ربنا جدع

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد إبراهيم قنديل

 

        ساعةٌ وأنا واقف، لم يفتحْ لي ولا ردَّ عليّ، ربما تركَ غرفتَهُ وخرجَ لينثرَ حبوبَ القمحِ لأسرابِ الطيورِ وتأخَّر، أعرفُ أنَّ لهُ بيوتًاً أخرى أحدُها في السماء، ربما يشغلُهُ شيءٌ هناك، هو كالهواءِ يحيطُ بالناس جميعاً، ويسمعُ الذين ينادونه في السِّرِّ والعلن، لا ينشغلُ بأحدٍ عن أحد ولا تعجزهُ أصواتُ الداعين ولغاتُهم على اختلافِها وكثرتِها، رأيتُهُ دائمًاً أبيضَ الوجهِ ذا لحيةٍ ممشطةٍ يلبسُ رداءً طويلاً ويغطي رأسَهُ بعمامةٍ حمراء ملفوف عليها شالٌ أبيض كالشيخِ الغريب الذي خطبَ الجمعةَ منذُ فترة، خرَجَ مِن هذا البابِ (باب الله) المجاور للمنبر، وكان يقول في الخطبةِ دائماً  "يا حبيبي يا رب" ويدعو اللهَ أنْ يرزقَهُ زيارةً بيتِهِ الحرام، البيت الحرام هو بيت الله الآخَر في مكة، جدتي أيضاً تدعو اللهَ أنْ يرزقها زيارتَه، كان الشيخُ يقول يا حبيبي يا رب فعلمْتُ أنهما صديقان، ومِن حديثِه عن نفسِه التي أغضَبَت اللهَ فهمتُ أنهما متخاصِمان.

لكننا لسنا متخاصمَين، فلماذا لا تستمعُ إليَّ يا رب؟

دخلَ وقتُ المغربِ وها أنا واقفٌ يعصفُ الخوفُ برأسي، وتنهشُني الظنون، لا أدري هل يحولُ بيني وبينهُ بابٌ مغلقٌ أم غياب، أحبُّ أنْ تكونَ الأولى دائمًا، فالأبوابُ المغلقَةُ مصيرُها تنفتحْ أمَّا الغيابُ فهُوَّةٌ ليس لها آخِر، هو لم يرجعْ إلى بيتِهِ كما يفعلُ الجميع إذَن، نظرتُ إلى البابِ المغلَقِ ثائرًاً ومنكسرًاً "أنا مخاصمك" الدموعُ تجمعَتْ في عيني وتسارعَت أنفاسي حين تذكرْتُ ما سيحدثُ لي في البيت، ألم يكن باستطاعتِهِ أنْ يخرجَ لي؟ أو يُلقي إليَّ بالمالِ الذي فقدتُه؟ هو يعلمُ أنني أحتاجهُ الآنَ وأحتاجُ أنْ يجدَ المالَ الذي وقعَ، كانَ أبي حازمًاً يشيرُ بسبابتِهِ التي تشبهُ طاقيتَهُ الطويلةَ:

" موتك والخمسين جنيه، تعطيهم لجدك شاهين أو أحد من أولاده .. إياك أنْ تضيِّعَها وإلا قطعتُ دابرَك "

الآنَ سينقطعُ دابري ودابرُ أهلي كلَّهم، فلماذا لا تستمعُ إليَّ يا رب ؟!

أنتَ تعرفُ أني طيبٌ ومؤدب وأحبكَ كثيراً، لم أغضِبْكَ أو أغضبْ أمي منذ سرقْتُ الجنيهاتِ الخمسة مِن البوك وأكلتُ بها بسبوسة و غزل البنات لم آكُلْ وحدي وعزمتُ علَى بقيةِ العيالِ معي، وحين رجعتُ إلى البيتِ سألَتْني عنها وأنكرتُها، لم تصدقْني ولسَعَتْني بالسكين الساخن، ثم ربطَتْ يدي وأخبرتْني أنكَ تكرهُ السارقين والكذابين، ولم أسرقْ شيئاً بعدَها، أمَّا الكذِب فأنتَ تعلمُ أنَّني لا أكذبُ في شيءٍ مهم، فَشْرٌ يَفوتُ ولا أحدَ يموتْ، وإنْ كان الفشرُ يغضبُكَ فالسَعْني بالسكين ولكنْ أعِدْ إليَّ المال.

 أمي لنْ تُصَدِّقَني إذا قلتُ وقعَ مِنِّي، تُكَذِّبُني من قبلِ أنْ أنطق، وتطاردُني في الشوارع كما تطاردُ الديكَ الشارد، يدُها ثقيلةٌ وصوتُها حيَّاني يبلغُ آخِرَ العزبة، ستكونُ فضيحةً وعلقة يشمتُ فيها أخواتي وأبناءُ عمي، لأجلِ خاطري لا تنَكِّدْ عليْنا في ليلةِ بيعِ المحصول، أريدُ أنْ أحصلَ على مبلغٍ مُعتَبَر، ستأخُذُ كلُّ أرشانةٍ من أخواتي خمسةَ جنيهاتٍ غيرَ ما تعطيهنَّ أمي من تحت لتحت، ملعون أبو السربعة، أعطاني أبي المالَ فأحكمتُ قبضتي عليهِ وركضْتُ حتى كاد رباطُ الحذاءِ يكفأُني على وجهي، ربطتُه وأطلقتُ ساقي، حين أجري لا يسبقُني أحد ولا أبو سريع نفسُه، توقفتُ أمامَ المصرفِ ألتقطُ أنفاسي وفتحتُ قبضتي الفارغة، لطمتُ وعدتُ متتبعًا مواضعَ قدمي، أنبشُ الأرضَ بعيني ككلبٍ يتشممُها، فلم أجدْ إلا خيبتي الثقيلة ووقعتي السوداء يا رب.

فتحَ الشيخُ شعبان قرآنَ المغرب، الجوعُ ينهشُ مصاريني والخوفُ ينهشُني كُلِّي، وبيني وبينَكَ وعدٌ من رجلٍ لرجُل، لنْ أشتمَ أحدًا بعد اليوم، لن أسرقَ من جوافةِ أبو الغيط ثانيةً، لنْ أتلصصَ على البنت صفية حامد، وربِّنا وربِّنا مرةً أخرى لن آكُلَ الكبدة من على النار إلا بإذنِ أمي..

ـ أنتَ هنا يا بن الكلب يا مسطول؟ أعطيكَ المالَ فتنساهُ على الكنبة وأنتَ تربطُ حذاءَك؟ أينَ كنتَ طوالَ النهار؟

ـ كو..كو.. كنتُ خائفًا منك، ظننتُها ضاعت.

لأولِ مرةٍ يمسحُ رأسي ويضمُّني إلى جنبِه، ندخلُ لِنُصَلِّي فلا أجدُكَ لأشكرَك

فشكرًا يا رب، أنتَ جدع وعشرة على عشرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 قاص مصري

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون