عمرو البحيري
كنا ثلاثة، ثلاثة رفاق، ثلاث طرق، ثلاثة مصائر متقاطعة، مريم وبشير وأنا، كنتُ أدري هويتهما، لكنّي لم يعرفني أحد أبدًا.
باغتني ذات مرة حلم، وحدث أن وجدتني بين أشجار رمان عالية وكثيفة ومدلاة كأنها في حالة نوم عميق، ويرهف إلى روحي صيحات تبدو لبنات صغيرات، عذراوات وجميلات، وعلى إثرها استيقظت إحدى أشجار الرمان، وسقطت رمانة أمامي، وعندما فتحتها خرجت منها فتاة جميلة، احتضنتها وأسميتها مريم، وسافرت بها خارج الحلم.
كنت ألهو مرة أمام المرآة، أتلبس شخصيات وأمثلها، وانتابتني في إحدى المرات رجفة شديدة، فإحدى هذه الشخصيات لم تترك المرآة، بل ظلت ثابتة وقفزت منها، ومع الوقت اعتدت وجوده، نذهب معا في كل مكان، حتى ظن الجميع أننا أشقاء، كما عرّفته بمريم وصرنا معًا، وهذه هي حكاية بشير.
استمرت حياتنا السرية أعوامًا وراء أعوام، ومع هذا كنت أخفي عنهم حقيقتي، فما أنا سوى دمية وهبني صاحبها روحه محبة منه، ولم أستطيع العيش إلا ّ بعد موته، فقد كان يعيش دون روح، والآن سأقسم روحي على ثلاثتنا، ثلاثة رفاق، ثلاثة أحباء، وروح واحدة.
يمر الزمن سريعًا، كنا نشعر أننا خارجه، أو على الأقل على هامشه، كبرنا وكبرت معانا أسرارنا، تعددت علاقتنا، كنت أحمل الحقيقة داخلي، أشعر بأن هذا السر سيكشف.
في الأسابيع القليلة الماضية، بدأ جسد مريم يزداد احمرارًا، كانت رائحة الرمان تغمر بيتنا كله، ليس البيت فقط بل أي مكان تذهب إليه مريم، كانت مندهشة، لا تفهم ماذا يحدث. وذات يوم وجدنا أمام البيت، عشرات الناس، عجائز وشبابا وصبايا وأطفالا، يدعون لنا، ينادون مريم، يترجون مباركتها لتحل مشاكلهم، وكانت كل لمسة منها تترك جزء من رائحتها النفاذة على رأس المبارَك، وسط استغراب بشير وخوفي الشديد.
الغريب في الأمر حقًا، أن هذه المباركة أدت إلى نتيجة بالفعل، فقد أصبحت مريم، في كل مكان، قديسة هذا الزمن والجميع يجلّها.
كنت أقطع الأيام تفكيرًا لا يهدأ، أخاف مما قد يحدث، وفي هذه الأثناء، دخل عليّ بشير، أخبرني بمفاجأة مذهلة، لقد أعطى له مخرج شهير دور بطولة في فيلم سينمائي، ذهب بشير إلى تجربة أداء لدور صغير، لكن المخرج أعجب به ورأى فيه موهبة كبيرة، وقرر أنه سيكون بطل الفيلم.
لم تتوقف مسيرة مريم المباركة، اعتزلت كل شيء، باتت تعيش في عزلة، والجميع يتبرّك بها، كانت أمًا حقيقية، كنت ألجأ إليها، وأجد في محرابها راحة كبيرة، راحة تصاحبها حيرة واسعة، كان يزيد حب الناس لها كل يوم.
توهجَ بشير، صاغ نجوميته بأداء لا يشبه أحد، كل من يعمل في السينما انبهر به، زرته مرة في موقع تصوير، كان يتمتع بموهبة حقيقية، الجميع هنا يشعر بهذه الموهبة.
شعرت مريم بما يموج داخلي، كان شعور التيه والفشل يحاوطني، احتضنتني مريم، جعلتني أنام على رجلها، وأخذت تملس على رأسي، وتدعو لي بالهداية، انزعجت من الفكرة، دفعتها بعيدًا وجريت.
وصل أعداء بشير إلى مريم، وربطوا نجاحه الكبير بأفعال مريم، بل تجاوزوا إلى احتمالية أن بينهما علاقة جنسية، وتحولت القداسة إلى شعوذة وفجور، ونجومية بشير إلى شر وفساد، انحسرت الأدوار عن بشير، عاش أيامًا شاقة، كان ينظر في عيني، وأهرب منه، يعرف أنني من أخبرت أعداءه، لكنه لا يستطيع مواجهتي، ينظر إلي نظرة احتياج، كأنه يقول لماذا، لماذا كل ما يحدث، كل هذا التعب والمعاناة.
كانت موجة الهجوم باطشة، بيتنا يُلقى بالحجارة، هدموا محراب مريم، وأحرقوه، كنا مكتوفي الأيدي بشير وأنا، عندما حرقوا المحراب، سقط بشير جانبي مغشيًا عليه، الجميع يدور حول المحراب المحروق، يهللون في عنف، فقد تخلصوا أخيرًا من الكاذبة، وفي وسط كل هذا خمدت النيران، كان عصير الرمان ينبثق من المحراب، وغمرنا جميعًا، أخذت الناس القارعة، صعدت مريم من ركام محرابها، تحتضن جسدها، تحلق إلى السماء، وبشير يموت بين يدي.
شعرت ُ أنني وحش، دون أي مشاعر، لزمت البيت، وكأن من حينها روحي تسحب مني بالتدريج، وفي يوم دخل المنزل غرباء، جرت ناحيتي طفلة، طلبت من أبيها أن تأخذني، وعندما خرجت بي الطفلة، غمرت الدنيا رائحة الرمان.
……………..
*كاتب ومخرج مصري