محمد فهمي
عند العاشرة مساءً ليلة الجمعة، أثرت أن استمتع بما تبقى من ساعات الليل قبل نومي، فقررت القيام برحلة صغيرة داخل صندوق ذكرياتي. ذلك الصندوق الذي احتفظت فيه بأوراق مطوية كنت كتبتها مع والدي قبل رحيله. أوراق تحمل أمنيات منها ما تحقق، ومنها ما لن يتحقق أبداً.
فتحت الصندوق، وأزحت ما تراكم فوقه من غبار السنين. نثرت الأوراق على الأرض، فإذا بورقة حمراء مميزة تجذبني. انسابت دموعي بعد أن قرأتها، واستلقيت على الأرض. لم أشعر بشيء بعدها وفجأة اخترق أذني صوت أجش من بعيد
“اللي طلع يبعت الأجرة”.
ارتبكت. إلى من يتحدث؟ وإلى أين تمضي هذه الحافلة؟ ولماذا أنا هنا؟ أهذا الجسد يخصني أنا، نظرت إلى أطرافي، فإذا بي شاب يافع، بوجه تغطيه لحية وشارب. أرتدي قميصاً رمادياً تعلوه سترة صوفية سوداء مبتلة بالمطر، وقطراته تتساقط على النافذة.
“الأجرة يا حضرت!”.
يبدو أن هذا الضخم يحدثني، ومن غيري إذن؟ مددت يدي في جيبي، فوجدت نقوداً. ابتسمت في سري، دفعت الأجرة وأتممت أول مهمة لي في جسد الشاب، وجلست أتأمل الوجوه حولي. غرباء لا أعرفهم ولا يعرفونني، ولا يربط بيننا سوى ابتسامة عابرة.
وبعد نصف ساعة توقفت الحافلة عند محطتها الأخيرة. نزل الجميع، وبقيت متردداً: من سيحرص على آلا يصيبني مكروه؟ ومن سيرشدني؟ وبينما أنا غارق في حيرتي، شعرت بيد سمراء تربت على كتفي. تجمدت مكاني. إن استدرت ربما يحدث مكروه، وإن تجاهلت فلن تفلتني. بعد تردد التفتُ ببطء، فإذا بوجه مألوف.
– يا طه! بقالي ساعة بنده عليك
– (في عقلي) طه؟ أبي!؟
– يلا نروح القهوة، قالها عم سيد صديق والدي.
لا أصدق.. هل دخلت جسد أبي المتوفي؟ كيف؟! لكن ما أثلج صدري هو لقاء “عم سيد” صديق والدي الذي يعيش في الطابق الثاني من بيتنا. بالتأكيد سيحرص على سلامتي ويعيدني إلى جسدي من جديد.
توقفنا أمام طريق ضيق يمتد بين مبنيين عتيقين. الظلام حالك، والجو شديد البرودة، بقايا الطعام متناثر في الأركان، صندوق قمامة مقلوب تحوم حوله قطط الشوارع، وكلب مصاب بجرح في قدمه، وفي نهاية الطريق مقهى.
جلسنا في إحدى الزوايا. مد يده إلى جيبه وأخرج مفتاحاً وضعه أمامه، ثم سرح بنظره طويلاً في الفراغ. أخذ يسرد هموم عمله اليومية ومشاكله الأسرية وأخبرني باشتياقه لهذه الجلسة ليزيح ما في صدره.
بينما كان يتحدث، تسلل بصري بين الزبائن: منهم من يكتب رسالة، وآخر يستند على آلة موسيقية، وثالث يلتهم طعامه ويتابع فريقه المفضل. ثم وقع بصري على لافتة صغيرة في نهاية المقهى، كُتب عليها. (قهوة خبيني) تذكرت الورقة الحمراء آخر ما قرأته قبل أن أسرق جسد والدي “خبيني” تلك الكلمة التي كان يرددها والدي دائماً ومعها اسم “عم سيد”.
أغمضت عيني للحظة لشعوري بتعب شديد.. حتى فتحتها على صوت أمي توقظني.
– حد ينام على الأرض كده!؟
– معلش، عيني راحت في النوم
استعدت وعيي وجسدي معاً، وقفت عند النافذة أتأمل جمال السماء وسكون الليل وقطرات الندى، واسترق سمعي لآية قرآنية عالقة في ذهني منذ رحيل أبي “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”. تصاحبها أصوات غير مفهومة بالنسبة لي، وبدأت بعض السيارات تتوقف أمام باب العمارة، هبط منها رجال وسيدات بملابس سوداء، وعلامات الحزن تكسو وجوههم.لا أعلم من سيرافق أبي إلى دار الحق ولكنني دعوت أن يكون ضيفاً لطيفاً.