ذكريات

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

يرفع (المامون) سيجارته إلى شفتيه، يمتصها، يسحب منها نفسا عميقا، تلتهب السيجارة، تتوهج، يضيء وهجها فضاء الغرفة المعتمة، تنظر هي إلى وجهه على ضوء السيجارة الملتهبة، تتأمله، بدت لها ملامحه مثل جدار عازل، صامتة، هادئة، محايدة، وغير قابلة للاختراق، يمسك الدخان للحظات، يحبسه، ثم يحرره، يرسله على دفعات قوية ومستقيمة، يبدو مستغرقا وكأنه يلعب لعبة خفية، أو يحاول التخلص من هواجس غير مريحة.

تنتابها مشاعر غامضة، شلال دافق من عواطف تستعصي على التصنيف، تفكر أنه إحدى الصدف الجميلة التي حدثت في حياتها، تفكر أنها تحبه، أنها أحبته دوما، تنخرط في لحظة بياض قوية، تسترجع بكثير من الحنين لقاءاتهما الحميمية الأولى، أيامهما الأولى، أيام الزمن الجميل البعيدة، زمن الكلية والكتب والأحلام والرفقة الطيبة.

تسترجع بالخصوص صورتين من ألبوم ذكرياتها.

الصورة الأولى.

عندما التقيا للمرة الأولى، كانت بالكاد قد تعدت عتبة المراهقة بقليل، كانت واقعة تحت سطوة جسدها المتفجر الذي نضج فجأة، وفاض بفعل خميرة مجهولة.

تسترجع هديته الأولى، قطعة داخلية، روب نوم بنفسجي اللون، جريء وكاشف، ارتدته بشكل عفوي، ارتدته ببساطة مراهقة يافعة، متصالحة تماما مع ذاتها، مراهقة لا تفهم بعد حدود المسموح والممنوع، جلست إلى جانب والدها في الصالون، جلست صامتة وراحت تنتظر مديحا لأناقتها السيكسي، انهمكت والدتها في تقليب قنوات التلفزيون وهي تمثل الغفلة واللامبالاة، التفت إليها الأب، تأملها، لاذ بالصمت للحظات وكأنه ينتقي الكلمات المناسبة، تردد قليلا، رسم ابتسامة على وجهه، ثم خاطبها بصوت أراده أن يكون هادئا، صوت لن تنساه أبدا، صوت يمتزج فيه العتاب بنبرة الحب والفرح، فقد كان يحبها ويؤثرها على نفسه.

– نوضي ألزوينة، نوضي أبنتي استري حالتك الله يمسخك!!

الصورة الثانية.

مساء ذات أربعاء، كان يوما مشهودا.

تدخل من موعد عاطفي عنيف وجارف، تملكتها أحاسيس غريبة، لأول مرة تشعر أن السعادة ليست أمرا معقدا، وأنه يكفيها أن تصيخ السمع وتنصت لهذا الذبيب الذي يخترق روحها من الداخل، ذبيب ممتع، يشبه هسيس المطر، ذبيب يولد من العدم، من المجهول، من أفق ما، تنمحي فيه الحدود بين الروح والجسد، ذبيب يبدأ خافتا، ثم يرتفع، يتعالى، ينفتح، يتسع، وفي نقطة ما يبدأ في التراجع، ينزل بهدوء، ينخفض، يتهادى، ثم يتهاوى بسرعة، يتلاشى، تاركا في النفس شعورا لذيذا بالفراغ والاستسلام.

 تقف والدتها في المطبخ، تضع اللمسات الأخيرة لمائدة العشاء، تضمها من الخلف، كانت ما تزال تحت تأثير التجربة، منتشية وسعيدة.

– مرحبا ماما…

– مرحبا حبيبتي…

ثم بصوت ينضح بالفرح، تسأل.

– هل أساعدك في أمر ما؟

بغريزة الأنثى، استنفرت الأم حواسها، تسمرت فجأة، وقفت جامدة للحظات، بدا أن أمرا غريبا قد أزعجها، ثم دفعتها برفق دون أن تلتفت إليها.

– أوووف، سيري، ابتعدي، رائحة الرجال تنبعث منك أيتها الشقية!!

عندما عادت إلى نفسها، شعرت ببعض الحزن، فهو لم يعد كما في السابق، في الماضي كان شخصا مرحا، منطلقا، عاطفيا، مرهفا، هشا وسريع العطب، صحيح أنه يبدو أحيانا خجولا، خائفا ومترددا، ولكنه لحسن الحظ، ينجح دوما في النهاية، يستعجل اللذات، يقتنصها، يستمتع بالحياة، ينخرط، يتماهى، ويتقمص دور العاشق بشكل عجيب.

ممدين في الفراش، فكرت أنها ستكون سعيدة لو نجحت في أن تخرجه من قوقعته، فكرت أن تجترح لحظة من لحظات الفرح الهاربة.

تضمه، يطوقها، تحتضنه، تنظر في عينيه، ينظر هو بعيدا إلى نقطة ما في الفراغ، يداري هواجسه، يلوكها في صمت، يستشعر أناملها وهي تعبث بالشعيرات في ساعده في حركات رفيقة ومتناغمة، تهمس، وكأنها توشوش له أمرا ما، ثم تغرق في الضحك.

يسألها بنبرة مفتعلة، مقلدا صوت الرسوم المتحركة.

– ما المضحك في الأمر؟

تشير بسبابتها إلى جوربيه، كانا من لونين مختلفين.

– لم لا تضحك، أليس الأمر مضحكا؟

– هو فعلا أمر مضحك، ولكنني أفكر في أمر آخر!!

ترسم على وجهها سؤالا صامتا.

– …؟؟

 يبتسم، تتسع ابتسامته، يسترجع فجأة روحه المرحة.

– أحاول أن أخمن لون سروالك الداخلي!!

تلوذ بالصمت للحظات، تنزعج، أو هي تريد أن تبدو منزعجة، تنظر إليه بصمت، ثم تبتسم، وتسأل.

– وما هو؟

– أتقبلين الرهان؟

– نعم، أقبل.

تتسع ابتسامته أكثر، ويجيب بنبرة اليقين.
– أصفر…

تلوذ بالصمت مرة اخرى، تنظر إليه بعتاب، تقبله، يضحك، يضحكان معا.

– أيها الشرير…كيف عرفت ذلك؟

….

بدت غائبة للحظات، عندما عادت إلى نفسها، قالت بصوت طفولي عامر بالحنين، وكأنها تخاطب نفسها.
–  أتذكر أيام الكلية ومدينة العرفان؟ كنا جميعا نحبك، كنا نسميك (أخ البنات) في إشارة إلى هذا التواطؤ العاطفي الذي تنسجه الأيام بينك وبين الطالبات بسهولة وعفوية.
لاذت بالصمت للحظات، ثم أطلقت ضحكة أخرى، ضحكة سعيدة ومجلجلة.
– أتذكر يوم اللقالق؟ كان صباحا ربيعيا جميلا ومشرقا، وكنت أنت في كامل أناقتك، مرت اللقالق وقصفت قميصك بوابل من فضلاتها، ثم حلقت بعيدا، ضحك الطلبة، صفقت الطالبات وتعالى صياحهن بقوة.
–  واااو، برافو، برافو…أنت محظوظ!!
بدا كمن يستعيد ذكرى عصية، ذكرى بعيدة ومهددة بالإنمحاء، يمتص نفسا آخر من سيجارته، يرسل الدخان بعيدا، يرسله على شكل أعمدة قوية ومستقيمة، يلتفت إليها، ينظر إلى ابتسامتها المشرقة، يبتسم هو أيضا.
–  نعم أذكر.

 

مقالات من نفس القسم