حوارات مع جوليا كريستيفا: البرنامج اليومي، زين الدين زيدان، المطبخ، التناص (الحلقة1)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 30
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 ترجمة:  سعيد  بوخليط

*تقديم:

أقبع داخل جسدي بين طيات المشهد المنطقي الفرنسي، فيأويني وسط شوارع باريس السلسة، المبتهجة والميسورة، يلامس أشخاصا يرفضون، محبطين حميمة ممتنعة، لكنهم  مهذَّبين في نهاية المطاف. لقد أسسوا كاتدرائية نوتردام واللوفر، واجتاحوا أوروبا وكذا جزء كبير من الكرة الأرضية، ثم عادوا ثانية إلى بلدهم: لأنهم فضلوا متعة تسير جنبا إلى جنب مع الواقع. ونسيتُ حادثة الموت التي وقعت في سانتا باربارا.  

                                           جوليا كريستيفا،  رواية (حاجات)        

صامويل دوك:  تعتبرون من بين مائة أشهر مفكر على  المستوى العالمي، وضع يوحي بالاحترام لكن أيضا يبعث فضولا معينا،  يمتزج في إطاره الفضول مع الإعجاب.  هناك تقدير لمشروعكم، وكذا أفكاركم المجدِّدة والثرية، يُمتدح قلمكم الكلاسيكي المتميز، غير أن حضارة الصورة لايمكنها الاكتفاء بالقراءة الوحيدة. بدلا من اكتشافكم، يحدث في المقابل بلورة تخمينات تخلق لكم شخصية، نغذيها بمختلف تخيلاتنا الذاتية عن الغرابة. هكذا، ستُحاط بكم صورة امرأة صارمة، وهي صفة متواترة مع حبر قلم أتباعكم وكذا المناوئين. لكن في حقيقة الأمر، فاجأني رِفقكم الشديد، روح الفكاهة لديكم، رهافة حسكم ثم بساطتكم. أتمنى أن يتمكن القارئ من”رؤيتكم”مثلما أراكم. فكيف تقضون عموما يومياتكم؟                 

*جوليا كريستيفا: أبدو لهم دائما صعبة. يفاجئني هذا التصور، لكن عند لقائي بالأشخاص المتابعين لأعمالي، سرعان مايغيروا انطباعهم ويصفونني بأني كريمة، تصنيف يباغتني بدوره !تختلف صورهم وتمثلاتهم عن شخصيتي، بحيث تبدو لي أشبه بطوابع بريدية يتوخى إلصاقها على مجرى مائي. يبدأ يومي ليلا، لأنه منذ وفاة أبي، أصبحت أستيقظ غالبا على الساعة الثانية صباحا. تضاءلت كيمياء الحزن بعد موته، غير أن الاستيقاظ ليلا استمر. أبادرُ لحظتها إلى الردِّ على مختلف رسائل البريد الاليكتروني، أو أحاول الإبقاء  قدر مايمكن على وضعية ذهنية حالمة حتى أدون بعض الملاحظات بالنسبة لمؤلفاتي المقبلة. أكتب بقلم رصاص على دفتر صغير، ثم أعيد نسخ ذلك فيما بعد. هكذا،  تبدأ إيحاءات جديدة في التبلور، وتشرع موضوعات تشرع في بث إشعاعاتها، فتعثر هلوسات على كلماتها، تتناوب فيزيائية الليل مع الذاكرة الطفولية لليد، القلم،  الورقة. قد يتكرر هذا لمرات عديدة، بحيث يتوطد النهار عبر الليل، مع ذلك أنام، أحب الخلود إلى النوم. لذلك يعتبرني فيليب (سوليرز) مدمنة كبيرة على النوم.                       

*صامويل دوك: إذا كان الليل خصبا بالنسبة لإبداعكم، ينبغي ليومياتكم أيضا أن تكون مكثفة. كيف تنظمون إيقاعها حتى تتمكنوا من إنجاز أنشطتكم المهنية العديدة وكذا حياتكم العائلية، ثم الكتابة والأسفار؟      

*جوليا كريستيفا: أتناول وجبة فطوري عند الساعة الثامنة صباحا، شايا بالحليب، أحيانا بعض الحبوب الغذائية وفاكهة. أتقاسم هذه اللحظة مع دافيد وفيليب نناقش خلالها برنامجنا اليومي. ثم نظرا لحالة الهشاشة التي يعانيها كل واحد منا وكذا اهتماماتنا المتعددة،  فقد اعتمدنا على مساعدين لتدبير شؤون المنزل. بعد ذلك،  أنتزع لنفسي لحظة قصد تنظيم برنامج اليوم،  وتفويض المهام. لازلت أستفيد من استمرار عادات بورجوازية قديمة (قهقهات) !مثلا، أنا السيدة المبتهجة لاأهتم بشؤون المطبخ ولاأنهض من الطاولة. لكن الإشراف التنظيمي يمثل في نهاية المطاف مهمة جسيمة !أحيانا قليلا من الرياضة أو نزهة في حديقة لوكسمبورغ. انطلاقا من حدود الساعة العاشرة، أبدأ في الاشتغال:  وضع مواعيد بخصوص عيادة التحليل النفسي، لقاءات،  دروس في الجامعة أو مؤسسات أخرى، التحضير لكتب. خلال الظهيرة، أحاول وضع جدول محدد تهم غذاءات مهنية، سعي يتحقق، لأن أغلب زملاء العمل، والطلبة والناشرين يسعفهم الوقت خلال تلك الفترة. فيما بعد، أباشر ثانية عملي،  غاية الساعة السابعة ونصف مساء، بالتركيز أكثر فأكثر على محاضرات مرئية عبر الانترنيت. هكذا، شاركت في آخر ندوات”حلقة كريستيفا”على مستوى جامعة فانديربيلت (ولاية تينيسي)ثم تأخذ وجهة بلدان أخرى؛بحيث أجري باستمرار مقابلات بين باريس ولندن، عبر السكايب مع  أنيش كابور(نحات هندي-انجليزي)، بخصوص جدول معرضه في فيرساي. أيضا، أتحاور مع عادل عبد الصمد(نحات جزائري)، الذي يضع اللمسات الأخيرة على إقامة في لوس أنجلس، أو مالاقة، وينتظر مني مقالة للتقديم…قنَّنت أخيرا العديد من أسفاري، لاسيما نحو الولايات المتحدة الأمريكية، لأني أصبحت لاأطيق أكثر فأكثر عمليات المراقبة اللامتناهية داخل المطارات. أستعيد ابتداء من الساعة الثامنة ونصف، انتمائي إلى نطاق الأسرة. أتناول العشاء في أغلب الأوقات مع فيليب ودافيد.  بعد ذلك، ينفرد كل واحد منا بنفسه كي يقرأ مصغيا إلى الموسيقى، توقفنا عن”ارتياد مطاعم  المدينة لتناول وجبات العشاء”. أجلس قليلا أمام التلفاز، لاسيما مشاهدة القنوات الإخبارية أساسا قناة(CNN)، وكذا المناظرات السياسية. في المقابل، لاأحب متابعة البرامج الأدبية، تجنبا لكارثة التسطيح التجاري !وتظل مباريات كرة القدم، متعة !لقد رافقت أبي بانتظام إلى الملعب. لاتنطوي كرة القديم عن أيِّ سر بالنسبة إلي. غالبا، نتابع نحن الثلاثة أنا وفيليب ودافيد في غرفة الجلوس المباريات المهمة. إن تخلَّفتُ عن الحضور لمتابعة وقائع الاحتفالات الكروية الكبيرة، يبدي دافيد وفيليب احتجاجهما. عاينتُ كثيرا مهارات زين الدين زيدان، الذي كان صديقا لدافيد ومتواصلا معه؛ أحيانا تأخذني تفاصيل اللحظة  جدا بحيث لاأتحمل إكمال اللقاء حينما يكون”فريقنا الوطني”منهزما، لاسيما خلال حقبة زيدان !أنا ودافيد من المشجعين الأوفياء لفرقة باريس سان جيرمان، لكن فيليب الذي يحب الاستفزاز، أليس كذلك، يتجه غالبا إلى معارضتنا، ويراهن على جيروندان بوردو، أو”البريطانيين”وفاء للصلة الأولية التي تجمع بين بوردو وملكة بريطانيا وكذا تحديه ل”فرنسا المتعفنة”. نتذوق أيضا كثيرا عروض حفلات للموسيقى الكلاسيكية والباروكية، تعتبر في هذا الإطار سيسليا بارتولي المفضلة الأولى لدينا داخل البيت. غير هذا، يتابع كل واحد منا برامجه المفضلة داخل غرفته سواء من خلال التلفاز أو جهازه الرقمي.                                                        

*صامويل دوك: هل كريستيفا شخصية اجتماعية؟

*جوليا كريستيفا:  إلى حد ما !كنا خلال فترة نرتب استقبالات هنا على مائدة العشاء، غير أن فيليب ودافيدا توقف اهتمامهما بذلك، انطلاقا من كونهما متمردين وفوضويين: ”يخوض أبي حربا ضد الإنسانية”يحاول دافيد تشخيص الموقف في صيغة مؤاخذة؛لكنه يتقاسم هذه الحالة الفكرية. اعتقدتُ بأني ربحت الرهان خلال السنة الفارطة وسنعيد استئناف بعض اللقاءات على مائدة العشاء، أو على الأقل حفلات كوكتيل. لكني أخفقتُ. مع أني طاهية جيدة وأحب تقديم أطباق إلى أصدقائي.          

* صامويل دوك:  مثل ماذا؟

*جوليا كريستيفا: سمك السلمون المرقَّط بالزنجبيل ثم شريحة لحم الخنزير بأربعين عود من نبات القرنفل !هل سمعتم سابقا عن ذلك!

*صامويل دوك: لا. أنا طباخ رديء، بل خطير !لذلك أفر من الوصفات وكذا المطابخ وأوانيها الشاقة !   

*جوليا كريستيفا: تعلمت هاتين الوصفتين من أصدقاء رجال. أشخاص في غاية الجدية، لا يتكلمون كثيرا وتقريبا يتوقفون عن الكلام خلال لقاءات على طاولات عشاءات،  تنظمها زوجاتهم، بينما  تجدهم لايغادرون مواقد الطهي. أفكر في الناشر إيفان نابوكوف مع زوجته كلود، وأيضا جون توسان ديسانتي، الفيلسوف الشهير، صحبة زوجته دومنيك، وقد توفيا. أدين بالفضل إلى توكي(لقب ديسانتي)فيما يتعلق بتحضير طبق شريحة لحم الخنزير بالقرنفل، أظن بأن أصلها يعود إلى منطقة جزر الكارايبي.  تطهى على نار هادئة، وتغرس شريحة اللحم بأعواد القرنفل، ثم تشوى قليلا، بين طيات مرق شفاف حلو-حامض بالفلفل الأحمر والأناناس: تقدم بالأرز الأبيض تزينه الفطريات الصينية !أما عن الطبق المستلهم من إيفان نابوكوف، فالأمر يتعلق بسمك السلمون المرقَّط بالزنجبيل. هل تهمكم؟يمكنكم تعويضه ببعض قطع السلمون، ثم تشبعونها بالنبيذ الأبيض لجزيرة ري(Ré)(ضروري)، مع ملعقة من مسحوق الزنجبيل. ثم يطهى البصل بعد تقطيعه بكيفية رقيقة، مع أجزاء ليمونة، ومزجهما بزنجبيل طري مطحون(إنه الأساسي)، ثم تضعون السمكة مغطاة بورق الألمنيوم داخل الفرن لدقائق معدودة فقط، تحديدا عشرين دقيقة وتتناول مع الأرز، في حين يفضل البعض حبات بطاطس جزيرة ريRé، دائما !هل لاحظتم،  عزيزي صامويل؟ينزع النساء عموما كي ينتجوا ثانية وصفات أمهاتهن بنفس الكيفية، بينما الرجال يبتكرون خلال لحظات طهيهم. لقد أدركت تماس الإبداع !في الآن نفسه، أهيئ بالتأكيد وجبات تعود إلى أمي، كما الحال بالنسبة لقطع الحلوى بالجبن أو أوراق سبانخ رقيقة جدا، نجدها اليوم في فرنسا لدى باعة البقالة اليونانية. لكن أمي برعت على مستوى المطبخ البلقاني، وعجزتُ بهذا الخصوص عن مجاراتها. في المقابل، أعتبر جيدة للغاية فيما يتعلق بالمطبخ الفرنسي حسب أغلبية الآراء: بوسعي تهيئ صلصلة ببنكرياس العجل، بل وطبق رائع قوامه رأس العجل مع صلصلة البيض،  وقد أثارت إعجاب الرئيس شيراك !إجمالا، أترك لنفسي بين فينة وأخرى،  فسحة من الوقت لتحضير وجبات خلال المساء، لكنها حاليا، ”خاصة”جدا جدا، لاحضور للضيوف (قهقهات).                   

*صامويل دوك:. لديكم صلة وطيدة جدا مع هذا الحي أي الدائرة السادسة، شارع داساس،  والذي يشبهكم،  لأنه يبقى خطا هادئا بين الطبيعة والمدينة، شيئا ما خارج الزمان ومع ذلك في غاية الحيوية.          

*جوليا كريستيفا: في بداياتي، مثلما أشرت لذلك سابقا، وفر لي صديقاي شابتاي ونيللي أول بيت مستأجر، 33 شارع دي غوبيلنس. بينما كان فيليب(سوليرز) يقطن حينمعرفتي به للمرة الأولى،  88 شارع بور رويال. فقد هيأ له والداه غرفا وظيفية ثم رتبناها وجعلنها مسكنا. عشقت عش الطائر، الموجود في سقيفة الطابق الخامس، ذي الطابع الطلابي البوهيمي جدا، وقد صار اليوم فضاؤه مكتبا لفيليب. بعد ولادة دافيد، استأجرنا شقة في شارع ميشليه. بعد ذلك، تحديدا عام 1989، اشترينا المنزل الحالي في شارع داساس. ابتهجت ”نيفي”Nivi،  بطلة روايتي “ساعة الحائظ المبتهجة”، لكونها علمت بأنها ستغادر العالم  صوب وجهة أشجار الزيزفون وكذا نحل حديقة لوكسمبورغ. بالتالي، تعكس حلمي، مادام المنزل الحالي لايشرف سوى جزئيا على الأشجار. لم أتمكن من تحقيق الحلم، وهو ماتفعله بطلتي لصالحي.                

*صامويل دوك:. دالّ جدا ارتباطكم بباريس،  وفرنسا  

* جوليا كريستيفا:  نعم.  بل أبعد مما أتذكر، فقد شكلت حديقة لوكسمبورغ نوعا من المغناطيس. بعد شارع دي غوبيلانس، انتقلت إلى الدائرتين الخامسة عشر والسادسة عشر، لكن ابتداء من مرحلة زواجي، توقفت هنا. فقد تبلورت أحداث روايتي المعنونة ب الساموراي،  تزامنا مع أولى خطوات دافيد،  عند ممرات حدائق فيرساي. بينما يعبر الإيراق الذكي للترف رواياتي الأخرى، فقد هيمن على رواية ساعة الحائط المبتهجة قبل اكتشاف ستان(Stan)/دافيد،  لفيرساي.           

*صامويل دوك: لقد عثرتم هنا على الفضاء والصيغة، من أجل شرح رامبو.  تمثل الحدائق والفكر،  تاريخا طويلا، منذ أبيقور.  بالتالي، صادفتم هنا ”ترِكة ذكريات”(رينان).      

* جوليا كريستيفا: تجسد حديقة لوكسمبورغ، فكرة معينة عن فرنسا، بحيث يكمن هنا تطلعي إلى فرنسا، جليا ضمن الاستمرارية بين العصر الكلاسيكي،  والأنوار،  والمثقفين،  والطلبة،  والأطفال…فرنسا الأبدية، لأنها فتية للأبد.        

*صامويل دوك:.  فرنسا الأبدية،  إنها مناظر طبيعية، مناطق، أمكنة ذات تنوع رائع. ماهي المناظر الطبيعية التي تفضلونها؟ ماهي المواقع العزيزة عليكم؟  

*جوليا كريستيفا:.  حديقة لوكسمبورغ، جزيرة ري،  فرساي،  مثلما أشعر بضعف حيال قلعة(Vaux-le-Vicomte)، حيث كان دافيد سعيدا جدا، أيضا بالنسبة لقصور لالوار وقد أبدى دائما حماسته كي يعود إلى زيارتها باستمرار…واحسرتاه،  توجد فضاءات كثيرة ينبغي ارتيادها…إيطاليا،  نيويورك،  الولايات المتحدة الأمريكية،  الصين،  آسيا…سواء كنتَ ملكيا، وطنيا متطرفا أو حتى من أتباع ماري لوبن، أعتقد بأن فيرساي تمثل الجوهرة العليا للتاريخ الفرنسي، مهما قاله السياسيون المحترمون لحظات استهزائهم من قيمة المعلمة بالنسبة إلى الهوية الوطنية. أحتفل بالعبقرية التاريخية لفرساي وأتطلع صوب التحاقها بالحداثة.  نعم،  هنا يكمن رهان رواية ساعة الحائط المبتهجة، حيث يلتقي كلود سيميون باسمونPassemant، الساعاتي الفلكي،  والعالِم جيوفاني كاسيني،  ثم إيميلي دو شاتلي عالمة الرياضيات ومناصرة الحركة النسوية؛نصادف أيضا فولتير، مدام دو بومبادور، لويس الخامس عشر ثم فلكي –فيزيائي معاصر من إبداعي، والذي يقدر عدديا التمدد الكوني والمادة السوداء.                

*صامول دوك:. إذا تمثَّل هدفنا في أن نشكل جميعا نظرة شاملة بخصوص حياتكم الخاصة، فلا يمكننا قط فصلها كليا عن اشتغالكم العلمي. حديثا، تساءلت لعبة إذاعية أثيرية، عبر إحدى أكبر القنوات الوطنية، عن معنى”التناص؟”و كذا “صاحب هذا المفهوم؟”. يتعلق الأمر بكم، وقد جاء جوابهم صحيحا.        

*صامويل دوك: لم أعلم بذلك قبل إشارتكم، وأتمنى عدم خلط المستمعين بين التناص  ثم ”الاستنساخ الحرفي”، باعتبار الأخير مجرد ترجمة كسولة لظاهرة معينة. يتحاور كل نص مع نصوص أخرى. الرواية نفسها تنحدر من الأسطورة وكذا الواقعة التاريخية، ثم استلهمت مسْرحة الكرنفال، حسب تصور مابعد شكلانية باختين. أيضا، تمارس الفلسفة،  العلوم،  القصيدة،  الصحافة،  تداخلا نصيا حقيقيا، من خلال تحول وتركيب لنصوص عدة سابقة أو معاصرة، هكذا يأتي سياق التداخل النصي.  

*صامويل دوك:  كنتم في سن الثامنة والعشرين، حينما أصدرتم عملكم:  سيميوطيقا.  أبحاث في العلامة والنسق(1969)، وقد أشادت جل مكونات الهيأة المثقفة بالعمل الضخم القائم على التحليل والموسوعية مثلما أوضحتموه بين هذه الدراسة الأولى حول أصول الرواية، وخصائصها. كتب بارت بهذا الصدد: “لقد تأتى لي، منذ البداية  التحقق مرة أخرى، من قوة هذا العمل”. فكيف عشتم داخليا إنجاز هذه الدراسة؟

*جوليا كريستيفا: يختزل كتابي الأول هذا باللغة الفرنسية حقبة تميزتُ خلالها  في الوقت نفسه بكوني قلقة وعلى استعداد كبير للتأثر. حالة منفى، ل”حالة هشاشة نفسية”، لكن بغير المعاني المحيلة على الاضطرابات النفسية التي انطوى عليها هذا المفهوم فيما بعد. عبور للحدود وفق مختلف المعاني، مع قلق اللا- تجذر، الذي ينطوي عليه انتشاء تجاوز الممكن- دون إلغاء- للحدود،  المعايير،  الهويات،  وطبعا منظومات.        

*صامويل دوك: يتسم كتابكم بزخم ذهني معين، وكذا التجسد، لذلك لم أفهم إحالتكم على حالات الهشاشة النفسية.    

*جوليا كريستيفا:  يتعرض المهاجرون لذلك كثيرا: لاحظت ذلك منذ بداياتي كمعالِجة نفسانية في عيادة مستشفى الحي الجامعي. فالمنفى بمثابة فقدان للمعالم، والهوية،  تنتج عنه اضطرابات متعلقة بالنفس والجسد معا. أنا بدوري لم أكن في منأى عن ذلك:  أعاني بشكل متواتر حالات التهابات في الحلق، والأنف وحالات زكامية أخرى ثم الفيروس الكبدي الذي عالجته في مستشفى كوشين،  فترة قصيرة بعد قدومي إلى فرنسا، ربما يمثل جانبا من ذلك. لكن الاغتراب يحرضُ أيضا على البحث، وقد مثَّل لحسن الحظ، الطريق الذي سلكته. يبرز الطليعيون بوسائل فنية، الخوف الوجودي من الحداثة، اقتحام الحدود، في تناغم مع الدوخة الهوياتية للمنفى،  والحب،  قد تغدو مجالا للفهم والتفكير بفضل  الفلسفة،  السيميولوجيا والتحليل النفسي. أحب الاعتقاد بأن تكويني الأولي ثم استثماري الشرس لما تحدثت عنه سابقا بخصوص هذه”الرغبة في فرنسا”، منحني إمكانية عدم الفصل بين الفكر عن الجسد. هكذا،  انغمستُ بشغف في العلوم الإنسانية وكذا التجربة الأدبية المعاصرة. يأخذ المنفى وجهة غير الاندماج، بل يلتمس حينئذ إعادة خلق دائم للمعطى والمكتسب. تتجرؤون على التفكير انطلاقا من هذا الحيز ضمن سياق  السيرورة التي تعيشونها. تتجرؤون على التجدد.  ربما الاكتشاف.                  

* صامويل دوك:  تأخذ وتيرة إصداراتكم إيقاعا متصلا جدا، مع خاصية تنفيذ إنجاز لم يخلف موعده قط. إن أمكنني اختزال مشروعكم، بالنسبة للقارئ غير المتخصص، أقول لكم بأنكم تنجزون قراءة متعددة التخصصات للنصوص الأدبية: تنطلقون من اللسانيات، التحليل النفسي،  الفلسفة،  الفنون،  وتسائلون ثانية في إطار السياق البيوغرافي والتاريخي التطورات التي همت الشكل (الطليعيون، مثل مالارميه،  لوتريامون، أو سوليرز) أو مفهومية (حنا أرنت) وكذا دراساتكم المنصبة على كتَّاب (سلط الرعب، سيلين،  بروست وحساسية الزمان،  سيدوني كوليت وآخرين كثيرين). أيضا، أصدرتم أعمالا ركزت بامتياز حول التحليل النفسي(الشمس السوداء. انهيار وسوداوية؛الأمراض الجديدة للنفس؛ميلاني كلاين)أو حول قضايا تهم المجتمع،  الإعاقة، ثم حديثا،  الفكر الجهادي. صار ذاك التداخل جسد/لغة/جنس، جليا أكثر فأكثر، وقادكم نحو الاهتمام بالنسوية وكذا الأمومة. يبدو لي، حين الانكباب على قراءة أعمالكم،  بأن المنفى وكذا الاغتراب اهتديا بكم نحو الانغماس في جسد اللغة نفسها(الصوت،  الإيقاع، اهتزازات إيروسية)، وتجاوز إطار التجريد الخالص. كيف حدث هذا الانعطاف نحو اللغة؟ 

*جوليا كريستيفا: لم يصبح ذلك ممكنا سوى لكوني أعيش في فرنسا، مما أتاح لي المجال للانكباب على الأدب الفرنسي، وكنت محظوظة وأنا أرتبط بتيارات فكر فرنسي جعلت– منذ قرون وحاليا بوسائل جديدة- من الجسد واللغة مملكتين لها. مع شغف أكثر وكذا إصرار لايعرفه مكان آخر غير فرنسا، على أن تساهم خيمياء الفعل في الهوية الوطنية وتصاحب تحولاتها التاريخية. هذا البلد احتضنني، إنه بلدي، لذلك أشعر بتواجدي في قلب بيتي حينما أشتغل باللغة الفرنسية على دفاتري أو حاسوبي.         

*صامويل دوك: لماذا وقع اختياركم على لوتريامون ومالارميه، في كتابكم”ثورة اللغة الشعرية”(1974)؟هل لأن البعد”الطليعي”الذي رسمه الاثنان امتدح ثورة بالمعنى الاجتماعي والتاريخي للمفهوم؟أو بالأحرى،  يتعلق الأمر ب”ثورة” وفق دلالة “حركة تنزع نحو العودة وكذا الاستئناف ثانية”مثلما طورتم فيما بعد هذه الاطروحة سواء في كتاب”معنى ولامعنى التمرد”(1996)، وكذا ”التمرد الداخلي”(1997)؟    

*جوليا كريستيفا: أو ب ”عودة استرجاعية”. فقصيدة ستيفان مالارميه ليست تجريديا ”رمزية”؛ بل تعبر عن “دوامة المرح والفزع”. أكد الشاعر في عمله الموسيقى والحروف،  بأن كل حرف صائت،  صامت،  مقطع لفظي أو كلمة بمثابة”كوكبة” وكذا “حدّ عند اللانهائي”:  مونادات أو تفاضل على طريقة ليبنتز؟سميتُ هذا التركيز الشعري”تفاضلا دالا” قصد دعوة القارئ كي يقرأ بطريقة مختلفة تشبه رمية نردٍ، تحملها حركة المعنى والمعاني. أما بخصوص،  إيزيدور دوكاس أو الكونت لوتريامون،  الذي يلتمس لنفسه”حرية تشبه عاصفة”، دون هوية معينة، من أجل”مهاجمة الشخص وخالقه”، ففي نصوصه”أغاني مالدورور”، وكذا مجموعته الأخرى”قصائد”، ينتفض محارب الأيقونات ضد”الرؤوس العاجزة”(روسو، دو شاتوبريان،  فيكتور هيغو)، وكذا الأخلاقيين الفرنسيين (باسكال،  ماركيز دو فوفينارجيس،  لاروشفوكو)، بحيث يعود، ينعطف مرة أخرى، ويكتب من جديد. هذا الشاعر الملهِم، الذي تلقى”الحياة مثل جرح”، “يبتهج حيال الانهيار”مع تأكيده التام على أن “القصيدة هندسة بامتياز”. لقد اختفى بكيفية غامضة فترة كومونة باريس. لكنه سيلهب حماس السورياليين،  حين انتهاء الحرب الكبرى. تحدث اللغة الشعرية حقا ثورة حقيقية، إبان أزمات الدولة،  والقانون والدين،  توحي بالأنساق العميقة للعملية الإبداعية.           

                                                                                                                                         

*مصدر الحوار:   

*جوليا كريستيفا:  حوارات مع صامويل دوك؛ فايار 2016، ص(171- 182).

                                  

مقالات من نفس القسم