أدركت أن للأشياء بقايا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 3
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود نجيب

في ملحمة الخجل من إبداء الرأي فزت بالمركز الأول..وفي ملحمة البعد قبل التعلق حصلت علي ميدالية ذهبية..وفي هذا النص أنا أكتب..لأخسر.

هذا المكان مٌحزن ويبدو أنهم قد تركوا لنا فى كل يوم من أيام السنة دماء بشكل مرعب.. نجحوا تماما فى ذلك..فى كل مرة تنظر فيها إلى النتيجة لترى تاريخ اليوم أوالغد..ستتذكر أن بهذا اليوم راح ضحايا إثر حادث أليم..هذه الأيام مخيفة بالفعل.

هناك لحظات صمت وذهول تتملكنى فى كل مرة بعد رؤية مشاهد الجثث..غالبا سوف أفقد النطق تماما فى مرة بعد رؤيتى لأحدها.

في السادسة كان هناك خياران: سبيستون قناة شباب المستقبل..أو أبى وهو يشاهد العراق وفلسطين ويخبرنى عن سوء الاحتلال مع مشاهد الأمهات التى تترك بيوتها وشباب المقاومة وهم يموتون..صورة محمد الدرة فى ذهنى إلى الآن..إعدام صدام حسين فى عيد الأضحى..كل ذلك كان كفيلا لأتحيز للخيار الأول وتفضيلى لكونان وكوكب السرعة..هذه الدماء بعيدة عنى ولكنها كانت كافية لكى أقول آمين بعد سماعى كلمة فلسطين أو غزة فى كل صلاة..وأذهب إلى المدرسة حتى أرسم شمسا وعَلما وانتصارا فى حرب أكتوبر.

أما عن هذا المكان فهو لم يفشل قط فى مفاجأتى..أول حدث أعيه هٌنا كان “عبّارة السلام”..طفل بالعاشرة كان مصدوما تماما: من غرق أناس فى طريقهم إلى بيت الله الحرام.

ثم فيما بعد، رأيت مشاهد تعذيب خالد سعيد، كان منظرا مرعباً صبى مثلى قضى حياته خائفا من لعبة “الشلوت الطاير” يحمد الله على أنه لم يصب بتروما بعد انتهائه من الفيديو.

بالخامسة عشر كانت أحداث الثورة، لم أكن كبيرا بما يكفى لأبدى آراء فلسفية وسياسية ومنطقية بلغة سليمة خالية من الاخطاء..ولكن كنت كبيرا بما يكفى لأدرك أن هذه ثورة للحرية والعدالة الاجتماعية والتخلص من أشكال الظلم والاستبداد..بيئة الأسرة مثقفة تنشئ فتى مثلى على ماتعنيه هذه الأحداث بكل حرص..أخى الأكبر يفوقنى بثماني سنوات، أخى الأوسط أكبر منى بخمس سنين، يخبرانى أنها سيقفان فى لجان شعبية لحمايتنا من البلطجية..وأنا أمام التلفاز متأهب ومٌتحمس وخائف فى نفس الوقت..ماذا يحدث ؟ هل ذهب الظلم ؟ ماهذه السهولة ؟ العالم هنا جيد ورائع وحينما أكبر سوف تكون الأشياء على مايرام مثل ألمانيا وأمريكا.

الحرب العالمية الثانية..دول العالم الثالث..حروب الجيل الرابع..الطابور الخامس..أدركت كل هذه الكلمات فيما بعد..ويبدو أن هناك أشياء أصعب من فيزياء أولى ثانوى بالفعل..يبدو أننى فى ورطة وهذا العالم فى شر مستمر.

أحداث ماسبيرو..ميدان التحرير..محمد محمود..كنيسة القديسين..مذبحة بورسعيد..و….

يبدو أن كل كلمة أقرأها فى الأخبار تٌسفر عن موتى.

كل ما أتذكره وأستطيع تمييزه بكل سهولة هو كلمة سقوط شهيد ولكن يصعب بعدها أن تخمن المكان والزمان..فهذه احتمالات لاحصر لها..أين سقط؟ هل سقط فى ثورة يناير ؟هل سقط فى استاد ؟ أم فى قطار ؟ أم شهيدا فى سيناء ؟ هل سقط فى جامع ؟ أم فى كنيسة ؟ أم فى حريق ؟ أم فى إنفجار ؟هل سقط غرقا ؟ أم قٌتل غدرا ؟

كل ذلك كان يصيبنى بالحزن والصمت معا.

شاب فى التاسعة عشر يتوقع سماع خبر الموت فى أى مكان وفى أى زمان دون انبهار..يقول أحمد خالد توفيق ما أهون الموت حين يكون خبراً فى مجلة أو سطراً فى حكم محكمة.

كل ذلك لم يصادف أن أكن جزءا منه كضحية فارقت الحياة..ولكنى كنت على معرفة تامة به..كثرت تنقلاتى وأنا بالثانية والعشرين من عمرى الآن..ولكن ماذا تبقى ليحدث؟ هل هناك أساليب لم أرها فى السنين السابقة؟ أحيانا أخاف من هاتفى وأتخيل سيناريو شريرا به، انفجار كل البطاريات فى نفس اللحظة..لكن لا ليس لهذه الدرجة.

كل ذلك مرورا بآخر الاحداث حاليا وبكل الأحداث الجانبية التى مرت ولم يتسع المجال لذكرها..إنتحار شخص ما بعد ابتلاعه شيء ما..فٌلان قد أصيب بإكتئاب حاد..إنهيار مبنى وحادث سيارات فى كذا..شخص عزيز قد أصابه مرض خطير..هذا الجو المٌتوتر يصيبك بالموت أصلا..أنت مٌتبلد وعاجز عن تقديم أى شئ.

كنت أعلم تمام العلم أن التخلص من عادة ما أو شخص ما ليس بهذه السهولة التى نظنها،تنتظرك فى الطريق عدة مراحل تمر بها لبعض الوقت قد تستغرق أياما وأشهر وربما تصل لسنين.وكأنهم يخبرونك بمدى عجزك ويقيسون قدر تحملك من دونهم،الى متى ستصمد ؟

لكن لماذا يتأخر الناس ويأتون بعد موعدهم بساعات ؟ أو أيام ؟ أو سنين ؟ أو لا يأتون أبدا، فى صغرى دائما كنت أكره أن تتبدل أى تفصيلة اعتدت علي وجودها من أصغر الأشياء لأكثرها أهمية. شديد التعلق بما ترى عينى ولا أريد شيئا آخر غيره؛ لذا أجد صعوبة فى تركها، لكن مؤخرا اعتدت على عدم وجودها، وكأن الأساس هو عدمها واختفاؤها،ثم أدركت أن للأشياء بقايا، تنادينى اخر ما تبقى من كل عادة سيئة لتخبرنى أنها مازالت بداخلى واخر كلماتى لشخص رحل ليخبرنى أنه سيعود يوما ما..أدركت أن للأشياء بقايا.

لكن ماذا عن ذكريات كئيبة فى تاريخ كل يوم نصبح فيه؟

فكل شهر اصبح به مأساة نستيقظ عليها كل يوم لأعلم أن هذه بقايا الاخرين وأن النسيان ليس بهذه السهولة ولا أحد يرحل كليا دون ترك شئ ما وذكرى ما.

فبراير مليء بالذكريات الكئيبة، مليء بقدر كبير من الأحزان يصعب على أى شاب أن يتحمل ولو قليلا منه، الذكريات سوداء بما فيه الكفاية، سوداء بما يكفى لتتفوق اللحظات الحزينة على اللحظات السعيدة. أصبحنا نسترق الضحك فى صمت وابتسامة لن تدوم طويلا وكلما تناسينا لوقت قصير تأتينا ذكرى أخرى حزينة لتخبرنا أن تجاعيد الوجه ستظهر مبكرا لأن الأيام كلها صارت بلا بسمة وبلا فرح. وفى كل ذكرى تتراكم على صدورنا أحمال ثقيلة تضغط بكل ما أوتيت من قوة ولا ندرك ذلك الا عندما نستيقظ على صورة أحدهم قبل أن يرحل ولم يعد بيننا.

أحسست مؤخرا أنه عندما نعيد سرد أيام السنة سنجد أن معظم أيامها ذكرى حزينة لحادث ما..أٌناس لم تكتمل أنفاسهم ولم تتوقع أجسادهم يوما أن هذه آخر اللحظات لوجودهم..هل من الطبيعى أن نستيقظ محملين بهذا الكم من الأحداث فى سن كهذه؟ لقد تٌركت لنا جثة فى كل مكان نفكر أن نرتاد اليه،رائحة الدم مازالت بكل ركن،ابتسامة كل شخص رحل مازالت بذاكرتنا، لقد اتصلنا بأشياء لم تبق وأحداث بنهايات لم نردها ولم يتمكن النسيان منا لقسوة الغياب، لذا لن ننسى أبدا من رحل.

 

مقالات من نفس القسم