تركتني إجابة الحكيم الغامضة بلا حيلة، خرجت من خيمته لأعود إلى خيمتنا واجمة، الطريق غير طويلة، رغم ذلك وجدت أحد رجال القافلة، وكان يماثل أبي في السن، يلحقني بحصانه بحرص ودون أن يثير أي غبار، ينظر إلي بتودد مريب مقزز، مندهشا من سيري بلا ناقة، يسألني بصوت غريب، وباستفاضة عن حقيقة رجوعي حافية، عن سيري في الصحراء وحيدة بلا رفيق وبلا خف، عن القيظ وصقيع الليل، مظهراً تألما زائفاً ومواساة كاذبة لأهوال الصحراء التي لابد وأنني لاقيت حتى عودتي، وكيف أنه يراني أجدر بخيرات القافلة الوافرة، وبالهودج النسائي المبخر الأحمرالحرير المطعم بالأحجار الكريمة من إبنة الحكيم المتواضعة الأنوثة متلاصقة الأسنان.
كأن نظراته تتفرسني، تتفرس إنفلاج أسناني الأمامية بشبق، وتلتهم بشهية حيوان جائعِ ما ظهر من وجهي وقدماي، حتى أصابعي المتورمة، ثم أخذ يحتال بالخوف علي من مخاطر عودتي قبيل الغروب وحدي ليعرض علي مرافقتي في الطريق.
رددت بتعجب: لقد قطعت الصحراء وحدي وبلا ناقة، أأخاف إذاً وقد عدت لقبيلتي وقافلتي، يا عماه!!
ضحك بلا داعٍ ليواري انكشافه، فشعرت باشمئزازٍ لا مزيد عليه، ثم تعللت بحملي الذي عدت به والمتروك عند والدتي ورفعت ثوبي قليلا لأسرع في الإبتعاد عنه، ظللت طوال الطريق ذاهلة مع ذلك، فالرجل في العادة بادِ الوقار، هادئ، يسير في مقدمة الموكب مع كبار الرجال، ولم يحادثني من قبل قط بغير أن يناديني يا ابنتي، فما الذي جد؟
سارت مقابلة الحكيم على غير ما قدرت، لم أجد عنده علاجا، لا لجروح قدماي ولا لقروح جلدي وروحي، لا ردّ شافِ كامل، ولا وصفة لتسكين الألم الحاد النصل الذي يمزقني.
الحقيقة أن الحكيم لم ينظر إلي قط بعدما سألني أن أقص عليه حكايتي، قال أن أبي أرسل يخبره بالأمس عن عودتي وحالي ويطلب إعادتي للقافلة كأني لم أنفصل، ثم ظل صامتا يخط بشيء ما في يده على الرمل وأنا أتحدث، هازاً رأسه ببطء حتى شككت أنه يسمعني، ظل صامتاً بلا إجابة واحدة قاطعة، نصحني بأن أفصل خفاً جديدا ً وأن أشرب ماءً نقياً، ثم دعا لأبي!
ذاهلة وصلت الخيمة .
كانت أمي تطعم الماشية، أو تتعلل بإطعامها أمام الخيمة في انتظاري، منذ عودتي وهي تبكي، تنظر إلي وتتساءل عما يدور بين نسوة القافلة حول ابنتها ممزقة الخف.
أمي الحلوة الصافية، إبنة القافلة الأصيلة.
أمي الهادئة التي أورثتني صوتها العذب الرقراق وعلمتني كل الأغنيات.
أمي التي كانت تردد عليّ الأغنيات مرة ومرة ومرة بلا كلل حتى أحفظها، مؤكدة أن الأناشيد أفضل رفيقٍ للسير وأحلى ونيس بالليل.
أمي التي ستصرح في غدٍ غير بعيد أثناء حديثٍ بيننا أنها كانت تفضل موتي على رؤيتي أعود إلى قافلتنا حافية كالغجريات وغانيات القوافل.
بمجرد أن دلفت إلى الخيمة سألتني عن لقائي بالحكيم، أخبرتها بأنه قال لي ألا مسرة في الطريق غير أنه واثق تماماً بأنني سأصل النفق.
ينطق وجهها بألف كلمة.
النفق ؟؟ استعادتني بذهول.
ما الذي سيجعلك تردينه يا أبنتي؟
كيف لي أن أعرف؟
أجبتها بنفاذ صبر.
أنا لم أطلب منه سوى عودتي للمسير كما أمرني أبي. ثم هبي أنه لم يوافق، فماذا أنا فاعلة يا أمي، هل كنتم ستتركونني في الصحراء وتمضون؟ أم ماذا؟
أًذًكّرُكِ أن نسيتي أنني لم أنفصل يوما عن قافلتنا رغم رفضي الذي تعلمين عن تجنبنا الدائم غير المفهوم للنفق. سليه هو إذا، لو كانت عندي اجابات ما ذهبت له…
غصصت بغضبي وأشتدت آلام قدماي فدخلت أستجدي نوماً عصياً لا يأتِ.
بلغني أن الحكيم في اجتماع القافلة الأسبوعي، ذكر حكايتي دون اسمي دلالة على حكمة الرب وقدرته في حفظ أبنائه الطيبين المخلصين القانعين حتى وإن ضاعوا في الصحارى، فعلم الجميع أنه يقصدني دون مواربة.
لم أحضر الاجتماع يومها، وستمر أعوام طويلة قبل أن تصبح تلك الاجتماعات ذكرى حلوة زكية الرائحة لا مكان لي بها.
بعد الإجتماع أتاني أبي ليساعدني في ترتيب أمتعتي وإطعام ناقتي إستعداداً للمغادرة، أخبرني باقتضاب وقهر أن الحكيم قد قَبل عودتي بشرط أن أقص شعري ولا أظهر إنفلاج أسناني أمام أي أحد.
ماذا؟ لِم؟
صرخت بجنون.
ما علاقة عودتي بطول شعري؟ كيف يؤثر شعري على الحكيم ومسير القافلة؟ ولماذا لم يخبرني هو بذلك؟ ما الجديد في شعري؟ وكيف سأخفي أسناني؟ هل أكسرها؟ لماذا يريدني أن أخفي إنفلاجها الآن؟ ألم يكن جمالها نعمة تستحق الشكر؟ كيف أخفيها خبرني؟ هل أخيط شفتاي كيلا أعكرصفو مزاج القافلة وحكيمها الجبان الهارب، ألا يعلم أنني أعرف لماذا نتجنب النفق،، ألم يخبرني بنفسه أنني قد أصله، ألا يعلم أنني بعدما عبرت الصحراء لأعود وحدي أقدر أن أعبرها مرات ومرات دون رعايته البغيضة و مسار القافلة المحدد الخالي من المعنى؟
ذلك الحكيم المشرد مجهول النسب يريدني أن أقص شعري،لا حاجة لي بكم ولا به، ماذا يا أمي. انطقي، لم أنتِ صامتة هكذا؟
لن أكف عن الغناء، أغني بالليل وحدي، لم أكف؟
ماحاجته في إخفاء أسناني و إخراس صوتي ؟
و لن أقص شعري .
اتركوني هنا، اتركوني
لن أمتثل،لن أمتثل و إن قرصني ألف ثعبان.
لن أقص شعري.
لا مجال للجدال،قال أبيبهدوء مميت،ثم أشار لأمي، قصي لها شعرها.
أما عن فمك فلا ينفتح إلا للشرب، كلي بالليل بعد إناخة النوق ولا تغني، هكذا لا ير أسنانك أحد.
دموعي تنهمر كالسيل. تمسك امرأة عمي بيداي، وسكين تعمل في شعري بيد أمي لتقص شعري قبل طلوع الفجر ومعاودة المسير..
اقرأ أيضاً: