خدعة المطار

دانييل لفانتى بال
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصة: دانييل لفانتى بال

ترجمة: أ. محمد سعد صالح – د. عبدالله عبدالعاطي النجار

حل المساء، وقد التهمت أشعةَ النهارِ الأخيرةِ جوعا أضواءُ المدينة المُشعلة مجددا على نحو متتابع، وقُمعت أصوات الطيور المحلقة من حديقة الأعشاب إلى هنا مع نفاد صبر سائقي السيارات في طريقهم إلى منازلهم في نهاية يوم عمل شاق. كنت أقف في ميدان أورتسي، في انتظار الترام.

شاهدت لبعض الوقت فتى غجريا يتجول في المحطة متنقلا من شخص إلى آخر ممن يقعون في طريقه، وراقبت كيف يشرح لهم بإيماءات وحركات، وكيف يهز شعره الملتوي في عقد مضطربة، وكيف تلمع عيناه بشغف إذا تحدث، وكيف يخفت الضوء في عينيه إذا عض على الكلمات.

انتظرت أن يأتيني، وناداني أنا أيضا سائلا بالإنجليزية باندفاع:

– هل تتحدث الإنجليزية؟

لم أكن أتوقع هذا التصرف منه وبهذا الشكل، لكنني رددت إليه الكرة المزينة بعلامات الاستفهام الكثيرة مباشرة.

– خدعة المطار؟

(ما يسمى بـ”خدعة المطار” كانت في وقت من الأوقات طريقة شائعة في المقام الأول بين المتسولين والشحاذين بمختلف درجات عوزهم. عادة ما كان يستخدم الشباب منهم هذا الأسلوب بمفردهم أو في أزواج، خاصة حول سينما كورفين، في العيادات، أو في ميدان ناجفاراد، بالقرب من إحدى محطات خط المترو الثالث. كانوا يذهبون إلى الشخص الذي يقع عليه اختيارهم ويبدأون في الاستفسار منه بلغة إنجليزية متواضعة كيف يستطيعون الوصول إلى المطار. في بلدنا، كان هذا الأمر يزعج مواطنينا الذين يتمتعون بمعرفة ضعيفة باللغة الإنجليزية، كانت هذه الحيلة تعمل بنجاح، حيث كان يحاول المختارون – الذين يبدون في الغالب كسياح شباب يحملون حقائب ظهر – مساعدتهم عن طيب خاطر، ويبدأون في شرح الطريق بمختلف الإشارات بأيديهم، أو بصوت بطيء ومرتفع – إذ إنه من المعلوم للجميع أن لغتنا يمكن فهمها بشكل أفضل بهذه الطريقة، كأنها إسبرانتو تقريبا – تكرار “تـ – ـذ – ـهـ – ـب – إ – لـ – ـى – ا – لـ – ــمـ – ـتـ – ـر – و … ا – لـ – ــمـ – ـتـ – ـر – و … هل تفهم ذلك؟” ثم يلي ذلك الجزء الثاني من الخدعة، عندما يفهم الشخص المختار معنى كلمة مترو، يلجأ المتسول من بين أدواته التمثيلية التي استغلها على هيئة فيلم صامت بشكل مبالغ فيه إلى إبداء تعابير وجه حزينة بشدة، وينظر بيأس أكثر وأكثر إلى الضحية المستعدة لمد يد العون والمساعدة، ثم يشرح لها بالطريقة ذاتها أنه لسوء الحظ لم يعد لديه ما يكفي من فورنتات لشراء تذكرة مترو، طارحا سؤال هل من أحد يستطيع مساعدته. تكلل هذه الخدعة في معظم الأوقات بالنجاح – لأنه متأصل في روح الشعب أننا متعبون بالفعل فيما يتعلق بنا، ونترك ما ينتمي إلينا يضيع، لكننا نساعد الأجنبي. لا يجب أن يقول عنا أحد أن المجريين ليسوا مضيافين!)

– يا إلهي ، كم سررت بذلك ، أنت مجري! تنهد الولد بارتياح كأن شيئا كان متوقفا على ذلك.

– قلت تلقائيا بلا تفكير: عظيم، حسنا! – لكنه بدأ حينها يتحدث بسرعة باهتمام إلى حد ما.

– اسمع، اسمع هذه حزمة من الأدوية هنا، مهدئات ومحسنات للحالة المزاجية، أنا لست متشردا، انظر، ها هي الروشتة بالفعل، لم أستطع صرف هذه الروشتة فقط، هذه هي أهم روشتة.

– كنت أود أن أقول له: لا أستطيع أن أعطيك نقودا الآن. – لكنه قاطعني بجزع:

– هذا ما يحدث دائما، الجميع يتحدث عن المال. الجميع يتحدث عن النقود اللعينة! إذا لم أتناول هذه الأدوية، فسوف يتلاشى أثر العقاقير التي أتعاطاها، وستنتباني حالة من الغضب والجنون، لقد اضطروا إلى الاتصال بالشرطة المرة الماضية! سيزول أثر الدواء، هل ترغب بذلك؟ هل تريدون ذلك، عليكم اللعنة؟!

شعرت أنه لا يمكن أن يكون لذلك سوى نهاية واحدة بالطريقة التي يرغب بها كلانا، أنا وهو: بحثت في جيبي، وأخرجت في قبضة يدي بعض النقود المعدنية.

– هذا كل ما لدي، تفضل!

أخذ  النقود، ونظر فيها، ووضعها في جيبه، ولم يقل سوى، “جيد” بالإنجليزية، ثم غادر بالفعل.

مرت دقائق، ربما ربع ساعة، لم يرغب الترام في القدوم. قام الفتى الغجري بجولة جديدة، بالضبط كما فعل منذ قليل، وجاء إليَّ مرة أخرى.

– سأل بالإنجليزية: هل تتحدث الإنجليزية؟

– قلت له بتعجب: “لقد التقينا بالفعل وأعطيتك ​​نقودا من أجل الدواء.

أخذ يفكر ماسحا العرق المتصبب من جبهته، ونظر بعمق في عيني:

– قلت إنني مريض. وإنني بحاجة ملحة إلى هذا الدواء. أرأيت، ليس لدي ذاكرة قصيرة المدى.

…………………………….

*القصة من كتاب “الحي الثامن – بودابستلدانييل لفانتى بال المتوقع نشره في منتصف 2021.

*دانييل لفانتى بال “Pál Dániel Levente: كاتب وشاعر ومؤلف مسرحي مجري شهير، ترجمت أعماله إلى عدة لغات أجنبية من بينها العربية، منها ديوان “لم نعش سدى” الذي صدر في القاهرة العام الحالي.

* محمد سعد صالح: مترجم مصري تخرج في كلية الألسن بالقاهرة قسم اللغة الألمانية والمجرية. كما درس بجامعة إتفوش لوراند الشهيرة بالمجر. لدية بضعة كتب مترجمة صدرت بمصر.

*د. عبدالله عبدالعاطي النجار: مؤرخ ومترجم وباحث مصري. له كتب مترجمة منشورة عددها 31، وكتب مؤلفة عددها 14، ولديه مجموعة من الأبحاث العلمية المنشورة بدوريات محكمة وصل عددها حتى الآن 39 بحثا بالعربية والإنجليزية والمجرية.

 

مقالات من نفس القسم