أحمد الشهاوي
لمَّا تَزْعَلُ منِّي يتغيَّرُ لونُ سمائي
هيَ أوْضَحُ من شَمْسِ نَهَارِي
لكنَّ المَرْأةَ ما أن تَعْشَقَ
حتَّى تتغذَّى من صَمْتِ السرِّ
وتُخْفِي تحتَ الجِلدِ عُيُونَ مقابِضِ غُرْفَتِها
وتقُولُ بصْوتٍ عالٍ : ما هُو أجْلَى
هُو ما لا نُفْصِحُ عنهُ في الليْل.
تنعَمُ في الشَّكِّ طَويلًا
وتقُولُ كلامًا لا تعنيهِ حينَ تُزَعِّقُ
وتطيلُ النَّظَرَ إلى الدَّاخلِ
ولمَّا صَارَحَها المَرَّةَ تلوَ الأخْرى
بأنَّ العِشْقَ اسْتَمْكَنَ منهُ حتَّى القبْر
قالت في أسفٍ :أحتاجُ طبِيبًا يحرِقُ لي قلقِي
فقلتُ :إنكِ تشفينَ أطِبَّاءَ الدُّنْيا
وليتَ الشَّكَّ يَصِيرُ كِتَابًا في
كيف امرأةٌ تعشْقُ رجُلًا يجلسُ طُولَ الوقْتِ بالمِصْبَاحِ المُسْرَجِ يُحْصِي الحُبَّ وينظرُ في شُرْيَانِ العِشْقِ ويخشَى ألا تأتِي قصائدُهُ
ولا تَرْتَطِمَ برَأْسِ الأيَّام
وألا تدْخُلَ نفَقًا طَوْعًا أو كرهًا كي تنْفَقَ فيهْ
وألا ينقَبِضَ القلبُ منَ الغَضَبِ لأنَّكِ صِرتِ العَالمَ وأنا من دُونِكِ قد أذهبُ نَحْوَ العُزلَةِ أو مَحْوِ الأيَّامِ منَ التَّاريخِ ، أو أبقَى هَدَفًا للومِ وللتوبِيخِ وللإخْفَاقِ المَاضِي.
لما أمسكُ أعلَى ذِرَاعيْهَا – أسفلَ كتفيْها بقليلٍ-
أتلمَّسُ رِياحًا بارِدَةً فأجَنُّ منَ الشَّوقِ وتطلبُها نَفْسِي
وهِيَ أيضًا رِيحُ بَرَارٍ
هِيَ حَقْلٌ أوسَعُ من بحْرَيْنِ وبِضْعِ سَمَواتٍ من خَامِ العِشْقِ
تغضبُ ممَّا لا يُغضِبُ طيْرًا بين يديْها
وأنا عِشْتُ طَويلًا أنتظِرُ امرأةً لا تقلَقُ
لا ترفَعُ صَوْتَ الشَّكْوى أعلَى من جُدْرَانِ البيْت
وأرَانِي حُرًّا حِينَ أكُونُ طَليقًا بَرِّيًّا في وادِي النَّهديْنِ
وأسألُ هلْ في الإمكَانِ زِرَاعةُ أرْضٍ هِيَ أصلًا لِي
وأخترقُ الآفاقَ لعلِّي أحْذِفُ منْ قَامُوسِ اللغَةِ القلقَ
وأمحُو منْ كُتُبِ العِلْمِ طبيبَ النَّفْس
وأفكُّ العُقَدَ لتبقَى المَرْأةُ طَيْرًا بجَنَاحيْنِ من اسْمِي
يَعْلُو دُون إيابٍ أوْ حَيْرَةْ.
هَذِي امرَأةٌ لمَّا تزْعَلُ مِنِّي
يتغيَّرُ لوْنُ سَمَائي
يضِيعُ الأزْرَقُ فِي الألوانِ
يغِيبُ الجَوْهرُ في النَّصِّ
ويمُوتُ إلهٌ مِصْريٌّ في المعبدْ
ويُصَابُ الشِّعْرُ
وأنَا أمشِي وحْدِي
والنَّاسُ تمُرُّ
وطُيورٌ فيَّ تَطِيرُ ولا تخْرُجُ نَحْوَ الأزْرَقْ.
القاهرة
4من يونيو 2024 ميلادية
**
تَرْعَى عُشْبَ نجُومِي
كُنتُ خَفِيفًا حِينَ بلغْتُ المَوتَ
وكُنتُ سرِيعًا حِينَ تبَاطَأَ ناسُ الشَّارع
كُنتُ وحِيدًا حِينَ اكتملَ القمرُ
ونام على صدرِ امْرَأةٍ أعشْقُها
كُنتُ مليئًا بالحُبِّ وكُلِّي إشرَاقٌ
أحسبُ خطواتي نحوَ سَريرٍ لي في الفُندُقْ
أبقَى ضِدَّ الذَّبحِ وضِدَّ الرِّيح.
عرَضَتْ أن آتِي للبيْت
لتَرْعَى عُشْبَ نجُومِي من هجماتِ الذِّئب
تجمَعَ ما سقطَ من الأنفاسِ على الأرْض
وتُحصِي ما كتبتْ رُوحِي من شِعْرٍ
تذكر لي ما معنَى الجَزْر
ومعنى المدّ
فأقولُ لها:
أنا لا أعرفُ جزْرًا حِينَ أُحبُّ امرأةً
تصهلُ في الفَجْرِ كعُشْبٍ بحْريٍّ
وحِينَ أجِيشُ كنَارٍ تصْعَدُ مثل القوْسِ
بألوانٍ لا ينطفىءُ بريقُ يدَيْها
وأنا غيْمٌ يُبْحِرُ نحْوَ البيتِ
ويبقَى في شُرفَتِها يرسلُ نحْوَ اللغةِ رَذَاذَ النُّور
أرسُو في الصَّدْرَيْن كَضَوءٍ يبحَثُ عن فردوسٍ يَحيَا فيه
طُفْتُ كثيرًا أمس
ورُحتُ تِجاهَ الشَّاطىءِ مُختَبِئًا في اسمٍ ثانٍ لي
أمشِي مثلَ الطيْفِ كأرْضٍ تضْربُ غضبًا
يأتِي من حقْلٍ تتدَاخلُ فيهِ سنابلُ قمحٍ.
الآنَ وحيدٌ في الشَّارِع
في إثرِي شجرُ الخُبزِ
وعِطْرُ الشَّعْرِ الأسْوَدْ
ووفاءٌ بحياةٍ لم يعرِفْها العاشقُ قبلي
ونجُومٌ نزلَتْ من نَهْديْها فجْأةْ
وحُرُوفٌ عَجْلَى
وهداهدُ أبصرُ من شَجَرِ الزَّرْقاء
ويمامٌ لا يعرفُهُ شيخُ الصَّيَّادِين
وزخارِفُ تتدلَّى مثل كُؤُوسِ نَبيذٍ
وقصائدُ شَاسِعةٌ تحملُ عرْشَ حبيبي
حِينَ يَحُطُّ البرقُ جوارَ البابْ.
الآنَ أحَرِّكُ مَائِي
نحوَ شراعٍ يعبرُ بِي لموانىءَ أُخْرَى
لأماكنَ لا تغرُبُ عنها شَمسٌ
ونوافذ تبكي عندَ الغَسقِ
وعندَ الغَرَقِ
وعِندَ تخُوم الليل.
سأخيِّبُ أملَ المَوتِ
وأبقَى أطولَ منْ عُمر الحُبِّ
وأنقَى من جوْهَرِ نُورٍ
أتلامَسُ مثل كمانٍ لا يعرفُ للدَّمعِ مكانًا
وأجُوبُ الأمكنةَ لعلِّي أصلُ إلى نُقطتِهَا
أطوفُ كشمسٍ حولَ مياهٍ تهدرُ منْ شَطَّيْها
أبدُو وسطَ الشارعِ مثل كتابٍ
لا يختِمُهُ حِبْرٌ
ولا يُنهيهِ الحُب.
ومثل سماءٍ لا تعرفُ
أصْدَاءً إلَّا صوتَ امرأتي
حينَ تزُومُ
وحين تفجَّر كهفُ السُّكْرِ
بلا أدواتٍ منْ خَارِجِها.
المنصورة
21من يوليو 2024 ميلادية
*
تُوجَدُ جُثثٌ أكثرُ مِمَّا يتَخيَّلُ هُدْهُد
في الشِّارعِ
عندَ البوَّابةِ يُوجَدُ قبرٌ محْفُورٌ قُرْبَ البيتِ
وأمامكِ بِضعةُ أيَّامٍ للدَّفنِ
فهل جَهزتِ الأكفَانَ
واخترْتِ الأمواتَ
ومن سيشيِّعُ غيرُكِ
هل أقترحُ عليكِ ؟
تُوجَدُ جُثثٌ أكثرُ مِمَّا يتخيَّلُ هُدهدْ
فلنبدأ بهدُوءِ البيْتِ الخَادِعِ
ومخدَّتِكِ العذْراءْ
والمَاءِ المُتجمِّدِ في التَّاج
وحمامٍ كذَّابٍ مَحْشُوٍّ بالغدْرِ
قمصانٍ كانت لليالِي المُتعة
لا تَنْسَي هَذَا الخَوَفَ الجالسَ فوْقَ العتبَة
وقُشُورَ ظلامٍ بقيتْ في قَعْرِ الحَلَّة
أقنعةً نُقِعَتْ في الكذبِ طويلا
مطَرًا مقليًّا في الزَّيتِ
نارًا لا تطْهُو إلَّا الرِّممَ
مجْزَرَةً للغاتٍ فرَّتْ من تحتِ لسَانِ الأستاذِ
شمْسًا خُنثى فوقَ الجِلدِ تنامُ
عينًا مُلقاةً في الوحْلِ
صمتًا معجُونًا بالنسيانِ
أمسًا يشبهُ أشجَارًا لا لُبَّ لها
لا تَنْسَي ذَاكَ القَلقَ المُتحطِّمَ في المِنديلِ
ويُمكِنُ لي أن أقترِحَ كثيرًا من موتاكِ
فالقائمةُ طويلةْ
وأنا رجُلٌ لا ينسَى من خذلُوا النَّهرَ
ومن خانُوا حتَّى الخُسْرَان
فلندفن زيفًا فَازَ لبعضِ الوقْتِ على العَقْلِ
وحلَّقَ بجناحيْنِ من الخيباتِ
قُطَّاعَ الطُّرِقِ ومَنْ منَعُوا عنكِ الماءَ
وسرَقُوا ذهبَ أبيكِ
قوارضَ خرجتْ من أفواهِ لُصُوصِ اللغَةِ
سمُومًا كانت تعمَلُ بالأجْرةِ عندَ القردِ الأجرَدِ
أسرارًا جافَتْ من فرْطِ عمَاهُ
نُورًا محْشُورًا كان كثيرَ الكذبِ عليكِ
عُزلاتٍ مثلَ رَوائحَ طُرُقٍ مُوحِلةٍ
كانت تؤلِمُ شَعْرَك.
التفتِي
مازال هُناكَ مكانٌ للموتَى
لكن لا يُوجدُ مَعْزَى
يُمكنُ أن نُشْعِلَ في الجُثثِ النَّارَ ببُطءٍ
ويُمكِنُ أن نركُلَ كُلَّ جماجمِها بلا نَدَمٍ أوْ رَحْمَةْ
من مُنتصفِ الليل إلى مَطْلعِ شَمْسِكْ
ولا تحتاجِينَ شُهودًا
فمنْ ذَا يهتمُّ إذا فرِغَ الكُرسيُّ
وباعَ التجارُ ضمائرَهم بالرطْلِ
وأنا أتنفَّسُكِ
وأساعدُ في الحرْق.
القاهرة
26من يونيو 2024 ميلادية
*
رُحْتُ أشدُّ أسَاكِ من الجُمَلِ المَنْسيَّة
ماذَا لو أغرْقَنَا الماضِي فِي النَّهْر
ماذَا لو شَطَّفنَا قلبيْنا بالنَّار
ماذَا لو سِبنَا اللغَةَ تنَامُ على شفتيْك
ماذَا لو رُحْنا إلى آخرِ سطْرٍ في الحُبِّ
ماذَا لو كانَ الموجُ يُلاطِمُ شطِّي كُلَّ نَهَار
ماذَا لو قضمتْنِي شَفتَاكِ كيومٍ فائت
ماذَا لو عِشْتُ أشمُّ روائحَ جسدِكْ
ماذا لو كتمَ لسانُكِ رُوحِي
ورُحْتُ أشُدُّ أسَاكِ مِنَ الجُمَلِ المنسيَّة
ماذا لو كَسَّرْتُ المِرْآةَ الآنَ
إذْ إنَّكِ طُولَ الوقتِ تطِيرِينَ إليها
وأنا أتهجَّاكِ فرَاشًا يكتُبُ سِيرةَ دُنياي
وأعرفُ ما اسمي
وأين أكُونُ
ماذا ؟
إنِّي أستفهمُ
وأشيرُ إليكِ
وأسمِّي الأشياءَ بحرفٍ من عينيْنِ
فأنتِ الشَّيءُ
وكُلُّ الأشياءْ.
القاهرة
27من فبراير 2024 ميلادية
الدَّالُّ علَى مَاءٍ ينبعُ منْ كفَّيْهَا
هُو لُغزٌ
وبعضُ الأسئلةِ بلا أجْوَبةٍ
يتحَصَّنُ باللهِ
ولا يقدِرُ طَيْرٌ أنْ يفتكَ بهْ
يَجُوعُ ويعطَشُ
ويُسافرُ أكثرَ من طَائرةٍ في الرِّيحِ
وأكْثرَ من عقلٍ في الحُلم
يكشِفُ سِرَّ المَاءِ
ولا يُفْشِي سِرًّا
يمكُرُ
ويسِيرُ وحِيدًا في الدُّنيا
ابنُ مَمَالكَ ونساءٍ من أهلِ الذِّكْرِ
يَحمِلُ أسْرَارًا منْها
ويعرفُ ماذا تُخفِي سيدةٌ في فُستَانٍ مَتْرُوكٍ في الجِهَةِ اليُسْرَى من دُولابٍ
لا يهدَأُ من فرْطِ البحْثِ عن السُّكْنَى
لا يَغترُّ بِعُرْفٍ مَمْنُوحٍ لهْ
مثل امرأةٍ سُئِلَتْ يومًا : هل شَعْرُكِ هذا مصبُوغٌ بالأسْوَدْ؟
تتنقَّلُ بين مكانيْنِ
أبْصَرُ منها لم يُولد بعد.
وفي الليلِ تنامُ على صوْتٍ يَطلُبُها
ألَّا تتأخَّرَأكْثَرَ في تسدِيدِ فواتيرِ المَاضِي
تتَفَقَّدُ طَيْري
وترَانِي هُدْهُدَها الغَائِبَ مثلَ نبِيٍّ
جَاءَ بِلا مُعجزةٍ إلَّاها
والدَّالُّ على مَاءٍ ينبُعُ من كفَّيْهَا.
القاهرة
17من ديسمبر2023ميلادية
………………………
*خمسُ قصائد من ديوان الشاعر أحمد الشَّهاوي “أتحدَّثُ باسمكِ كَكَمان”، بمناسبة وصوله إلى القائمة الطويلة لجائزة زايد،فرع الآداب