إيمان سعيد حسن
اختَرتُ ألا أسألَها عن اسْمِ هذا العطرِ النَّفاذِ الذى يشبهُ رائحةَ جميعِ الوُرودِ التى أعرفُها وغيرها، يُخيّلُ إلىَّ أنَّ إحدى وَردَاتِ هذا العطرِ شقيَّةٌ كَفتاةٍ عابثةٍ تلهو عَلى ضفّةِ النَّهرِ، تلصَّصْتُ عَليْهَا فِى حُجرةِ المُدَرِساتِ وهى تَضعُ مِنهُ، والتقطتُ اسمَه، لم يتبقَّ الآن إلا أن أنتعلَ الحذاءَ، اشتريتُ حذاءً جلدِيًّا ذا رَقبةٍ طويلةٍ مُطرَزًا بِأربطةٍ كثيرةٍ شعُرتُ بأنها سَتخنُقُ قَدَمَىَّ، فضلتُ أن أنتعلَ هذَا الحِذاءَ ذا الكعبِ العَالِى البسيطِ، له مقدمةٌ رفيعةٌ مرصعةٌ بِفُصوصٍ بيضاءَ تعكسُ أىَّ أشِعَةٍ تَسْقُطُ عليها، فيلمعُ الحذاءُ أكثر، اخترتُ جوْربًا شفافًا له لون الساق، وينتهى عند رُكبتىّ، أما القطعتان الداخليتان فاخترتُ أن يكونا من الدانتيلا السوداء الناعمةِ، الأسودُ يرسُمُ منحنياتِ الجسدِ ويضعها فى إطارٍ كأنها لوحة ثابتة، أما هذا الفستانُ «الكلوج» أسود وقصير أعلى الركبةِ بقليلٍ، كأنه خرجَ من خزانة فاتن حمامة للتوِّ.
رمقتُ الحجرة بنظرة سريعة، أعدْتُ كلَّ شىءٍ إلى مكانِه، المكياجُ نظمتُه على التسريحَة، رتبتُ السريرَ، لا أحبُّ أن أترك فوضى مكانى، لا أئتمنُ الأشياءَ ماذا تفعل بدونى إنْ تركتُها مهملةً، من الممكنِ أن تخرجَ بيجامتى إلى الشرفةِ، ويحملَهَا الهواءُ إلى مكانٍ لا أعرفُهُ، وقد يشتَمُّها أحدهم، وقد ترتديها إحداهُنَّ، وأنا أعيشُ داخلَ خيوطِ ملابسِى، فلا أحبُّ أنْ أشتَمَّ رائحةَ غيرِى، لذلكَ أعلِّقُ ملابسِى على الشمَّاعةِ بانتظامٍ، وأغلقُ الدولابَ جيِّدًا.
ألقَيْتُ نظرةً على بقيَّةِ الشقة، كل شىءٍ مستقرٌّ فى مكانِهِ، عدَا هذه اللوْحَةِ، بها بنتٌ صغيرةٌ بضفيرتين، تنفرج ساقاها، وتضع بينهما إناءً به دقيقٌ يظهر بين كفيها وهى تبعثرُهُ فى الهواءِ وينتشرُ حولها، مللتُ تنظيفَ اللوحَةَ بنظراتِى، فدائمًا ما تعود البنتُ لبعثرةِ الدقيقِ، فى جانب اللوحةِ تجلسُ الأُمُّ القرفُصَاءَ وهى تدفعُ بالحطبِ داخلَ الفرنِ المشتعلِ وتطهو الخبزَ، أخافُ كثيرًا من فرنِ الأمِّ المشتعلِ الذى يُلزمُنِى أن أمكثَ دائمًا بجوارِ اللوحةِ خوفًا من الحريقِ الذى قد يَشُبُّ هنا، ألقيْتُ بمفرشٍ فوق اللوحةٍ، بحَثتُ عن الريموتِ لأغلقَ التلفازَ، قد تسكنُ الحربُ المشتعلةُ، ولا يفقدُ شجرُ الزيتونِ بقيةَ صغارِه! وينقطعُ النَفَسُ عن قادةِ الإجرَامِ، ويهدأُ العالمُ قليلًا.
كل شىءٍ فى مكانِهِ، نظرةٌ أخيرة فى المرآةٍ، التقطتُّ المِعطفَ وارتديتُه لحين خروجِى من البيتِ والشارعِ، أغلقتُ البابَ بالمفتاحِ ووَضَعتُ الأخيرَ فى الحقيبةِ، هبطَتُّ بعضَ دَرَجِ السُّلَمِ، ثم شىءٌ ما همس لى أننى تركتُ المَوْقدَ مشتعلًا، أو ربما نسيتُ حنفية المطبخِ، عدتُ ثانيةً، لم أجدْ شيئًا، نطقتُ بصوتٍ عالٍ: كلُّ شىءٍ فى مكانِهِ، لا تقلقى!
خرجتُ من شارعِنا الطويلِ، كان خاليًا من الناسِ بفعلِ هواءِ أمشيرَ الرائعِ، والذى يدفع الناسَ للاختباءِ، أحبُّ الطبيعةَ التى تتعامل مع الناس كـ«كُرةِ اليُويُو»، انتَّحيْتُ جانبًا لشارعٍ آخرَ، مشيتُ فيهِ كثيرًا بعد أنْ خَلَعتُ المِعطفَ، لم أعبَأْ بالهواءِ، ولا بِشَذَرَاتِ المطَرِ، وضعتُ المعطفَ على كتفى، ويدِى فى جيبِ الفستان، حقيقى الفستان عَارٍ من عند الكتفِ، لكنّى لم أشعرْ بالبردِ، فكلٌّ مِن الإحساسِ بالدفءِ أوْ بالبردِ، قرارٌ، وقرارِى الآنَ أنْ أطيرَ، أوْ كما قال لى فى الحُلْمِ: «اقتحمى غرفَكِ المظلمةَ».
تُرى أىَّ غرفٍ كانَ يقصدُها؟ وما هى تلكَ الغرفُ؟ الشارعُ يبدو أكثرَ نورًا، كلُّه بيوتٌ قديمَةٌ، منها متهدِّمٌ، أشجارٌ أوراقُها متساقطةٌ على جانبَيِهِ، يظهرُ فوقَها طائرُ أبى قردان كثيرًا، ينامُ مُتَراصًّا فوقَ الفروعِ، ينتشرُ لونُهُ الأبيضُ فوقَ الشجرةِ كأنُّهُ فستانُ زفافٍ، وكأنَّ هذا الشارعَ ينبثقُ وحيدًا من الكرة الأرضِية، ليس به أحدٌ غيرى.
لم أستغربْ سماعَ موسِيقَى عاليةٍ تخرج من هذا القصرِ، وكأنَّ أحدًا يعزف على بيانو من حجرة هى الوحيدة المضاءَةُ، يظهرُ الضوْءُ خافتًا، وينتصرُ صوتُ العزفِ، فأتحرَّكُ بقدَمَىَّ مُتتبِعةً العزفَ، تُشْبِهُ موسيقَى «مُونَامُور»، رُحتُ أدورُ، وأفردُ ذِراعَىَّ، فطَارَ بعضٌ من طيورِ أبى قردان، وعادتْ مرةً ثانيةً، انتهى العزفُ، وانطفَأَ نورُ الحجرةِ، فعاوَدتُ السيْرَ، خلعتُ الحذاءَ، وحملتُهُ فى يدى، سِرتُ على الأرضِ المبتلةِ حافيةً، لا أعرف وِجهَتِى، أو إلى أىِّ مكانٍ أذهبُ، وجدْتُ سيارةً وحيدةً، تقفُ فى الشارعِ، همستُ: أخيرًا هنا شىءٌ غير غريب!
وضعتُ الحذاءَ على «كَبُّوتِ» السيارةِ، وجلستُ أنا الأخرى، ثم استلقيْتُ بجسدى على السيارةِ، ورأسى على الزجاج، السماء شديدة السواد، تلمع بها النجوم مثل حبات الخرز فى فستانى الأسود، وكأننى أرتدى السماءَ ذاتَها، كثيرًا ما تمنيْتُ أن أرتدى فستانًا قصيرًا هكذا، وكثيرًا ما رأيت فى منامى شَعرِىَ طويلًا جِدًا، وناعمًا، لكنى أحبُّهُ «كيرلى».
قال لى: أحبُّ شَعرَكِ مثلَ تلكَ الغجريةَ التى تخلفّت عن رَكبِها، فتاهت فى صحراءَ واسعةٍ، ثم وجدتُها أنا.
يأتينِى دائمًا فى حُلمى، واليومَ قال لى: أخرجى وستجدينَنِى.
كشّافات السيارة تضاءُ وتنطفئُ، هذا معناه أن السيارة بها أحد، اعتدلتُ، نظرتُ داخل السيارة، يجلس بداخلها، ينظر لى مبتسمًا، خرج من السيارة، حملنى لأقفَ أمامَه، سألتُه:
– هذا الشارع أين ينتهى؟
– حيثُ تنتهى رغبتُك فى السيرِ.
سِرنَا معًا، وضع أصابعه على ظهرى العارى، ثم همس لى:
– كيف يكون جسدك بهذا الدفءِ وهو عَارٍ؟!
– لأنه قررَ ذلك.
ازدادَ المطرُ، أشرتُ له إلى أحدِ البيوتِ الكبيرة:
– ما رأيُكَ أن نختبئَ هنا من المطر؟
تسلقنا البابَ الحديدىَّ، هبطنا دَرَجَ سُلّمٍ جِيرِىٍّ، بعد أن تجاوزْنَا أشجارًا كثيرةً من الجَازْوَرِينِ العاليةَ، انتهى السُّلمُ عندَ حافةِ نهرٍ، على اليمينِ إحدى «فَراندات» البيت، بعض من الدَرَجِ صعدتُهُ، وكنتُ بالداخلِ، جلستُ على كرسىٍّ بجانبِ إصِّيصٍ به شجرةُ وردٍ، وهوَ اتَّجَهَ إلى الداخلِ، وجاءَ بملابسَ أخرَى غير ملابسِه، قلتُ له:
– إذنْ هو بيتُك؟
ابتسمَ قائلاً:
– كلُّ البيوتِ لى.. أينَ كنتِ ذاهبةً؟
– ألمْ تقلْ لِى اقتحمى غرفَكِ المظلمةَ؟
– وما هى تلكَ الغرفُ؟
– لا أعرفُها.
اتجهنا إلى الداخلِ، بَهْوٌ كبيرٌ، مقاعدُ كثيرةٌ مُذَهَبَةٌ، تَلَوَنَتْ كِسْوَتُهَا بألوانٍ مختلفةٍ، أكوابٌ وأوانٍ مهملةٌ فى كل مكانٍ، ملابسُ كثيرةٌ ملقاةٌ على الأرضِ، فساتينُ وأحذيةٌ وبيجاماتٌ، تَعَجَبْتُ لأصحابِ الملابسِ والأوانى، ألمْ يخافوا هروبَها إنْ مَلّتِ الإهمالَ؟!
توسطتْ حائطَ البهوِ لوحةٌ كبيرةٌ، اقتربتُ منها، جاء خلفى، التصقَ بى، وأمسكَ كفىَّ ووضعهما على اللوحة، وسألنى:
ـ هل تعرفين من الواقفَ هذا فوق الثلجِ؟
ثمَّةُ شخصٌ يقف على المياهِ، أو الثلج، فتنعكسُ صورتُهُ، وينظرُ لنفسه منذ أنْ تركَ الرسَّامُ اللوحَةَ، هى «لوحة ليس لها عنوان»، للرسامِ بيتر بلوتز، هكذا همس لى، وأخذَنى من يدىّ، وصعدنا دَرَجًا كثيرًا لنبدأَ السيْرَ فى طرقةٍ أخرى، فتح إحدى الغرفِ، كان «بلوتز» يغطُّ فى نومٍ عميقٍ، فاستأْتُ مِنهُ، كيف يتركُ بطلَ لوحتِهِ هكذا فوق الماء وينام؟!
أجابنى:
– البطلُ نفسُهُ لم يُرِدْ أن يخرجَ معهُ، ينظرُ لشَكلِهِ الذى تعكسه المياهُ ولا يعرفُ عمَّا يبحثُ، ربما وجدَ الله!
هذا الممرُّ طويلٌ، وبه غرفٌ كثيرةٌ مثلَ هذا الشارعِ المنبثِقِ من الكرة الأرضيَّة وحدَهُ، فتحَ غرفَةً أخرَى، كثيرون ينامونَ فوق كوْمَةٍ من الأوراقِ، قال لى:
– هؤلاءِ ناموا فوقَ هذِهِ الكتبِ، بعد أن اختفتْ ضَامَّةُ الحروفِ، فتبعثرتْ كلماتُها، وما عادتْ تنطقُ بشىءٍ.
– وما ضامّةُ الحروفِ هذه؟
كتبَ على الحائط الأسود بالطبشور: «أ ح ب ك».
قرأتُ: «أحبك»، قال:
– هكذا ضممتِ الحروفَ، وشبَّكتِ بعضَها، أما حروفُ هذهِ الكتبِ فاختفتْ من بينهِا ضامّةُ الحروفِ، فصارت كَوْمَةً هكذا، وما عادت تنطق بشىء.
قصدَ غرفةً أخرى، قال:
– افتحى الباب.
مقاعدُ كثيرةٌ متراصَّةٌ فى صفوف، وترتفعُ فى المقدمةِ خشبة مسرحٍ عاليةٌ، يقف عليها يوسف بك وهبى، كلما حاوَل جذبَ الستائرِ لغلقِها تنفرج ثانيةً، يداوِمُ يوسف بك على الغلقَ، وتصر الستائرُ على الرفض، فى تكرار سريع للمشهد.
هبطنا سُلمًا طويلًا، الظلامُ يكتنفُ المكانَ، تابع هو، الدَّرَجُ يهبطُ درجةً تلو أخرى، فزعتُ من الظلامِ، أعطانى شعلةً، وتابعَ نزولَهُ حتَّى غاصَ فى الظلام، أطللتُ برأسِى، ورأيتُ خيالَه على الحائطِ يهتزُّ إثرَ الوميضِ الأزرقِ للشعلةِ، ناديتُه، وتابعت النزولَ إليهِ بعدَ أن ثبُتَ ظِلُّهُ على الحائطِ، اقتربتُ نحوَهٍ، أضاءتِ الشعلةُ غرفةٍ ثلاثِيَّةَ الجدرانِ، تحجِبُها خيوطُ عنكبوتٍ عفنةٌ، قبرانِ ملتصقانِ مكتوب على شاهديهما: «بنيلوب الدايا»، و«دافيد الدايا».
وخوليان كراكس، رجلُ «ظلِّ الريحٍ»(1) ينتحى جانبًا يتكوَّمُ على نفسِهِ أمامَ القبرِ، شاخِصًا فى فراغٍ يتحركُ فيه وحدَه.
وقفنا بعضَ الوقتِ بجانبِ الحائط المُفضى لسلم آخر، ضَمَّنِى إليْهِ، فكَّ شَعرِى وخَللَهُ بأصابعِهِ، وَحَمَلَنِى، وهبطنا سُلمًا آخَرَ، خَلع عنِّى الفستانَ، أمسكتُ به، وعلقتُه على أحد المقاعدِ، قال لى:
– أستطيعُ أن أرسمَكِ.
فوافقتُ سريعًا، ولكن كان شرطُه أن أكونَ عاريةً، وأن يلمِسَ كلَّ جزءٍ من جسدى، ويرسم بعدها، لم نكن وحدنا هنا، فالمكانُ يزدحمُ بلوحاتٍ كثيرةٍ بها حركاتٌ وصخبٌ، انتحيْنا فى مكان يطل على هذا النهرِ، وقفتُ بجانب عمودٍ رخامىٍّ، وأسندتُ ظهرى، وقف أمامى، لفَّ ذراعَيْهِ حولَ خِصرِى، ضمنى إليهِ بشدةٍ، وقال:
– أريدُ أنْ أسكُنَكِ!
ولم يتركْ شفتىَّ، وكلما حاولتُ لمسَهُ لم أجدْهُ، لكنِّي شعرتُ بدفئِهِ، خلعَ عنِّى قطعتَىِّ الدانتيلا، اتجَهَ ناحيةَ اللوحةِ، شرَعَ فى رَسمِ إطَارٍ، رفضتُ أن يرسمَ إطارًا حتى يتسنى لى الهربُ إنْ شئتُ، لمسَ وجهى، شعرتُ بفمى وهو يلمسُهُ ويقبلُهُ ويبللُهُ بلسانِهِ، اتَّجَهَ ناحيةَ اللوْحَةِ ورسَمَ الوجَهَ والشَّفَتينِ، رأيتُ شفَتَىَّ صغيرتين، حقًا هما جميلتان كما قال، طلبَ أنْ أنظرَ له وحدَه، فهمتُ مقصدَه، بعد قبلتِهِ أرسلتّ عيناىَّ له نظرةَ اشتهاءٍ لا حدَّ لها، وضعَ نظرتى فى اللوحةِ كما هى شقِيَّةً، مضطربةً، منتظرةً.
وضع إحدى يدىَّ خلف ظهرى، والأخرى فى خِصرى، وطلب ألا أحركهما أبدًا، لمس كتفىَّ، وقبَّلَ حسنةً سوداءَ على كتفِى ورسمها، لمسَ صدرى بكلتا يدَيْهِ، بحركاتٍ دائريةٍ خفيفةٍ، وعاد لفمى يقبلُهُ، لم أستطعْ أن أصمُدَ واقفةً، جلستُ على الأرضِ، تحسستْ أصابِعَهُ كلَّ أجزاءِ جسدى، نفذَ إلى داخلى، تبطنتْ جُدرانى من الداخلِ بدانتيلا سوداء، يَرْتَجُّ جسدى بين يديْهِ، صارَ عنيفًا، تهتكت الدانتيلا، وكشفتْ عن غرفٍ كثيرةٍ.
كنتُ صغيرةً جدًا حين أغلق أحدُهم باب دورة المياهِ فى المدرسةِ بالمفتاحِ، لا أعرفُ إن كانَ المعلمُ أو الساعى، فتح سوستة بنطالِهِ، طلبَ مِنى أن أمسِكَ بشىءٍ بدَا صلبًا، وأقبلَهُ، حين ابتعدتُ، جذبَنى بعنفٍ وقال: افعلى! لانَ الشىءُ الصلبُ، وبدأ يُسقِطُ قطراتٍ بيضاءَ على الأرض.
إحداهن تتوسط دارَنا، وتعد مقصًّا وفُوَطًا بيضاءَ ومكركروم، واثنتان تفتحان ساقىِّ أختى، يملأ صراخ أختى رأسى، يكسر أخى الباب علينا يجذبنى من يدِى، تدفعه أمِّى بعيدًا، يدفعُها، يحملُنى ويخرجُ للشارعِ، يضُمُّنى، ويساعدنى أن أرتدى البنطلون، ودموعٌ كثيرة تغرقُ وجهى.
صوت المفتاح بالباب يفزعنى.
ماتَ عزيزٌ لى، وبدأ يتحللُ، كلما همَّ بهِ الدُّودُ أفزَعَنِى صوتُ أزِيزِهِ، أهمُّ بإبعادِهِ عنْهُ، فأفشَلُ، أخافُ أنْ يُنْهِى عليْهِ الدُّودُ، ولا أجدُهُ ثانيةً، فتخْرجُ منْهُ عُصَارَتُهُ وتَتَحَرَّكُ بِدَاخِلِى.
حَمْلٌ لمْ يُنْبِئْ عَنْ قُدومِه، أهملتُه، تركتُه يمُوتُ فى أحشائِى، وانتظرتُه يسقُطُ مِنى، سقطَ ولم أبالِ بهَ، مضغةٌ من اللحمِ، وضعتُها فى منديلٍ ودفنتُها تحت الترابِ، وما زالت تنزفُ بِداخِلى.
استحالتْ غُرَفِى المظلمَةُ مياهًا كثيرةً تتجمعُ من أوْصَالَى حولَ قطعةِ اللحمِ النازفةِ، التى دفعتْها المياهُ حتى خرجتْ مِنِّى، انكفأتْ على وجهِهِا تصرخُ وحَوْلَها المياهُ ذاتُها، حَمَلَهَا بينَ كفَّيْهِ، لفَّهَا بثوبٍ وَردِىّ،ٍ أزاحَ شَعرَهَا من فوقِ عينيْها، وضعها فى حضنى، قلت له «غادة» تركتنى وحبَتْ على الأرض، وكلما تحركتْ خطوةً كبرتْ سنةً، حتى صارت ستَّ سنوات، تلهو بيننَا وترسمُ على الحوائطِ.
اتجهتْ ناحيةَ السلم، أخرجتْ «دافيد الدايا» من قبرهِ، وفى الحديقة الكبيرة توسطتهم «بنيلوب الدايا»، يدورون تحت قرص الشمسِ، قد تمنحُ الشمسُ الخطيئةَ أعمَارًا أبدِيَّةً!
بالمياهِ ذاتِها عَجَنَ الألوانَ، وراحَ يُكملُ اللوحة، رسم أصابع قدمَىَّ آخرَ شىءً، اقتربتُ من اللوحةِ، لمستُ قدمىَّ ثم رُكبتىَّ، تحسَّسْتُ جَسدى كلَّهُ، كان شَعرى هائشًا وطويلًا يطيرُ ورائى، قلت له: أنا جميلةٌ، عادتْ «غادة» وداخلَ اللوحة مكثتْ بجوارى، تلمس ساقِى، وضحكتُها تملأُ اللوحةَ.
فى جانب الحجرةِ سريرٌ، ذهبت إليه، كنتُ مُتعبةً،ً وجاءَ بجانبى، وفرد ذراعَهَ ونمتُ عليها، سَحَبَ الغطاءَ فوقِى، نظرتُ فى عينيهِ كثيرًا حتى غطَطَتُ فى نومٍ هادئٍ، هنا أيضًا يصيح الدِّيكُ، تَسَحَّبْتُ من جانبِهِ، نزلتُ إلى النهرِ، وقفتُ على حجر فى المياهِ، وكَبطلِ «بلوتز» رُحتُ أنظرُ لنفسى فى المياه، لأعرفَ الفارقَ بين اللوحَةِ التى رسمها، واللوحة التى يرسِمُها النهرُ، تركتُ نفسى أغوصُ فى المياه، وتلاشتْ صُورتى من على صفحتها، خرجتُ من النهرِ، كان فستانى والمعطف على حافة النهرِ، بجانبِ شجرةِ الوردِ، والبابُ الحديدى مفتوحًا، وتغريدُ العصافيرِ يملأُ المكانَ، والشمسُ تُشرِقُ بحُمْرَةٍ خفيفةٍ، تصاحبُها من غُروبِ أمْسٍ.
فتَحْتُ بابَ شَقّتَى، ارتديْتُ بيجامتى التى ما زالتْ مكانَهَا، أزَحْتُ المفرشَ من فوقِ البنتِّ وأمِّها، حتى أتركَهَا تبعثرُ الدقيقَ وأستيقظُ على رائحةِ الخبزِ، أشعلتُ التلفازَ، فَرَائِحَةٌ الخبزِ تحتَاجُ لرائِحَةِ الدَّمِ تملأُ الكَوْنَ، فحرّرتُ مُجرمى الأرضِ ليملأوا الأرضَ حياةً.
………………………………………….
*دايفيد الدايا، وبنيلوب الدايا، وخوليان كاراكس، هم أبطال رواية «ظل الريح»، للكاتب كارلوس زافون.




