار خدودها ..

الدعوة التي دعاها الفلاح الطيب وهو ساجد على أكف أرضه المحروثة لتوّها .. المُجرّحة لتوّها أيضا، هذه الدعوة الجميلة بنماء الزرع وحلاوة الثمار، لم تصعد برفقة أخواتها الدعوات إلى السماء البعيدة .. بل سرت إلى الأرض، حيث لامست منذ خروج روحها إلى الطين الجذورَ العميقة، مضيئةً كبلورة وحيدة، تستكشف العالم .. الجذور على اختلافها تصب في الجذع، والجذع، على وحدته، يصب في الفروع والأوراق، و الأوراق، على خفتها، وضعفها، تطعم الثمار في أفواهها، تماما كما تفعل يمامة عجوز مع أفراخها الصغار، في إحدى الثمرات المدهشة تستقر غادة .. في شارع أحمد عرابي تحديدا .. بيت وحيد .. يا لروعة هذا البيت .. بيت وحيد يحوي غادة .. جسد وحيد يحوي قلب غادة .. غادة وحيدة تحوي كل غادة .. ليس هذا غبطة يا صديقتي.. إنه حزن .. مثلك جدير بأن يتوزّع في الناس .. كما تتوزّع روح الشجرة التي كتبتِ عنها، تلك التي صارت رمادًا بعدما نال منها الحطّاب .. رمادًا أضاءَ مئات الزرعات، ومئات الأشياء فضيّة الأغاني والنهنهة ..!

لن أحدّثك عن وقوف بنت مثلك إلى جوار رجل صديق، في أتعس لحظات حياته .. أو عن مكوث رجل مثلي في جوف صبّارة لا يسمع هناك إلا صوتك، لقد كنتُ في جوفِ الصبّارة يا غادة، لا فقط عند حدود طعمها المر، أو شوكها اللاسع ..!

مواجهة الخوف والفزع والمرارة كان أمرا عظيما .. بحاجة إلى تدريب طويل .. وأسلحة مسنونة .. لكنكِ اختصرتِ لي كل  هذا في رسائل بسيطة على الإنبوكس .. اطلب من الله أن يحضنك يا صديق .. اطلب منه أن يطبطب عليك .. الله ليس رومانسيا لهذه الدرجة يا غادة،  إنه مهيب و فخيم للغاية، وأنا على محبتي له أخشى وأخجل من أن أطلب منه هذا، تماما كما أخجل أن أعانق أبي إذا احتجت عناقَه فجأة  .. بالعكس أنت لم تعرفه بعد .. الله على استعداد دائم لاحتضانك والطبطبة عليك .. سأفعل .. انتبهي .. أنا في قلب الصبارة الآن .. الله .. حلو هذا .. لابد أن قلبها رخو وطيب وليس مرًّا كما نتوقع .. إما أن ترتدي حذاءً ليس على مقاسكَ يا ضوي؛ فتسير بقدم دامية وموجوعة .. أو أن تعيش حافيا خفيفا ومبسوطا .. لكن عليك ساعتها أن تتوقع الشوك والزجاج الذي سيتسرب إلى باطن قدمك فجأة وبدون مقدمات ..

غادة تريد أن تصعد إلى الرصيف أمام مبنى الجامعة الأمريكية .. وهي تقول لو أن ميلان كونديرا لديه حكايتان من حكاياتك عن الجن والكنوز لصنع رواية عالمية .. أمدّ يدي لمساعدتها في النهوض إلى الرصيف العالي .. ارتطام النجمات وبريق السكّر في ابتسامة فسيحة بدفء بيوتنا الطينية في الصعيد البعيد .. غادة التي كنت أتابع صورها على الفيس بوك وأحكي عنها،  وعن جمال كتابتها للأصدقاء، تصافحني الآن، وتسمح لي أن أساعدها في الصعود نجمتين باتجاه الرصيف ..!

لم أحكِ لكِ من قبل طبعا عن العصافير التي كانت تسكن أسفل جذع النخل، في سقف بيتنا القديم .. كنت ليل نهار أتابعها وهي تذهب وتعود .. وإذا زارنا عمي ألححتُ عليه في أن يحضر سلمه، ويصعد ليأتي لي بالعصفور ألاعبه .. حتى ركّبنا مروحةً للسقفِ .. خافت العصافير .. ولم تعد تأتي .. يا غادة التي تعرف كل شئ  .. لو لقيتكِ العصافير .. قولي لها تعود .. أنا لن أفعلها ثانية .. هل تعرفين تسكن هذه العصافير الآن؟!

 أنا متأكد يا غادة أن “سانتا كلوز” حقيقة، وأنه كان يزور الأطفال فعلا قبل أن يصير أسطورة لها أوردة وأصابع .. طبعا قلتُ لكِ إنني حلمت الكريسماس الماضي أن أشتري زيّه لأظهر لأحدهم به، فأحقق له أمنية أو آتيه بهدية .. أنتِ كنتِ هذا الأحد الذي فكّرت في أن أفعل هذا معه في يوم من الأيام ..

 متأكد أيضا أنكِ مؤهلة أكثر مني ومن أي أحد لأن تصيري “سناتا كلوزة” تزورين البنات والأولاد في أحلامهم ويقظتهم لتبشريهم بأشياء جميلة .. كما يفعل الأولياء والقديسون .. ستأتينني ذات ليلة وتقولين: ماذا تتمنى؟ فأقول: كل شئ جميل، تقولين سأخبرك بما تتمنى وأحضره لك مسافة أن تصنع لي كوب القرفة باللبن، هيا أيها الصغير الذي لم يعد صغيرا ..

الأبراج يا غادة .. من شيّد الأبراج؟ إنها تقف فارهةً في مساحات شاسعة من أرواحنا ..! يستطيع زائرها أن يرانا على هذا الاتساع من الوضوح والنصاعة ..! قرأت عن “الحَمَل” فكأنه أنا .. ولم أكلّف نفسي قبل أيام فاتت أن أسألكِ عن برجك، هل لأني أجلس كطفل لاهٍ على بحيرة روحكِ، في الوقت الذي يخاف فيه الآخرون الاقترابَ من بحيرات أرواحهم، أو حتى التلويح لها من بعيد ..؟

أنا لست بحاجة لبرجٍ أراكِ من خلاله، الأبراج في النهاية، وسيلة لاقتحام الأحبة، أو مقاربة الأعداء، وأنا ليس لديّ ما أخافه منكِ، هل سيأتي الوقت الذي تضعين فيه نقطة، وتغيبين عن الضوي، كم أخاف هذا يا غادة، لكني أفكّر في الأمر بصورة أخرى، أراني دائما هذا الطفل الذي علقت ملوحة البحيرة بقدميه من أثر الطرطشة، وألفه سمكها الحاني، ودغدغته شمسها الحارقة، فإذا هو غادر فقد كسا الملحُ جلدَه، وعتَّقَ جراحَهُ ضد الاتساعِ والعطب، بينما لن تفارق سطحَ البحيرةِ ضرباتُ يديه وقدميه الطفولية الطائشة .. إذا رحلتِ يا غادة ..ففي روحي منكِ الكثير .. وفي روحكِ -ولو سلبًا- من روحي قدرٌ لا بأس به .. أطمئن عليه كل فترة .. كلما فكرت في الزرقة، والملوحة، والسمك الملوّن، والطحالب الوردية ..الرحيمة ..

 

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار