أحمد العشري
هذه تذكرتي المجانية للحفل الكبير.
وأنا أطفئ شمعةً،
كمن يؤجّل موته قليلًا،
داخل هذا الجريون البارد.
في حقيبتي السرية:
أصدقاء بوجوهٍ معتمة،
وأعداء يبتسمون ببرود،
نجوم كثيرة بلا سماء،
والضحك يذوب ويترك،
شفاهنا مالحة.
ثمة حديثٌ يعود من حياةٍ أخرى،
نخدعُ به ملائكةَ الموتِ والرحمة،
ثم نبتسم ليسحب ظلنا من المكان.
صرختُ بالأمنية حتى تظهرَ بروحها
وتمسكُ بقميصي وتهمس:
“مكالمةٌ واحدةٌ كانت كافيةً لأن أكرهك!”
كانت تشبه صوفيا كوبولا تمامًا،
عيناها تكادان تسيحان من حرارة وجهها،
تلك العيون التي تميل إلى الأرض قليلًا
وتترك أثرًا من ضوءٍ على كل ما تمرّ به.
هي جملةٌ من أغنيةٍ كتبها الرحابنة
ونسيها أحدهم في صوت “هدى حداد”.
وجهها من حنينٍ وتعب
أقسم أن ملامحها وُلدت في لحظةٍ واحدةٍ
ثم ندمت!!
حركتها — كقصيدتها وصوتها —
تسير ببطءٍ محسوب، كما لو كانت تخفي سرًّا داخل جسدها.
تلتفت بخفةٍ، كأنها تسمع نداءً لا يسمعه سواها،
وأحيانًا يرشدها ذلك النداء إلى جسدي.
وحين تمرّ داخله، يلين الهواء حولها،
ويبدو العالم كخلفيةٍ تعيد ترتيب نفسها.
هي مفقودة في الترجمة،
وأنا خطأ في زمنٍ خاسر،
تلك البنت تشبهني أكثر مما ظننت،
نعم، تشبهني.
“مكالمة واحدة كان كافية لأن أكرهك!”
كنا نظنّ أننا نبدّل نجومنا،
نقتلعُ اليقينَ منها،
لنتركُ المساء عارياً.
كنتُ أسكب مياهي في هواءٍ يضيقُ بي،
وهي تمشي على خيطٍ من نور،
كبهلوانٍ يروضُ سقوطَه،
لتوازنَ بين قلبي وهاويتي.
حين نلتقي يمتلئ الهواء بالملح
ويصير الغياب موسيقى يمكن لمسها.
نوفمبر يكرهني وأنا أكرهه،
لكنها تشبه نوفمبر:
دافئة، متعبة،
تلمعُ بكسلِ نجمٍ يحتضر.
في كلِّ قصيدةٍ منها
تعويذةٌ تنبتُ في ليلِنا قبورًا صغيرة،
وفي كلِّ جرحٍ على نهدِها
نافذةٌ تؤدي إلى سردابٍ سري.
علّمتني أن المدنَ التي تقع على البحر
تلدُ النساءَ المذهلاتِ والحروبَ معًا،
وأن الحياةَ يمكن أن تُحتمل
لو قابلتُ نفسي التائهة على
شاطئ بعيد.
صرنا شخصين
يبتكرانِ طقسًا صغيرًا ضدّ العالم:
ضحكة، كأس، موسيقى، غياب –
ونعيدُ الطقسَ كمن يصلّي
خوفًا من نشوة لن تكتمل
في أحشائها !!
لتغنّي في يوم ميلادي
وتنعى المعجزة:
“الكرسيّ الفارغ يضحكُ عليك،
الزجاجةُ الفارغةُ تصفّقُ وحدَها،
الأغنيةُ القديمةُ تُعادُ بلا صوت.
مدَّ يدَك عبرَ الهواء،
لكنْ لا تنتظرْ يدي.
افتحْ نوافذَ الذاكرة،
ضعْ كأسين لا كأسًا واحدًا،
وانتظرْ أن تسقطَ نجمةٌ أخرى في البحر.