حقائق الحياة الصغيرة

حقائق الحياة الصغيرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علاء شاكر

العنوان ( حقائق ــ الحياة ــ الصغيرة )

 يتجلى السرد في رواية (حقائق الحياة الصغيرة) الصادرة مؤخرا عن دار المتوسط،، ليكشف بحساسيته حقائق حياة العراقيين المليئة بالصدمات والكدمات، مثلما يعمل على توثيقها وتخييلها عبر زمنها الفعلي للحرب العراقية الإيرانية  في سنواتها الاولى، لحظة الوعي الكبيرة التي مني بها البطل الصغير، وهو يستكشفها عبر تجواله في مدينته المعقل، هذه المرة الثانية وقبلها في روايته (مدينة الصور) الصادرة في العام 2011.  يتنقل بين بيته، والمدرسة والجامع، والمحطة، والنهر، ونادي الميناء، وبيت السياب المتخيل، ومناطق اخرى غيرها، يشاركه الجرذ حكايته ومشاهداته. الزمن حرب، والحقائق مؤلمة وموجعة، الحرب التي خيم ظلها على هدوء المدينة وسلبها سحرها، وحوّل الحياة برمتها الى بؤس وخوف وترقب. في المدرسة ويوم الخميس ورفع العلم واطلاق الرصاص الذي يخيف الجميع، الزيتوني والرفاق وأحاديث البطولة، والدماء، والأسرى، والجرحى. يفردها لؤي حمزة في تفاصيل العمل، بمقاطع سردية مزجت بين الفانتازي والواقعي وانتقالاته المبهرة في رسم مشاهد غاية في السحر.” كنت ارتدي بيجامتي الخضراء خفيفة القماش مقلمة الخطوط، البجامة التي مزقت حجلها اسنان الدراجة الهوائية فتحت النافذة ووقفت اراقب مرورهم الطويل روائح الاجساد الفتية تثقل الهواء كان كل منهم يدير راسه نحوي بما يشبه تحية المشاة ثم يفتح فمه ويغلقه ينادي باسمي نداء لا اسمعه لكنني احسه قويا صارما التفتوا جميعا ونادوا بصوت واحد فوجدت نفسي ارفع قدمي الى حافة النافذة بلا ارادة واقفز نحوهم. يمكن ان احكي عن الطفل الذي قفز الى الشارع وفور استقرار قدميه على الاسفلت صار جنديا ببدلة كاملة مع اول خطوة انتبه للعمر الذي خطف مثل جرذ خائف في اللحظة التي قز فيها عبر سنوات لم يشعر بها صار جنديا يصعب تمييزه عن جنود الموكب الذي يواصل المسير” (مقطع 60).

الرواية تسير أحياناً في طرق بعيدة عن مركز الحدث، لترصد هوامش عميقة وموحية من الحقائق الصغيرة، فهي تعطي اشارات واضحة لحقيقة الحياة في تلك الحقبة من الحرب وبداية تقاطعاتها مثلما قطع صدام ذيل الجرذ الذي ظل يرافق الصبي خلال رحلته، رسم بدقة تفصيلية احساساته بالحياة بوعيه المبكر فهو يقرأ ويرسم ويفكر ويراقب بعيدا لذا بقي الفتى بطل الرواية وحيداً معزولاً، وعلاقاته محدودة مع الجرذ، وابن عمه سليم، وجدته، وبلقيس. ولكنهم بالأخير ينفرطون عنه. في واحد من أجمل مشاهد الرواية، ينقلنا عبر رؤية سينمائية لفقدان الأمل وتهشم الحلم…   يكشف بلقيس وابن عمه سليم  وكان سليم يلتهم شفتي بلقيس وقد اغمضت عينيها (مقطع (75والجرذ اذ يتخلى عنه، بعد ان يضربه في لحظة غضب يحفر صدره (مقطع( 77. “التقط على الفور حجرا صغيرا خشنا صقيل الحافة ورماه بكل ما في نفسه من غضب”. في هذه اللحظة نكتشف انه ضرب ما في داخله من تردد وخوف، فالجرذ بالنسبة له هو المعادل امام مخاوفه، فيكتب القصاصات له لينتقم نيابة عنه او يرسم ليفرغ مساحات مزحومة داخله..

لوحة الغلاف

الجندي الجرذ، اللونان الاسود والخاكي، الجندي في اول مراحل حياته العسكرية يعرف بحرفين مرسومتين على بدلة ذراعه (ج م ) وهي ترمز الى مفردتين صارمتين (جندي مكلف)، اي انه مكلف بجميع الواجبات، وان اي تخاذل منه سيؤدي به الى العقوبة والموت. كنا نتلاعب بدلالة الحرفين وهي تحيلنا فورا الى الجرذ ( جريدي مجعوص، أومقتول، ميت … ) ونضحك من حيث نعرف اننا جرذان المعركة وإننا منذورون للموت.  “سحب مسدسه البراونينغ على نحو مباغت وأطلق رصاصة واحدة، في تصويبة دقيقة قطعت الذيل …ستكون صورة الرئيس وهو يوجه مسدسه نحو الجرذ من بين اشباح دفتر الرسم اول التخطيطات التي فكر بها ونفذها خلال ليلة واحدة” (مقطع (4

الصبي الجرذ

 كما لو أن الجرذ ظل الانسان في العالم، يختاره الفتى منذ الطفولة، ليكون صوته وظله في الحياة، بما يجعله يرد الصاع صاعين في كل مرة يعتدي عليه احد من الاولاد المسعورين مثل كلاب الشوارع، يحدث نفسه بعد ذلك عن الجرذان التي تترقب فيرمي في جحورها لفافات الاوراق تقرا وتستجيب. الجرذ سره الصغير، حتى انه يحدث ابن عمه سليم ” احس الجرذ في داخلي واسمعه يحدثني” يكشف البطل الصغير حساسيته المفرطة واختلافه عن الاخرين، اللتين جعلتاه وحيدا يسير في انفاق المدينة المظلمة من خلال علاقته بالجرذ الذي يؤنس وحدته، وإذا كان في داخل كل منا حيوان، كما تقول الرواية، فلماذا الجرذ؟ ومن شدة حساسيته يتألم لموت الجرذان عندما تدهسها السيارات، او تفترسها القطط التي تتخلى عن استكانتها ومطاوعتها، وتخلع ما تلبس ارواحها من دعة المنازل، يتلبسه عندها شعور بالذنب كلما رأى بقايا جرذ على عشب الحديقة.

 الجندي الجرذ

في المقطع 50 تتجلى صورة العلاقة بشكل واضح يقول الفتى : “الليل ملكنا يا صديقي ليس سوانا تحت قبته الفسيحة جرذ خائف يقظ وجندي فتى ينزل من اعلى مخاوفه … فتى وجرذ تجمعهما الليالي الطويلة فوق الارض بعد ان جمعتهما تحتها”.  إنها علاقة وطيدة آنست وحدة الفتى وقربته من عالم الجرذان فأحبها وكره غيرها حتى القطط للعداوة التي تربطهما. “انت ظلي وصورتي ملاكي الحارس ومرآتي” (مقطع 51).

الحب الوحيد والشيء الجميل في حياته تنهيه الحرب، فهي تؤثر ليس بالموت وحده بل حتى على سلوك الاخرين، وليس هذا فحسب بل انه هو من يرمي علاقاته بالآخرين في اللحظة التي يعجب بها ويحبها من طرف واحد لخجله وخوفه المتأصل، فهي تهديه نبتة صبّار اعلاها زهرة حمراء، لكنه يفرط بها بان يهديها للسياب الشاعر المريض الذي سكن في سنواته الأخيرة بيتاً في المعقل، وتحتج بلقيس قائلة “انها لك” (مقطع 73بعد عودته من المدرسة يحدث بلقيس عن اختفاء النبتة، لكنها  تفتح فمها ولا ترد ّ. ثمة رد آخر بانتظاره، تتجه الى ابن عمه البحار الذي خبر الحياة والنساء. فخسر الحب الوحيد وصورة بلقيس الجميلة في حياته، معناها الجميل ووجودها الاسر، تموت الصورة والعلاقة عندما يكتشفها مع ابن عمه، بعدها تسفرها السلطات مع أسرتها لأنها تبعية إيرانية، كما تُقتل بلقيس زوجة الشاعر نزار قباني في تفجير السفارة العراقية في لبنان.

الرواية فيها اشارات عديدة يمكن التقاطها من بين ثنايا السرد الذي جمع بين الفنتازيا والواقع وهو يتتبع حقائق حياة المدينة في ظل الحرب. الأمر العجيب ان هذه الرواية في كل مفصل منها تحاكمنا، بل تعيدنا الى مفاصل حياتنا، طفولتنا وصبانا وصورهما العديدة، وكذلك فتوتنا ومشاريع الحب الخاسرة والجندية القاهرة.

 

 

مقالات من نفس القسم