محمد عبد المنعم زهران
كان العجوز نائماً ومات.
خرجت روحه وهامت فى الحجرة، كانت من تلك الحجرات التى لا يتغير فيها شئ لسنين طويلة، فقط الأشياء التى تساعد باعتبارها مكانا للنوم. كان على الروح الآن أن تخرج من المكان نهائيا إلا أن الأمر فاجأها تماما : الحجرة مغلقة بصرامة…
أخذت تحلق فى كل الأرجاء ولم تعثر على أى مخرج، توترت، حاولت أن تتلوى وتنسل من تحت عقب الباب، لم يجد ذلك، بدأت تنحشر فى الثقوب المنتشرة بالحوائط باحتمال أن تفضى إلى الخارج وفشلت. أخذت تتخبط فى الجدران تحاول كسر الباب. كلما مر وقت تزداد هياجا وتحاول بعنف فترتد خائبة. حامت الروح حول جسده الراقد، وانضغطت بين عظمتين بارزتين فى مكان التحام الرقبة بالصدر، كانت تفكر فى وسيلة ما، وكانت الأفكار تمر أمامها واحدة فأخرى. زفرت بصوت غريب وانخطفت فجأة وتشظت فى أنحاء الحجرة تمسحها مسحا.
قررت أن تخرج وخطر لها أن تعود لجسده حتى ينهض ويفتح نافذة أو ربما الباب، تلفتت بعصبية فى أنحاء الحجرة التى بدت لها فى نهاية الأمر قلعة محكمة الغلق. جلست الروح على قمة أنفه وراحت تنظر لوجهه وكان مغطى بنمش بنى يتكاثف خلال تجاعيد الجلد، ويندر فى مناطق أخرى يكون الجلد فيها مشدودا وتبرز فيه العظام. تطلعت إلى فمه كان مفتوحا جافا.
* * * * *
العودة للجسد كان شيئا بعيدا لكنه كان حلا وحيدا، ورغم ذلك لم أكن متأكدة من جداوه، ولم أقرر أبدا أن أسال ولو مرة واحدة لماذا فعلته، إنه شئ أشبه بمن يدخل بمطلق إرادته سجنا. الجهد الشاق أثناء ذلك ناتج من اكتشافى أن الجسد – بعد خروجى – قد ضاق كثيرا، بدا الأمر كفردة حذاء أهملت لوقت طويل ثم عادت تستخدم مرة أخرى.
إلى جانب ذلك فإن قدرا من المعافرة الرهيبة كان لازما للتوغل حتى أطراف الجسد، وتحسس المواطن القديمة، كان هناك دائما، افتقاد للائتلاف العادى. دون ذلك بدا كل شئ يسير نحو الاستقرار.
كنت أوشكت على الانتهاء عندما سمعت شهقته، كانت طويلة وعميقة، اندفع فى أثرها تيار من الهواء إلى الداخل، انتفض جسده وفتح عينيه لحظات ثم أغلقهما مرة أخرى، الآن عاد صوت تنفسه منتظما وبدا أن جسده يتيح لى بصعوبة راحة نسبية.
* * * * *
سمع العجوز صوت عقارب الساعة – دون أن يفتح عينيه – تدق بانتظام، كانت وسط بعثرات عديدة على المائدة بالقرب منه، سلسلتها الطويلة تلتف كثعبان حول الأشياء، وتتناثر حولها قشور صدأ أتى على كل حديدها تقريبا، وكانت المائدة الخشبية تضخم صوت العقارب المتحركة الذى بدأ كقرع على طبلة ذات جلد سميك.
فتح عينيه ولبث يحدق فى السقف، دار بعينيه فى الحجرة دون أن تطرف، نهض منصتا للطقطقات التى بدأت تنبعث من جسده، شرب جرعة ماء وبينما يشرب فكر فجأة أن يخرج.
جلس إلى المنضدة وتنفس بهدوء، فكر فى اليوم وبدأ فى تذكر مشاوير كان قد رتبها من قبل، ولم يستطع ترتيب خيوط مشوار واحد، كانت تختلط فى دماغه. وطرأت عليه مرة أخرى فكرة أن يخرج فقط. قرب رغيفا جافا وكسر قطعة صغيرة، وكسر قطعة أخرى وتحول الرغيف إلى فتات صغير متباعد.
كانت الروح فى حالة من الرهافة والسكون ترقب عينيه وأعضاءه ودماغه والأفكار التى تدخل وتخرج، تراه يذرع الحجرة جيئة وذهابا، يتوقف أمام الباب ويسأل نفسه : أخرج الآن… إلى أين ؟ ثم يعود يمشى مفكرا.
كان واقفا يرتعش فى حيرة وكانت الروح تراقب كل شئ وترى حاله.
* * * * *
غمرته الشمس بعد أن خرج وبدأ يمشى مبتعدا. كانت الشمس تضايقه حتى أنه لم يقو على فتح عينيه. انحرف إلى ظل أشجار قريبة فمنحته وقاية كافية. انتظرت الروح بتثاقل. كان يتجه للنهر وبدا لها مكانا مناسبا جدا لميتة عادية.
توقف بموازاة الشاطئ وخلع ملابسه، ركنها عند جذع شجرة.
* * * * *
أراه الآن يندفع تجاه الماء بسرعة ولهفة، كرجل يرتمى فى حضن امرأة لم يعرفها قط، بل ويجهل أعماقها وأسرارها وما ترمى إليه. كنت أعرف أن الوجود فى الجسد يفرض أشياء لا يمكننى التعبير عنها مطلقا، يبدو كوجود بقعة ماء ولجت قطعة إسفنج جافة.. إلى كل ذرة فيها. هكذا تتسلل حرارته، دفئه، ارتعاشات لحمه الحى، صوت تدفق الدم فى العروق. كنت انعتقت من كل شئ، الآن تغمرنى كل هذه الأشياء دفعة واحدة، كل هذه الوشائج الدقيقة وأخرى غيرها، بدت كعاطفة ماتت من زمن سحيق وظهرت فجأة، وكان علىّ مقاومتها. كان يبتعد عن الشاطئ ويغطس بقوة حتى لا يظهر منه شئ، ثم يطفو، يحك جسده… كل بوصة فيه ويغطس مرة أخرى. وتراءى لى الآن.. رمة عفنة يحملها النهر، تقف عليها الطيور وتنهشها وتتجمع أسماك كثيرة فى جماعات وتقضمها من أسفل.. إلى أن تلاشت تماما…
عاد يظهر مرة أخرى كان يزيح الأشياء العالقة فى الماء ويبعدها عن جسده. وقف على الشاطئ منكمشا، ارتدى ملابسه ومضى.
– أن أخرج الآن ليس طيبا – هكذا ألحت فطرة شفافة لم أستطع مقاومتها، كانت تحنو تجاه جسد بعيون محدقة تحاول الفهم، يتخبط فى الهواء ويقاوم الشمس بلا جدوى.
* * * * *
كلما بدأ يفكر فى شئ تسرب من دماغه بعد خطوات قليلة، فيعاود التفكير. كور قبضته وفكر أن يضرب رأسه عدة مرات، عبر الطريق بين السيارات، أبطأ من سيره حين راح يصطدم بالمارة حوله وأخيرا انحرف فى شارع جانبى.
رأت الروح ملامح صديقه، جاءت من فراغ ليس له آخر، كانت تكمن هناك فى منحنى ضيق من تلافيف دماغه. عرف الدكان وتوقف بمواجهته. لم ير أحدا، تقدم ببطء ونظر للداخل، رأى شابا يرص بضائع على سلم تساءل :… لا يترك دكانه لأحد أبدا !! تلفت فى الدكان وانتبه إلى طلاء الحوائط الجديد، والمصابيح الصغيرة التى تناثرت بين الأرفف تنشر أضواء ملونة. رأى صورة صديقه معلقة فى أحد الأركان، كانت قديمة ومهترئة، انتفض جسده حين لمح شارة سوداء فى زاوية الصورة، كانت العينان تنظران إليه مباشرة، وقد خلا وجهه من الابتسام. لم يشعر بالشاب وكان قد هبط ووقف أمامه مباشرة، ولم يبد أنه سمع كلمة مما قاله، استدار فجأة ومشى مسرعا خرج الشاب ونادى عليه، مشى وراءه بضع خطوات ثم توقف وعاد لدكانه.
ابتعد وخمدت حركته شيئا فشيئا، كان يجر قدميه، قطرات من الماء تنزل من رأسه تطير فى الهواء وتسقط على التراب وهو يمشى، لم يشعر أن كتفه بدأ يصطدم بالحائط. أحست الروح أن ثقبا كبيرا انفتح فى جوفه أكبر من كل الثقوب التى تفضى إلى الخارج فى جسده، ثقب يسمح حتى بأضخم الأشياء فى داخله أن تعبر بسهولة للخارج.
كأنه مطلوب أن أخرج الآن ! عندما انسلت حرارته فجأة وخفت صوت الدم فى العروق، ماذا أعاقنى وجعلنى رغم ذلك أصرخ – حين هبط سلما يفضى إلى بار – أن هذا المكان ليس مناسبا. أتراه ذلك الخيط الرفيع، الذى يشدنى فى أوقات خاصة جدا، يشى بالوحدة مع ذلك الجسد، وأنه – أنا – بصورة أو بأخرى، حتى يبدو تبادل المواقع ليس غريبا إلى حد كبير.
جلس إلى منضدة قريبة من الباب وأسند رأسه إلى الحائط، أحس بآلام فى أقدامه كأنها تشتعل ففردها تماما. تفرس وجوه الناس القليلة، أصواتهم منخفضة ومن وقت لأخر تخرج ضحكة رائقة جدا.
جلس الرجل أمامه فجأة…
تسمح يا أبى… لا أحب أن أشرب وحدى..
… ؟! وضع زجاجة وكوبين.
فى الواقع شربت نصفها.. قلت أكملها معك.. رائع أن تشارك عجوزا مجربا..
ضحك وملأ كأسين. بدأ الرجل يتكلم بصورة متصلة، لم يكن يسمعه.
.. خوفى الآن نابع من ذلك الخدر الذى سيجعل الخروج مفاجئا، سيبدو مفاجئا وسلسا فى نفس الوقت بلا تدخل وبدون إرادة من أحد. رأيته ينظر للكأس أمامه، وبدأ يتذكر ما حدث منذ خرج من حجرته، ودهش حين أكتشف أنه نسى أشياء كثيرة حدثت، ولم يفهم.
انتبه على صوت الرجل الذى بدأ سكرانا وكان يحدق فيه بذعر..
– يا الله… ما هذا يا أبى.. أنت تتعذب… عينك… تتسع بصورة مخيفة تتسع.. تتسع… إنها تأكل وجهك.. إنها تأكله تماما..
خطف زجاجته وفر خارجا.
* * * * *
كان يتأمل المحال والبيوت والباعة وهو يمشى، يتصاعد حوله ضجيج السيارات والمارة، وبدا لأول مرة واحداً من هؤلاء الناس العاديين الذين يعبرون الشارع ليقضوا حاجاتهم المألوفة.. توقف أمام أحد البيوت، رفع وجهه ونظر إلى النوافذ المفتوحة وقف طويلا كأنه يتذكر، ثم دخل.
طرق الباب وانتظر، اضطرب حين سمع الأقدام تقترب، انفتح الباب وظهرت امرأة عجوز حين رأته اتسعت عيناها !!
* * * * *
شملنى هدوء، براحة واطمئنان لا حد لهما، كأنى همدت فجأة بعد جرى متواصل فى مضمار.
كانا يتحدثان وقد انبسط جسده تماما واندفع الدم فى وجهه. كانت المرأة تحوطه من كل جانب، راحت تفحصه من أعلى إلى أسفل، وكان يرى تجاعيد وجهها التى بدت غريبة.
ما زلتِ هنا…
وأين أذهب…
…………..
سنين طويلة مرت.. تبدو متعبا.
آه… كيف حالك الآن ؟
اقتربت منه مبتسمة أمسكت وجهه…
هكذا يفعل الزمن… ابتسم بدوره
أيام راحت.
تأكل ؟
… أشرب شاى..
دخلت واختفت.
كان جسده يفتح كل منافذه وبدأت التقلصات بانسيابية وبلا آلام.. بصفاء بدأ يلوح على وجهه.
عادت السيدة بعد قليل وجلست عند قدميه، كان يشرب الشاى وينصت لها. بعد أن فرغ تناولت منه الكوب، تمدد وأحس براحة. ورآها تنهض وسألها إلى أين. بعد قليل عادت ورآها تحمل غطاءً، وشعر به على جسده. رآها بعد ذلك تجلس على الأرض بجوار رأسه، ورآها تنظر إليه، ولمح عبر النافذة طيورا بيضاء تنساب فى الهواء.. بعد قليل التفت إليها وأراد أن يعرف أين تنظر، ورآها تنظر إليه أيضا، وتذكر أنها طوال الوقت تمسك بكفه، وسمع صوت أنفاسها قريبة.. فنام.
.. أسندت رأسها على كفه المفتوح، ونامت أيضا.