خليل حنا تادرس.. معادلة الكتابة: التشويق والدرس التوعوي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. رضا عطية

حين جاءتني الدعوة من مجلة “الثقافة الجديدة”* للكتابة عن خليل حنا تادرس كان ترددي: من أين أبدأ؟!. ولكني آثرت أن أبدأ من مدخل شخصي بشهادة عنه ثم الانتقال إلى أدبه كظاهرة مهمة ولافتة.

لقد جمعتني بالأستاذ خليل حنا تادرس وبأسرته الكريمة علاقة صداقة وجيرة في حي الظاهر القاهري لما يقرب من ربع قرن، واللافت، بالنسبة لي، أنَّ ابنيه الأستاذين سامح وأشرف لم يذكرا لي منذ بداية علاقتي بهما أنَّ أباهما كاتب جماهيري ونجم كبير لدى شريحة عريضة من قراء الأدب، كذلك الأستاذ خليل حنا تادرس، الذي عرفته نبيلاً، وقف وأسرته الكريمة معي في كثير من الظروف القاسية والمحن، لم أجده ككثيرين غيره من الكتَّاب الذين يلاحقون النقَّاد وغير النقَّاد من أجل الكتابة عنهم والترويج لهم.

ربما يكون هذا المدخل مهمًا ومساعدًا على الانتقال إلى مسألة محورية ومهمّة تتمثَّل في تساؤل رئيسي وملحاح أو مجموعة من التساؤلات التي تعني بتفسير عدم تناسب ما كُتِب عن خليل حنا تادرس من نقد ودراسة بما لاقاه من رواج جماهيري كبير، إذ يكاد يكون، خليل حنا تادرس، وذلك لعدم توفّر إحصائيات رسمية حاسمة، الكاتب الأكثر مقروئية، في الفترة من أوائل الستنيات من القرن العشرين حتى منتصف أو أواخر ثمانينياته.

بدايةً، يجب أن نعترف بأنَّ ثمة مجموعة من التقسيمات الثنائية التي تكاد تأخذ طابع التقابل القطبي في التصنيف الأدبي من نوعيات مثل: أدب المركز في مقابل أدب الهامش، الأدب الرسمي في مقابل غير الرسمي، الآداب العليا في مقابل الآداب الدنيا، الكتابية في مقابل الشفاهية، الفصحى في مقابل العامية، وغيرها من نمط هذه الثنائية “الحادة” في فصلها النوعي وتقابلاتها القطبية.

غالبًا، ما كانت الدراسات الأدبية تنحاز بشكل يكاد يكون مؤسسيًّا لنوع أدبي بعينه مع عدم النظر بأي عين اعتبار لما دونه، ولنا أن نتأمل موقف النقد المحافظ ولا سيما اللغويين من شعر العامية حد أنَّ شاعرًا فارقًا بحجم وقيمة عبد الرحمن الأبنودي لم ينل شعره- إلى عهد قريب قبل إطلاق جائزة باسمه، بها فرع للدراسات حول شعره- العناية النقدية من الدرس الأدبي، بسبب تلك الرؤية الجامدة لهذا النوع من الأدب. ثم كانت هناك مشكلة أخرى وهي أنَّ بعض محاولات القراءة لبعض هذه الأنواع الأخرى غالبا ما كانت تستعمل المعايير وأدوات التحليل التي كانت تُستعمل في درس الأنواع الأدبية والفنون الجمالية “المكرَّسة” فيتبدى أنَّ ثمة بونًا شاسعًا بين هذه وتلك.

يبدو الاتجاهان اللذان اتخذهما الدرس الأدبي من نوعية كتابات خليل حنا تادرس ومن عرفوا بكُتَّاب الأدب الجماهيري، أو الأكثر مبيعًا، وأصحاب ظاهرة “البيست سلر”، بين تجاهلها التام والاستعلاء النقدي نحوها، أو معاملتها بنفس معايير وأدوات التي يدرس بها الأدب النخبوي أو الكتابة الطليعية، دونما إتاحة الفرصة الكافية لدراسات التلقي وعلم اجتماع الأدب لدراسة مثل هذه الظواهر ومعرفة أسباب الانتشار الجماهير لكتابة بعينها.

تعددت مجالات الكتابة لدى خليل حنا تادرس، فلم تقف عند حد كتابة الرواية أو القصة الطويلة، “النوفيلا”، وإنَّما اتسعت وتشعبت لتشمل علم النفس بالتعريف بأهم النظريات فيه والتنمية البشرية، والأبراج وكذلك ترجمة عدد كبير من الأعمال الأدبية الكبرى وتمصير بعضها بالتصرُّف في النص المنقول.

نشر خليل حنا تادرس قصته الأولى، شيطان الحب، في العام 1958، وهو في التاسعة عشر من عمره، في مكتبة رجب، بالعتبة، ثم توالت أعماله التي حازت قبولاً جماهيريًّا وانتشارًا واسعًا، مثل: نشوى والحب، عمله الأشهر الذي أصدره في العام 1965، وأعيد طباعته لما يناهز العشرين طبعة على مدى ربع قرن.

كانت التيمات السائدة في روايات حنا تادرس قصص الحب والسقوط والغدر، ولنا إذا أردنا محاولة تفسير ظاهرة اتساع مقروئية أدبه في وقتها في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حتى إنَّ ناشرين عربًا وخصوصًا من لبنان، كالمكتبة الثقافية، ودار الجيل قد أقبلت على طباعة كتب تادرس، في غير طبعة- فعلينا أن ندرس السياق الذي هيأ لهذه الحالة. سنجد مثلاً أنَّ اتشارًا كبيرًا قد حازه كاتب مثل إحسان عبد القدوس- الذي صرَّح لي خليل حنا تادرس بأنَّه كان يعتبره أستاذه وقدوته في الكتابة- كان لنوعية الكتابة التي تدور حول قصص الحب الملتهبة العواطف والعلاقة الجدلية بين المرأة والرجل. تلك الكتابة التي تقوم على التشويق، حيث غالبًا ما تواجه قصص الحب بين الرجل والمرأة رياحًا عاتية أو غدر أحدهما بالآخر، كما أنَّ عناية السينما بتحويل قصص هذا النوع من الأدب أفلامًا، كما حدث كثيرًا مع إحسان ساهم في مضاعفة الإقبال الجماهيري عليه.

مع عبد القادر حاتم وزير الإعلام المصري الأسبق
مع عبد القادر حاتم وزير الإعلام المصري الأسبق

يقدِّم خليل حنا تادرس معادلة متوازنة في الكتابة، بين عنصر التشويق بتقديم قصص الحب والسقوط الملتهبة، وكذلك التحليل النفسي والاجتماعي لأسباب سقطات أبطال قصصه ويترك لهم طريقًا للرجوع بعد استيعاب أسباب سقوطهم في الخطأ واقترافهم الخطيئة، فتحتوي رواياته بعدًا توعويًّا وإرشادًا نفسيًّا وتوجيهًا أخلاقيًّا، بشكل غير مباشر في روايته الأشهر، نشوى والحب.

لا يمكن الدخول في نصوص حنا تادرس القصصية دونما المرور على تقديماته لها، كما في مقدمته لرواية نشوى والحب:

عزيزي القارئ

تحية طيبة

قبل أن نلتقي معًا في نشوى والحب… وقبل أن تغمرك نشوى في نشوتها.. أمدُّ لك يدي مصافحًا يدك.. شاكرًا لك ذوقك الأدبي وتشجيعك لرسالة العلم والأدب.

(….) وأما نشوى .. نشوى الفاتنة الساحرة التي سوف تجعلك معها في أفراحها وأحزانها.. في سقطتها وفي توبتها..، فإنَّها صورة صادقة لإحدى الفتيات المستهترات اللواتي تمتلئ بهن الحياة..

وإنّي لا أقول إنَّ نشوى هذه من نافذة خيالي.. أو من بنات أفكاري ولا أقول إني عشت في حياة نشوى  كل لحظاتها ولازمتها كظلها حتى أكتب عنها هذه الصفحات الطوال..، بل كان دوري في حياة نشوى أني كنت أعرف أنَّها مستهترة.. عابثة.. غزال شارد يحاول أن يجد الدفء والراحة بين أحضان الرجال.. أن تعيش في نشوة..

وليس هذا السبب في أن استوحي من هذه الحياة العابثة أفكار قصتي وإنَّما كانت نهاية نشوى.. مصيرها الذي شهددته بعيني رأسي هو الذي جعلني أضرب كفًا على كف في دهشة وذهول ثم أستسلم لسيل الأفكار الذي راح يتدفق على رأسي كسيل منهمر.. ورحت أكتب قصة نشوى.

من البداية، يبدو حرص الكاتب على أن يمد جسرًا للألفة والمودة مع قارئه، يؤسس نصه القصصي بمدخل افتتاحي فيما يشبه “البرولوج” المسرحي الذي يقدِّم من خلاله السارد في المسرح للحكاية المسرحية. يعلن الكاتب عن أنَّ لقصته جذورًا في الواقع وأنَّها ليست كلها من خياله، مشددًا على حقيقية النهاية المأساوية لبطلتها، فينطلق الكاتب في سرده من استحضار القارئ واصطحابه معه، وكذلك من مبدأ كلاسيكي في الأدب عرفه الأدب العربي في إرهاصات الكتابات القصصية التي خرجت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يقوم على إقناع المتلقي بأنَّ القصة المسرودة له جذور في الواقع من أجل إقناع المتلقي وتشويقه.

وفي الفصل الأول من رواية نشوى والحب تسرد البطلة حكايتها وبدايات سقوطها:

وتبدأ قصتي وأنا عمري عشرة سنوات.. عشرة فقط.. كنت صغيرة لا أفهم أي شيء… ولكن رغم ذلك فقد اتهمت بأني “قليلة الأدب” (….) ومناسبة هذه العبارة حادثة صغيرة.. ولكنَّها عندي كبيرة.. كبيرة جدًا ظهرت أمامي الآن بوضوح.. كان الوقت ليلاً.. وكنت أرقة أتقلَّب في فراشي أريد النوم.. والنوم هارب مني.. وجلست على الفراش ثم أضأت النور ونظرت حولي فلم أجد إلا داده نعيمة ترقد على فراش آخر في ركن من أركان الحجرة وهي في بحر واسع من النوم..، وخيل لي وقتها أن أوقظها. ولكن لماذ أوقظها ولست في حاجة إليها..

وقفزت إلى عقلي فكرة.. لماذا لم أذهب إلى حجرة ماما لأنام معها؟ وبخفة الظبي نهضت من فراشي وتسللت إليها وأنا حافية ونظرت للحجرة وهي مغلقة وكانت مضاءة من الداخل وصوت أمي وهي تضحك ضحكات خافتة ممتزجة بضحكات أبي وفتحت الباب دون أي استئذان أو دون أن أطرقه ودهشت لما رأيته، لقد كان والدي جالسًا على حافة الفراش وأمي أمامه تخلع ملابسها وتوقفت عن خلعها عندما رأتني أقف أنظر إليها وقالت في دهشة وغيظ:

-نعم.. عاوزه حاجة؟

ولم أجبها عن هذا السؤال فقد تجاهلته وسرعان ما عادت بي ذاكرتي يوم أن كنت ألعب في الحديقة مع صبية من أولاد الجيران وقد جلست على النجيل الأخضر وثوبي يعلو فخذاي وجاءت أمي، وعندما وجدتني هكذا نهرتني قائلة:

-تغطي يا بنت، ثم مالت عليَّ وأخذت يديَّ تنهضني وهي تقول:

-وأوعي تتعري كده أمام رجالة.. سامعة

والآن وقد رأيتها تتعرى، بل وتخلع ملابسها أمام أبي فلماذا لا أذكِّرها أنا وأطلب منها ألا تتعرى هكذا وخاصة أمام رجل.. أبي..

وقلت بسذاجة وبراءة أطفال:

-ماما وانتي بتتعري ليه؟

ونظرت إليَّ نظرة تحمل من الغيظ والحنق أكثر ما تحمل من الحب والحنان وقالت:

-امشي اخرجي بره.

ولكني لم أخرج ونظرت إليَّ مرةً أخرى وقد كسى وجهها ثوب الثورة والغضب عندما وجدتني مازلت واقفة كالتمثال لا أتحرَّك ولا أطيع لها أمرًا.. وضحك والدي الطيب قائلاً:

-أصل.. أنا بابا ومش عيب

ومرة أخرى نظرت إليها وصممت أن أجادلها وقلت:

-إنتي مش قلتي.. أوعي تتعري أمام أي راجل؟

وعلت وجهها شبه ابتسامة وقالت:

-لكن بابا مش راجل..

ودون أن أفكِّر وفي براءة وسذاجة قاطعتها قائلة:

-أمال يعني امرأة؟

وضحك أبي طويلاً وقد مالت رأسه إلى الخلف.. ونهرتني هي قائلة:

امشي “يا قليلة الأدب” وخرجت من عندها مهزومة وأنا لا أصل إلى أي نتيجة..

يبدو في بناء خليل حنا تادرس لشخصياته أنَّ ثمة عناية بالتشكيل السيكولوجي لديهم وإبرازًا لجذور مآسيهم، فبطلته هنا، نشوى، تبدو ضحية لالتباس المعايير الأخلاقية لديها من مفارقة نهي الأم لها عن التعري أمام رجال غرباء ومشاهدة الابنة لأمها تتعرى أمام أبيها الذي تعبره رجلاً مثل غيره من الرجال التي كانت أمها تنهاها عن التعري أمامهم. فتحتوي قصص تادرس على أبعاد أخلاقية وتربوية وفعلاً توعويًّا.

ويأتي أسلوب خليل حنا تادرس بسيطًا وسهلاً في الأداءات اللغوية للسرد، مع قصر الجمل التي تجعل إيقاع السرد سريعًا، فضلاً عن بعض التكرار التتابعية لبعض الكلمات المفتاحية التي يكون لها مركزية دلالية، فضلاً عن انخفاض نسبة المجازات والصور لاتباعه أسلوب مباشر في السرد. كما يعتمد خليل حنا تادرس على التوازن بين الوصف السردي والحوار الذي يبرز الأفكار التي تدور في وعي شخصياته.

…………………….

*نشر هذا المقال في مجلة الثقافة الجديدة عدد أبريل 2022.

 

مقالات من نفس القسم