كان الموج ينشق عنها، كاشفاً عن امرأة لها لون اللازورد الحائر بين الخضرة والزرقة. نحيفة لكن لها ذراعان قويتان، كانت تحمل بهما السفينة التي تختارها كلعبة أطفال صغيرة، وتظل ترجّها ضاحكة إلى أن يسقط كل من عليها من بحّارة وركاب ومؤن وفئران، ثم تبدأ في التهام أخشابها وأشرعتها وصواريها بنهم شديد، قبل أن يلتم الماء على بعضه من جديد، لتختفي القُرصانة تحت سطحه.
“يالها من قرصانة!”.. “يالها من قاطعة طريق غامضة!” هكذا كان الناس بامتداد المدن والبلدات الساحلية في العالم كله يتندرون عليها، كل بلغته، وكل بحكايته المختلقة، دون أن يكون أيهم كاذباً أو صادقاً، فالفارق الوحيد بين ما حدث وما لم يحدث قط، هو الطريقة التي يمكن بها أن يتحوّل بها إلى حقيقة عندما يُحكى.
رغم ذلك، كانت هناك مدينة واحدة في العالم تملك بعض التفاصيل عن تاريخ تلك المرأة، هذه المدينة هي مدينة الحوائط، التي ظهرت القرصانة لأول مرة على سواحلها، قبالة البحر الذي سيعرفه العالم بعد ذلك باسم بحر الدمع، لأنه شُقَّ من دموع امرأة.
يقولون إنها كانت ابنة لعائلة ثرية تعمل في تصدير الأخشاب، وخاصةً تلك التي تُستخدم في صناعة السفن، لأرجاء الدنيا. أحبّت الفتاة بحَّاراً شاباً وتمنت أن تتزوَّج به، ولكن أسرتها رفضت، ليس فقط لأن الحبيب كان فقيراً ولكن أيضاً لأن حياته خطرة وتفتقر للاستقرار.. وهو ما لم يكن من الممكن أن تقبل به الأسرة التي ترسل الأخشاب للبحر دون أن تكون رأته وجهاً لوجه. بالنسبة لهم، كان البحر مكاناً للغرقى، يغذُّونه بالأسباب التي يجعل من قاعه مقبرةً مشوّشة وغائمة كحلمِ رضيع.
أصرَّت الفتاة، وتضاعف الرفض، وتسرَّبت الأخبار من مسام الحوائط السميكة لأسرةٍ لا يسمع أحد صوت تنفسها لتتجوّل في شوارع المدينة المتاهية المحاصرة بحوائط صارت أشبه بالريح.
ذات يوم، وكانت الحكاية قد التصقت بجميع الألسنة، اكتشف الأهل أن ابنتهم حبلى. حبسوها في غرفتها إلى أن يتخذوا قراراً بشأن طريقة الموت التي سيختارونها لها، ولكنها لم تمنحهم الفرصة حتى لاختيار شكل الانتقام.
استيقظوا ذات صباح ليجدوها غريقة نومهافي غرفتها التي غُمِرَت حتى سقفها بالماء. كانت الدهشة بنفس قوة رعب الاكتشاف الذي لا يُصدّق، فالبحر بعيد عن البيت، ويستحيل لأي موجةٍ فيه مهما بلغ عنفوانها أن تصل. شهود العيان القليلون الذين رأوا الواقعة بأعينهم، (والكاذبون بالضرورة كأي شاهد عيان عرفه العالم) أكدوا أنهم شاهدوا موجات البحر العاتية تُحطِّم نافذة غرفة نوم الفتاة بهديرٍ مرعب، والعبارة التي حفظتها جداتنا لنتذكرها للأبد: “ذهب البحرُ بأكمله إلى سريرها نائمة وعاد بها قاتلة”.
قالوا إن البحر بأكمله تنقّل إلى غرفتها، تاركاً مكانه يابسةً مخيفة تكتظ ببقايا القاع المميت، قبل أن يعود إلى مكانه حاملاً معه الفتاة، التي كانت تطفو في أحلام تلك الليلة بين الأعشاب البحرية وأسراب الأسماك والصخور. فقدت أنفاسها بينما تتنسم ماء الواقع وكأنه ماء الحلم، لتنتمي، بدءاً من تلك اللحظة، لحياةٍ أخرى.
في اليوم التالي مباشرةً لتلك الواقعة، بدأت تظهر في الماء، لتأكل خشب السفن، وكانت أولى السفن التي سكنت أمعاءها، أسطول سفن أسرتها الذي كان ينقل الخشب لموانئ العالم.
هكذا صارت عاشقة الماضي المجهضة هي القرصانة الحقيقية الوحيدة في عالم البحار الملئ بالأساطير وبكل مالا يُصدَّق، وقد نهضت من سباتها ثقيلةً مثل حلمٍ متأخر غير أنه يملك قدرةً مُضاعفةً على التجسّد. حبيبها اختفى، تماماً كالجنين الذي حملته أحشاؤها، وكأن الحكاية كلها حدثت من أجل حكايةٍ أخرى، كالحياة نفسها. غير أن من عرفوا البحَّار الشاب عن قرب من القباطنة والبحَّارة، قالوا إنه هجر حياة البحر تماماً بعد غرقها في غرفتها، ولم يعد إليها عندما عادت للحياة، لا لتنتقم له، بل لتهزم العالم. غير أن أهل الفتاة كانوا يبحثون عنه، ولم يملوا البحث عنه في كل مكان تصل إليه سفنهم التي كانت تتحوّل مرة بعد أخرى لوجبة، قبل أن تُستَبدل بغيرها. كان أهل القرصانة على يقين، غامضٍ وأكيد، أن العثور عليه قد يمنح تفسيراً لكافة الوقائع الغريبة التي حدثت ولا تزال تحدث، غير أن جميع محاولات العثور عليه أو التكهن بالمصير الذي آلت إليه حياته باءت بالفشل، لكن في خضم ذلك البحث اللاهث المحموم وقعت المفاجأة.
بدأ الناجون من البحارة والعائدون من الركاب الذين ظهرت لهم القرصانة في جولاتها المرعبة يتحدثون عن بطنها التي انتفخت في الشهور الأخيرة بشكلٍ يدعو للاستغراب، وعن تفضيلها لمذاق سفن دون أخرى، وعن نوبات قيء مباغتة تفاجئها أثناء هجومها على السفن، وهو ما يعني أن الموت لم يؤثر على جنينها، وأنها بعد كل تلك السنوات منذ انشق البحر عنها لأول مرة، ما تزال حُبلى.
أيقظ الخبرُ الغريب المدينةَ من بحيرات الشائعات التي تحاك حول الحبيب الغائب، والتي لم تتبخر يوماً منذ تصاعد دخان الحكاية في سماء البيت. وعادت للظهور كذبةٌ أصبحت أليفة من كثرة ما ترددت، تقول إنه مات غريقاً في غرفته بسفينته بعد أن فتح نوافذها تاركاً الماء يغمرها، بالتزامن مع غرق فتاته في غرفتها.. ثم التقيا في مكانٍ ما تحت الماء ليُكملا قصة غرامهما كغريقين.
ذات يوم، أطلقت القرصانة صرخةً مدوية بينما كانت تقطع الطريق على إحدى السفن، وفي لحظة، كان آلاف الأطفال يتسربون من بطنها المنفجرة، ليتفرقوا كالأسماك على أنحاء البحار كلها.
في هذا اليوم، عادت جثة القُرصانة لبيتها كما عادت جثة البحّار لقمرة سفينته. دُفنا في مقبرةٍ واحدة تنفيذاً لوصيتيهما، خشية عودة اللعنة، رغم أن الأهالي كانوا يعرفون أن لا شيء يمنع عودتهما من مقبرتهما.. بينما بدأ الأطفال، وجميعهم من الذكور، حيواتهم في بحار العالم، متحوِّلين يوماً بعد الآخر لقراصنة، سينتشرون في كل بحار العالم، ولن ينتهي نسلُهم أبداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “مدينة الحوائط اللانهائيّة” .. تصدر قريبًا عن الدار المصريّة اللبنانيّة