“دفتر أمي”: الحياة كلعبة

دفتر أمي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الدناصوري

– الوطن ليس فندقا.. حينما تسوء الخدمة نغيره..

كنت أرد : ما طول عمره بيتعامل معانا على إننا غرباء مش أولاده.. وكل حاجة بناخدها لازم نحاسب عليها.. وحتى لما بنحاسب بناخد أقل من الخدمة الصح.. خلونا لو نقدر نغير اللوكاندة.

دفتــــــــر أمي   

وجدي الكومي

 

تبدو رواية “دفتر أمي” للوهلة الأولى وكأنها تلعب في منطقة روائية دافئة وآمنة، فهي تناقش فكرة العائلة، الأب المريض، الابن المتمرد والحياة عموماً بوصفها لعبة تتبدل فيها الأدوار وتتغير مصائرها بلمح البصر، ولكنك بمجرد أن تغوص فيها، ستدرك تماماً أنها تسعى لهدم كل الثوابت التي آمنت بها يوماً.

تدور الرواية بين أربع شخصيات “كارو، الأب، الإبن، والأم”، وبين مكانين “القاهرة وسويسرا”، بينما يبدو الزمن هنا مطاطيا وهلاميا، يتحرك فيه الراوي كيفما شاء، قافزاً عبر مراحل تكوينه الأولى ومراهقته وشبابه عبر رسائل إليكترونية يكتبها الراوي “الابن” إلى حبيبته السويسرية باللغة العربية، دون أن يكلف نفسه عناء إرسالها لأنها لا تقرأ العربية. ربما هذا تأكيد – دون قصد من الراوي – على دور اللغة كعنصر رئيسي لنقل المشاعر والتواصل البشري وإن كان الراوي يجيد اللغة الألمانية في كثير من نواحيها إلا أنه يرفض كتابة تلك الرسائل بها حتى لا يقع في حرج تشويه اللغة وسعياً منه للكمال اللغوي.

عبر تلك الرسائل، يهدم الراوي كل التصورات النمطية والإكليشيهية عن صورة الأب عبر تفكيك سلطته ومحاكمته وانتقاد قراراته ونزع قدسيته بلا شفقة، ورغم تلك الدوافع، يمتلك الراوي دافعاً أخلاقيا لرعياته أثناء مرضه، حتى وإن كان يفعل ذلك ممتعضاً تارة، ومشفقاً تارة أخرى، وغاضباً على الدوام.

يبرر الابن غضبه هذا لاإراديا عبر محاكمته المعلنة للحياة عموماً، يسأل كثيراً عن مصير جسد الأب العملاق الذي كان ملاكماً في شبابه، عن ذلك الصوت الهادر، والقبضة العنيفة التي طالت الابن والأم في مواقف متعددة، أين ذهب كل هذا ليحل محله ذلك الجسد الضعيف الواهن الذي لا يقوى حتى على الذهاب الى حمامه بنفسه، أو حتى تغيير ملابسه بنفسه. كيف تتبدل الأدوار هكذا بمنتهى البساطة، ليعيد الابن نفس ما فعله الأب معه في طفولته، تحميمه، تغيير قسطرته البولية ومساعدته في قضاء حاجته و تغيير ملابسه. يغدو الابن هنا أباً، ويصبح الأب طفلاً بلا حيلة أمام المرض.

عبر مراحل الرواية المختلفة، يواصل الابن التحرك في الزمن بمنتهى الحرية، ليواصل محاكمة الأب بكل ضراوة، وخلخلة قدسيته، يقول في إحدى الرسائل :

” ببساطة لأن أبي محاني ياكارو.. محا شخصيتى.. حكم البيت بالحديد والنار، بالإرهاب، يرهبنا لنخشاه، يرهبنا لنستمع له، ويرهبنا ليستمتع بسيطرته المطلقة وجبروته الهائل”.

بينما يكثف الابن حكاياته عن مرض والده، وأدويته، وقسطرته، وعملياته الجراحية، بمنتهى التفصيل المؤلم، إلى درجة أن القارئ – وأنا شخصياً – كنت أرى تلك التفاصيل وكأنها أمام عيني وأشم رائحة البول والعرق والمطهرات، كل هذا تشعر به وكأنه أمامك، بمشاهد مكتوبة بحرفية بالغة، وبلغة عارية، حادة، تمتلئ بالمجازات وبالتكثيف، ربما هذا يرجع بعيداً عن مهارة الكاتب نفسه، إلى أن الابن كاتب أيضاُ، تقوده الكتابة إلى منحة تقييد الزمن لإنجاز عمل روائي في سويسرا، هناك يتعرف على كارولين التي يرسل إليها الرسائل ويحبها، ويشرع فوراً في إنشاء محاكمة أخرى، ولكن هذه المرة هي محاكمة للوطن نفسه.

تقود تجربة سويسرا الابن إلى التمرد على وضعه الراهن في مصر، ورغبته التي تتصاعد على طول الخط الروائي في الخلاص من وطن مهترئ، إلا أن دافعه الأخلاقي تجاه والده المريض يربطه بحبل واهن، هذا الحبل سرعان ما سيتمزق تماماً بعد اكتشاف الابن الدفتر الذي كانت أمه تكتب فيه مذكراتها وهو من كان يظن أنها تكتب فيه مصاريف البيت وأسعار الخضروات واللحوم، فالأم وحدها تمتلك مفاتيح الحكاية كلها، وتؤثر فيها رغم موتها منذ زمن بعيد.

تسير الرواية في خط يتصاعد ببطء شديد وبلغة شديدة الخصوصية والتكثيف، حتى نصل إلى الثلث الأخير من الرواية فنلهث وراء الابن وهو يكشف السر الوحيد في حياته وحياة أبيه وأمه، لتنقلب بعدها حياته وعلاقته بوالده الذي يتخلص الابن من إرثه وثقل إرث الوطن ليذهب مرة أخرى إلى كارولين المعادلة للجنة الأوروبية بلا عودة مردداً جملة جوته المطبوعة على الجدار الملاصق لمسرح فنترتور :”هنا أنا إنسان، هنا ينبغي أن أكون “.

في النهاية نحن أمام رواية تمتلئ بالأسئلة، بتبدلات المصائر، بالكراهية والحب، بالمشاعر المتناقضة، باللعب على وتر الحياة والمشاعر وبخلخلة كل الثوابت التي كنا نظنها ذات يوم راسخة لن تتبدل. رواية مؤلمة وجارحة في ألمها.

مقالات من نفس القسم