دموع الغيث

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عزيز رزنارة

تعودت منذ مدة أن ألتقي مع ثلة من الأصدقاء من جنسيات عربية مختلفة عصر كل جمعة في إحدى مقاهي الشارقة، لنمارس الرياضة الجماعية التي يعشقها ويتقنها كل العرب: النميمة والحديث في كل شيء ولا شيء. كنا نشغل نفس الطاولة في المقهى كل جمعة بحيث أن النادل كان يحجزها لنا لأن أغلب الناس كانت تخرج بعد صلاة العصر لترتاد الحدائق إذا كان الجو ملائما أو تحتمي بالفضاءات المكيفة مثل المراكز التجارية الكبرى أو المقاهي مثلنا.

وصلت وكانت المجموعة قد التأمت تقريبا لأني كنت أبعدهم مسافة من المقهى. فأنا أسكن بعجمان، وأصلي الجمعة بمسجد قريب من سكني، وبعد الغذاء وصلاة العصر أتوجه إلى المقهى لألحق المجموعة. وكانت الجمعة تقريبا هي اليوم الوحيد الذي ننقطع فيه عن القيلولة لأن أغلبنا لا يستيقظ صباحا إلا وقد شارف الظهر على الحلول. بعد جلوسي بقليل، وبدون أن أتبين نوع الموضوع الذي يخوضون فيه قلت لهم: “أعتقد أن الأيام المقبلة ستشهد أمطارا غزيرة وربما فيضانات في الهند أو بنغلاديش”. ويبدو أن أغلبهم لم يعر ما قلت أي اهتمام أو لم يسمعه حتى، إلا من أحدهم كان الأقرب إلي فنظر إلي مستغربا ملاحظتي لنشازها عن موضوع الحديث، ثم ابتسم لي وهو يربت على كتفي كدعوة لمشاركة الآخرين الحديث. وهذا ما فعلت.

في الجمعة التالية، وعلى نفس المنوال كنت تقريبا آخر من وصل. ولكني استغربت عندما رأيت الجميع ينظر إلي في نفس الوقت وكأنهم كانوا ينتظرونني لشيء محدد. لم أستو بعد في جلستي حتى بادرني أحدهم، وأظنه من كان بجانبي الجمعة الفارطة، بسؤال لم أدر كنهه لأول وهلة وهو يضحك: “هل أنت أصبحت عرافا، أم تستطلع الأبراج؟”. ولأني لم أستوعب مغزى السؤال حملقت فيه بعيني بينما الآخرون يتابعون الأمر وكأنهم على علم بموضوع السؤال. أردف جليسي حتى قبل أن أحاول الإجابة: “مش انت الأسبوع اللي فات، قلت إن ستكون أمطار غزيرة وربما فيضانات في الهند أو بنغلاديش؟. أهي حصلت وغرقت بنغلاديش مسكينة في الفيضانات. كيف تنبأت بالموضوع؟ هل كان في نشرة أحوال جوية عن الموضوع؟”. هذه الأسئلة المتلاحقة من صديقي جعلتني أستوعب فحوى السؤال وأعود بذاكرتي إلى الجمعة الماضية حيث تنبأت بالأمطار والفيضانات بأحد هذين البلدين. كنت نسيت الموضوع تماما، وبعد أن ذكرني به هذا الصديق انطلقت في ضحكة هستيرية لم يفهموها وظلوا محدقين في وجهي منتظرين التوضيح. بعد أن هدأت من الضحك، أخذت نفسا عميقا، وأعدت أمام مخيلتي شريط ما حصل معي الجمعة الماضية والذي جعلني أتنبأ بما أخبرت به صديقي. قلت لهم:

“الجمعة الماضية كنت في نفس المسجد الصغير الذي يجاور بيتي بعجمان لصلاة الجمعة. وأغلب رواد هذا المسجد هم من العمال الآسيويين البسطاء من الهند وبنغلاديش وباكستان وأفغانستان وغيرهم من مسلمي آسيا. وكانوا يجلسون في المسجد وكأن على رؤوسهم الطير لأنهم لا يفقهون شيئا من اللغة العربية التي تلقي بها الخطبة، إلا في بعض الأحيان عندما يذكر الإمام اسم الرسول محمد (ص) فيسارعون مثل كل الحاضرين إلى الصلاة والسلام عليه بهمهمة مسموعة. ونظرا لتأخر الأمطار هذه السنة، فإنه منذ أسابيع عديدة كانت كل صلاة جمعة ترفق بصلاة ودعاء الاستسقاء. وخلال الجمعة الماضية كنت خلال دعاء الاستسقاء جالسا جنب مصل آسيوي لا أدري أكان هنديا أو بنغاليا، لكنه أثار انتباهي لاندماجه الكبير في الدعاء مع الإمام، وكنت أستشف من رده آمين ما يشبه حشرجة حزينة في صوته هي أقرب إلى الأنين أو البكاء الخافت. وحانت مني التفاتة إليه لأرى دمعتين وحيدتين تنزلان من مقلتيه بشكل بطيء على خديه لتضيعا بعد ذلك في باقي وجنتيه.

شدهت لهذا المنظر المؤثر، وتطلعت حوالي في وجوه المصلين العرب بالذات، ولم يكن أحد منهم قد ظهر عليه نفس التأثر أو الانشغال، بل كنا كلنا نردد “آمين” بشكل تلقائي فارغة من أي شحنة عاطفية أو توسلية. كانت تلك الدمعتان بالنسبة لي أول الغيث استجابة لدعاء خافت كان يعتمل في صدر المصلي الآسيوي، ويعلم الله بماذا كان يدعو ولمن كان يدعو. وتيقنت أن باله كان مع ذويه وأهله في بلاده البعيدة، وأن دعواته كانت لهم عبر كل المسافات التي تفصله عنهم. وفي لحظة وجيزة تخيلت لو أن كل هؤلاء الذين يصلون معي من الآسيويين يخالجهم نفس الشعور الصادق، بل وفي كل مساجد الدولة فإن السماء ستستجيب بكل تأكيد لدعائهم، ولا أدل على ذلك من بشارة الدمعتين اللتين نزلتا خد جاري الآسيوي، وربما مثلها كثير في مساجد أخرى.

بعد الصلاة بقيت أفكر في ذلك الموقف، وانتبهت إلى أن هؤلاء الناس رغم تواجدهم الجسدي بيننا إلا أن عواطفهم الجياشة وقلوبهم هي بين ذويهم، وأن تلك “آمين” الصادقة النابعة من قلوبهم هي بكل تأكيد تعني بالدرجة الأولى موطنهم وأهاليهم. واستنتجت بأنه إذا استجابت السماء لكل تلك الشحنة من الصدق في الدعاء فإن المطر سيكون بدون شك غزيرا”….

كان الجميع يتابع حديثي وهم واجمون، وعندما انتهيت قال صديقي مازحا: “إذا علينا كلما صلينا صلاة الاستسقاء هنا، أن ننتظر أمطارا في بلاد الهند أو بنغلاديش”. وضحك الآخرون لملاحظته، لكنني أجبته: “السؤال ياعزيزي، لماذا لا تستجيب السماء طيلة هذه السنوات لهذا الجيش العرمرم من العرب الذين يدعون كل جمعة على اسرائيل؟”. سكت الجميع عن الضحك، فأردفت لكي لا أفسد متعة الجلسة: “لأن لا أحد فيهم تدمع عيناه وهو يقول آمين”

 

الشارقة 3 أبريل 2018

 

مقالات من نفس القسم