مريم الخطيب
لم يكن سقف الخيمة سوى قطعة قماش متهالكة، لكنها صارت لوحةً تُعلّق عليها النساء ذاكرةً لا تُقتل.
هنا، تتدلّى الصور الممزقة لأزواج فقدنهم، ورسومات الأطفال الذين صاروا تحت الركام، وجرار الأدوية الفارغة كشواهد قبور.
كل غرزة في الخيمة تحكي قصة، وكل ثقب فيها يسمح بدخول نورٍ يشبه الأمل، وإن بدا بعيدًا.
الخيمة ليست ملاذًا مؤقتًا، بل متحف مقاومة، ومزار نجاة، يعلّق فيه الفلسطينيون بقاياهم التي لا يستطيعون دفنها.
من بين آلاف الخيام البيضاء التي اجتاحت غزة، ظهرت خيم النساء كأرشيف حيّ، تحفظ ما تبقى من حيواتٍ محطّمة.
امرأة من رفح تُمسك صورةً قديمة وتقول: “هذه هي كل ما بقي من بيتي… أخشى أن تذوب مع المطر، فأحفظها في صدري.”
تتناثر داخل الخيمة بقايا شهادات ميلاد محروقة، حذاء طفل لم يعد موجودًا، قطعة قماش برائحة أخٍ تحت الأنقاض.
تحوّلت الخيمة من مأوى إلى ذاكرة، ومن مكان للانتظار إلى مكان للكتابة، لا بالحبر، بل بما تبقى.
في غزة، لم تعد أجساد النساء مجرد أهداف للقصف، بل صارت مستودعات الذاكرة لا يريد العالم أن يسمعها.
الحليب المجفف في زجاجات الأطفال صار وثيقة مجاعة،
والندوب على الأيدي والشيب في الشعر تحوّلت إلى خرائط للألم،
والأغاني التي تهمس بها الأمهات لتسكين الرعب، باتت تسجيلات مقاومة لا تُبثّ.
أجساد النساء تشهد. الجرح يُوثّق، والثدي الذي لا يجد حليبًا يدوّن الجوع، والرحم الذي يُفجع بجنينه يحفظ الإبادة في داخله.
كما تقول جوديث بتلر، فإن الجسد لا يُسجّل فقط الألم، بل يشهد على البنى التي أنشأته.
الجسد هنا لا يطلب شفقة، بل يدوّن.
في إحدى خيام النزوح شرق رفح، قُتلت ثلاث نساء وطفلتان إثر قصف مباشر استهدف الخيمة التي كنّ يقطنّ بها. كانت النساء يجهزن وجبة لأطفالهن حين سقط الصاروخ، مما أدى إلى احتراق الخيمة بالكامل. هذه الحادثة المؤلمة لا تروي فقط فاجعة فقدان الأرواح، بل تعكس أيضًا استهدافًا متعمدًا للمدنيين في أكثر أماكنهم هشاشة، حيث يتحول السقف المتهالك للخيمة إلى شاهد حي على عنف الحرب وألمه. الخيمة ليست مجرد مأوى، بل هي متحف يحفظ ذاكرة من لا صوت لهم، وجسد النساء فيها صار أرشيفًا حيًا لتوثيق الألم والمعاناة.
تُظهر تقارير دولية أن نسبة استهداف النساء والفتيات في غزة ارتفعت بشكل غير مسبوق.
لا يحدث ذلك عرضًا. إن قتل النساء ليس “أضرارًا جانبية”، بل سياسة منهجية.
الاحتلال يُهاجم الجسد الأنثوي لأنه يعلم أن المرأة تحفظ القصة، تحفظ اللغة، تحفظ الرضيع والبيت والغناء.
حين تُغتصب الأسيرة، يُستهدف صوتها.
حين تُمنع المرأة من الولادة الآمنة بسبب قصف المشافي، يُستهدف رحمها.
حين تموت امرأةٌ حامل مع جنينها، يُغتال مستقبلٌ كان بالإمكان أن يُولد.
قابلة من مستشفى ناصر تروي: “وُلد طفل تحت القصف، وضعته على أرضية باردة مغطاة بالكرتون، لا وقت لتخدير أو تطهير. كنت أبكي وأُخرس البكاء كي لا أُربكه.”
في خيمة تطل على البحر، رأيتُ طفلةً تمسك قطعة فحم وتلوّن جدار القماش المهترئ.
سألتها: “ماذا ترسمين؟”
قالت بصوتٍ مكسور: “بابًا… لأن أمي قالت إن الذي يخرج منه لا يعود.”
ما يحدث في غزة ليس فقط تدميرًا للبنية التحتية، بل تدميرٌ للأرشيف الحيّ.
عندما تُقتل النساء، تُقتل معهنّ الروايات، الأصوات، التفاصيل، اللغة.
عندما يُستهدف جسد المرأة، فإن ما يُمحى هو الذاكرة نفسها، وكأن الاحتلال يريد أن يمحو القصة من جذورها.
إذا كانت النكبة الأولى قد دُوّنت بأرشيف الرجال، فمن سيُدوّن نكبة غزة، حين تُقتل النساء قبل الأطفال؟