حكاية ميرا في المدينة الصفراء.. “قراءة جمالية في رواية عشرة أسابيع بجوار النهر”

عشرة أسابيع بجوار النهر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عثمان الشيخ خضر النور

لم يكن في أقصى كوابيس الفتاة الصغيرة (ميرا)، الأمريكية المُنحدرة من أصول عربية والتي تبتدر تواً مسيرتها الدراسية في جامعة أيوا، أنّ بداية الطريق ستكون بهذه القسوة، حيث ستخوض في صراع مع خمسة كُتاب عرب، تم دعوتهم إلى برنامج الكتابة الابداعية في هذه الجامعة رفقة كَاتب إسرائيلي، وكُتاب آخرين من أنحاء مختلفة في العالم.

هكذا تقودنا رواية “عشرة أسابيع بجوار النهر” للروائي السعودي عبد الله الوصالي، في هذا الطريق الوعر وطرق أخرى أكثر تعقيداً. في حكايات تتناسل بعذوبة وانتقالات غير عجولة بين غرفة ميرا في السكن الداخلي بأيوا، ومنزل أسرتها في شيكاغو، حيث والدها وحبيبها “مايكل”، وكذلك وبين شوارع المدينة الصفراء والحرم الجامعي بها. بعد أن تعرّفت على مَجموعة الكُتاب القادمين للمشاركة في البرنامج، تتبّعُ رحلاتهم وتناقضاتهم وحواراتهم، اختلافاتهم الشخصيةَ والمذهبية والسياسية، تَشكُّلَ ونشوءَ العلاقات بينهم، وتقاربَهم ونفورَهم، اتحادهم واختلافهم وحميميّتهم. إضافةً إلى جلساتهم مع “الدكتور أدريان” أستاذ اللغات السامية ومشرفها في برنامج الترجمة.

في تقنية كتابته يتأرجح النصُّ المكتوب في 280 صفحة – موزعة في واحد وثلاثين فصلاً إضافة إلى مقدمة وخاتمة – ما بين عدة تقنيات سردية، فهناك المذكرات التي تسير في خط أفقي بلا قفزات كبيرة وحبكات معقدة من جهة، وبين الرواية التي تجمع عددا من الشخوص والقضايا من جهة ثانية، حيث بدخول جَدّةِ ميرا في بداية الرواية إلى البيت يَحدث تغيّر في حياتها، ليعود تأثير  الجَدّة في الاحداث بنهاية الرواية ليكمل دائرية الحكاية. كما أنك تجد نصا شعريا جميلا سَكب فيه الكاتب عُصارة تجربته اللغوية، فمعظم مقاطع النص مكتوبة بشاعرية عالية ولغة رفيعة وتكثيف راقٍ تجعلك تعيد قراءة بعض المقاطع أكثر من مرة، وهناك أيضا نص يتخذ خلفية مسرحية تتنقّل فيه الشخوص على مسرح واحد وتمارس أدوراً مختلفة مع تغيّر طفيف على الخلفية.

يمكن أن يُأوّل القارئ النصَّ على أنه مذكرات شخصية لفتاة تعمل مُترجمة تصارع في اختيار نصوصٍ من لغتها الأم في تجربتها الأولى، مع مُشرفها. ولنقرأ في صفحة 14 من الرواية: “الأمر لا يتعلّق بوهمية الشخوص، فهي واقعية جداً، بل بما كنت أفكر فيه خلال تلك الفترة وما وقع أثناءها من أحداث وتفاصيل. ومع ذلك فلا شك في وجود نواة صلبة من الحقيقة تقف عليها كل هذه المدوّنة، نواة هي روح تلك الأسابيع القليلة التي تنبعث لي كلّما قرأت ما كتبت”.

ويمكن أيضاً قراءة النص على بوصفه نصا سياسيا من الدرجة الأولى، وذلك لاستعراضه للربيع العربي في فورته الأولى ومن ثم القضايا التي تدور في الدول التي أتى منها الكُتاب، أبطال القصة: (محمود-مصر، مرتضى-العراق، شادية-السودان، مرهف-السعودية، سلمى-سوريا)، وقضية الصراع العربي الفلسطيني وقضايا أخرى كالمِثلية الجنسية التي جاء ذكرها أثناء سرد قصة سلمى.

ويمكن اعتبار النص نصا مكانيا بالدرجة الأولى يؤرخ للمدينة الصفراء، ولنقرأ في صفحة 32 من الرواية: (بتّ أسمي مدينة أيوا Iowa City المدينة الصفراء بسبب طغيان اللون الأصفر على كلّ شيء تقريباً، اللون الذي اتخذته الولاية شعارا لها مع اللون الأسود. ولأنّي أعتقد أنّ اللون الأسود ليس في الحقيقة لونًا وإنما هو غياب للألوان، اعتبرت أنّ اللون الأصفر هو الذي يعلن عن حضوره).  حيث تتساوى البطولة بين الشخصيات إلى حد كبير وينفرد المكان بالبطولة المطلقة؛ فــميرا ورغم أنها السارد الوحيد للقصة ألا أنها كانت لا تصنع أحداثاً بالقدر الكبير، إضافة إلى بروز المكان بشكل لافت في سطوره، ويكاد كل حدث يظهر جديدا يتم التمهيد له بوصف المكان وصفاً كثيفا.

ويمكن تأويل النص على أنه من أدب الرحلات فالوصف الدقيق للمدينة والجامعة، بما فيها أسماء المتاحف والقاعات والمطاعم والمقاهي والشواطئ، وتاريخ المكان وحالة الطقس يمكن أن تمنحك حضوراً كبيراً وأن لم تزرْه. ويمكن اعتبار النص نصا توثيقيا إذ يمكن الرجوع إليه كمصدر لمعرفة عوالم برنامج الكتابة الابداعية في جامعة أيوا، وبداية تأثير منصات التواصل الاجتماعي على الحياة اليومية. نجد الكاتب يذكر بوضوح أن هناك رسالة جاءت على الواتساب أو الماسنجر أو على الفيسبوك وهي أشياء قد لا نجدها في كتابات اليوم قياساً على زمن أحداث الرواية في العام 2014.

خرجت من عشرة أسابيع بجوار النهر مُرهقاً، فرغم أزيز مكيف الهواء في غرفتي ألا أنني كنت متعرّقاً، فقد أحالتني هذه الرواية إلى عوالم عشتها سابقاً في ظروف تشبه ما عاشته ميرا، ظروفِ الحنين للأماكن والرفقة والسواحل، التعرّف على الغرباء والاندماج في مجتمعات سريعاً، والانعتاق منها بذات السرعة. فتحت ذهني على الصراعات التي يعيشها الكُتاب مع بعضهم البعض رغم الصورة الوردية التي يضعها المُتلقّون عن حياتهم، والمثالية التي يتصوّرونها عن تصرّفاتهم الشخصية وحيواتهم الخاصّة. قفزت إلى ذهني تساؤلات تخص جدوى برامج الكتابة المغلقة وتأثيرها على المشاركين فيها، وعن برنامج الكتابة بأيوا والذي يتواصل تنظيمه كل عام، منذ ذلك الحين وإلى الآن، وأخرى تخص مصائر الشخصيات وتحوّلاتهم الثقافية والفكرية والسياسية، وأخرى أشد الحاحاً تخص المدينة الصفراء التي أحببتها.

………………………………..

*كاتب سوداني – مقيم بالمدينة المنورة

 

مقالات من نفس القسم