حــازم

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رضوى أسامة

أستيقظ من النوم مثقلاً بأحداث أمس، ما زالت رائحة صخب الأصدقاء تملأ المكان، أَخرُج إلى الصالة فأجد زجاجات البيرة والأكواب فارغة، وبقايا سمك ولب وسوداني وكانزات بيبسي وأشياء مبعثرة على الأرض. أتذكر أنني لم أشرب بالأمس، رفضتُ الشرب لآلام فى معدتي، منذ أن رحلتُ عن البيت وأنا أعاني آلامًا في المعدة، وإحساسًا بالذنب لا يفارقني.

أطيل التأمل هذه الأيام، أحاول تخيل شكل المستقبل، وتهاجمني أشباح الماضي بقسوة تقتلعني وتكاد تُخرج روحي.

أتساءل بيني وبين نفسي هل أحببتُ (ليلك)؟ بدت لي الفتاة المثالية للزواج أنا المعارض دومًا لفكرة الزواج، كانت تمثل توازنًا بين رائحة أمى وشوارع المنيا،  ورائحة وسط البلد التي أحبها، كنت ألمح طِيبةً وثوريةً بعينيها، كنت أحب عنادها الطفولي الممتزج برائحة الأنثى.

كانت تتحول تدريجيًّا لتشبه أمي، حتى أنني كثيرًا ما كنت أخاف ذلك التشابه. ما زلتُ أذكرُ عندما كنا بالمنيا وخرجتُ مِن صومعتي لأجدَها تنامُ على حِجر أمّي وقد ضفّرت شعر (ليلك)  كما كانت تفعلُ لنفسها في طفولتنا، عندما دخلنا غرفتنا اقتربَت منّي وانطلقت من شَعرها رائحةُ زيت المنك الذي تستخدمه أمي، لم أستطع يومها فعل أي شىءٍ، بدَت مُحبَطةً، لكنني كنتُ أخافُها في ذلك اليوم، وانسحبتُ مِن جوارها عندما نامت ونِمتُ في صومعتي إلى الصباح وظللتُ أحلمُ بأخيها يصارحني بأنها أمي.

لم أكن مجنونًا كما اتهمني أخوها، ولا غير مسئولٍ كما اتهمني أبي، ولا جاحدًا كما اتهمتني أمي، ما زالت ليلك هي تلك الفتاة التى سحرتني يومًا ، لكني لا أستطيع استكمال الحياة معها، ناقشتُ فكرة الطلاق طيلة عامٍ كاملٍ، أحاول أن أستعيدها كما رأيتُها أول مرة. عامٌ كاملٌ لم أستطع فيه رسم لوحةٍ واحدةٍ. عامٌ كاملٌ من التفكير المستمر، كنتُ سأُجَنّ، أتعذب في تلك اللحظات التي أجدني فيها وقد أصبحتُ أميل لفكرة الطلاق وهي تتفنن فى صنع طبقِ مَحشِي أحبُّه.

صدق من قال: "أسهل طريق لقلب الراجل معدته". فى كل مرةٍ كانت تصنع أكلاً مميزًا كنتُ أُعيدُ التفكير مرةً أخرى لأنها قالت لي مرّةً: "أنا لا أطبخ فقط، لكني أمارس معك الحب حين أصنع لك وجبة" .. الطبخ فعل حب، ففي كل مرة كانت تحبني فيها ليلك، كنت أعجز عن اتخاذ القرار.

وعندما لم أستطع النوم لثلاثة أيام متتالية، كنت أقضيها في غرفة الرسم عاجزًا عن الرسم والبكاء والنوم قررتُ أنَّ حياتي بأكملها أمام قرار الطلاق. فاخترتُ حياتي وفكرتُ في حياتها التي ستتلونُ بِلَون العذاب إن استمرَرْنا بهذا الشكل وخاصةً أنني عجَزتُ عن لمسِها لثلاثة شهورٍ متتالية.

كان ذلك بعد حادثةِ زيارتِنا للمنيا ورائحةِ زَيتِ المِنك.

بقيَ أن أُخبرَها، وفي ذاتِ صباحٍ وهي جالسةٌ تُقاومُ اكتئابَها أخبرتُها بنيّتي في الطلاق.

-         ليلك، أنا مش قادر أكمل .. لازم ننفصل.

لا أريد تذكر ذلك الحوار التراجيدي الذي دار بيننا، لكنني كنت صادقًا في نيّتي نحوها، لم أكن أريد لها أن تدخل فى دائرة عذاباتي.

لم يكن يُخيفُنى ردُّ فعل أخيها بقدر ما كنت خائفًا مِن رد فعل أمّي، كنتُ أعرف أنهما تصادقتا بشكلٍ أثار دهشتي، أنا الذى أعلمُ كم تحافظُ أمي على التقاليد والقيود، وأعلمُ كم تكرهُ (ليلك) التقاليد والقيود.

ظللتُ قرابةَ الأسبوعَين في منزلي لا أرد على تليفونات أمي، إلى أن فوجئتُ بها فى أحد الصباحات، لن أنسى أنها بصَقت عليَّ وقالت عنّي جاحد.

عندما انهرتُ في نوبةِ بكاءٍ متصلةٍ، احتضنتني أمي بشدةٍ وظلّت تبكي معي لساعتين متصلتين. كنتُ أبكي نفسي وأبكي (ليلك) وأتحسرُ للوعة أمي، لكني كنتُ أعرفُ أنَّ تلك الخُطوةَ هامّةٌ لكِلَينا ولم أستطع الرجوع عنها .

أفتح دولاب المطبخ وأُحضِرُ فنجانًا وأُعِدُّ لنفسي قهوة سادة، أهاتفُ (مدحت) مدير الشركة وأخبره أنني سأحضُرُ بعد غيابٍ متقطع. أقاومُ ثقل الأحداث بالعمل، أذكّرُ نفسي بأنني سأذهبُ لعمّ (چورچ) لشراء ألوان، أودُّ الاحتفال هذا المساء ورسم لوحةٍ جديدة، بداخلي طاقةٌ تودُّ لو تَخرجُ في الرسم.

بمجردِ النزولِ أتذكرُ أنني منذ أن رحلَت (ليلك) عن المنزل لم أروِ الزرع، أقررُ أن أهاتفَ (مي) صديقتنا المشتركَة لأرسل لها بالزرع لتأخذه (ليلك)، لا أريد تحمُّلَ وِزرِ كائناتٍ أخرى تموتُ في هذا البيت.

بمجردِ دخولي إلى الشركة أنهمِكُ في عُروضٍ كثيرةٍ، يُخبرني (مدحت) أنّ عليَّ تصميمَ شخصيتين كرتونيتين جديدتين خلال أسبوعٍ ولا يَنسى أن يُخبرني أن راتبى لم يُخصم منه الأيامُ التى تغيبتُها، وأنه مقدِّرٌ لِما حدث في حياتي.

-         بص يا حازم عايزين نركز فى الشغل الوقت ده صعب قوي وحاسم في عُمر الشركة.

أشتمه فى سرّي وأذكّر نفسي بأنني بحاجةٍ إلى نقودٍ هذه الأيام، لن أستطيع أخذ أي عائدٍ من الأرض مِن أبي.

يَقطعُ تفكيري صوتُه وهو يُعرِّفُنى بـ(غادة) مُصمِّمة الجرافيك الجديدة والتي ستجلسُ في نفس الغرفة التي أجلسُ فيها.

أرحِّبُ بها ، لكنّها ترحّبُ بي بإيماءةٍ بوجهِها وتجلسُ فورًا إلى الجهازِ وتبدأُ العمل.

أحارُ أنا في البنات بالفعل وقدرتِهنّ الغرائبية على فعل الأشياء بسرعةٍ شديدةٍ وتركيزٍ أشدّ.

أتأملُ في (غادة) رفيقتي في الغرفة في الوقت القادم، أنظرُ إلى يديها على الكيبورد والسرعة المتوترة التي تدير بها الأشياء على الشاشة.

تلتفتُ إليّ فجأةً وتسألُني عن رقم البوفيه، أخجلُ مِن نَفسي لأنني كنت تقريبًا "متنّح" .. أبتسمُ وأصيحُ فجأة:

-         بالراحة شوية، انتي الحماس قفشك كده ليه؟!

تضحك وتخبرني بأنها خرمانة قهوة وتسألني إن كان التدخين مستهجنًا هنا أم لا.

أخبرُها أننا في شركةٍ صاحبُها ليبرالي وأننا جميعًا ليبراليون بحكم رأس المال، وأعرضُ عزومتها على فنجانها الأول للقهوة فى الغرفة.

-         على فكرة أنا باستمتع جدا بشرب القهوة مع حد .. فعزومتي ليكي غرضها استمتاعي الشخصي.

-         على فكرة بقى أنت مش شرّيب قهوة، القهوة طقس خاص جدًّا وذاتي، والأفضل احتساؤه وحيدا.

أتفاءل بشريكتي الجديدة في الغرفة، وأشعرُ بأنّ لديّ طاقةً هائلةً أريد أن أُفرِغَها اليوم في اللوحة ثم أستسلم للنوم بعمق.

في نهاية اليوم أعرض على (غادة) توصيلها إلى المنزل بعد أن أخبرتني أنها تسكن فى مصر الجديدة، أخبرُها بأنني سأذهب في البدء إلى وسط البلد لشراء ألوان لأنني في حالة رسمٍ مُلِحّة.

-         أنت رسام؟

-         ممسوس بالرسم، الفرق كبير يا أستاذة.

-         أنا كمان كنت بارسم بس باحب شغل الجرافيك أكتر.

-         الجرافيك ده سبوبة نجيب منها عيش لكن الرسم ده حالة تانية.

أوصلها إلى منزلها، منظر العمارة القديمة يوحي بأنها تقطنُها منذ زمن، خجِلتُ أن أسألها إذا كانت متزوجةً أم لا.

أتذكر (ليلك) وقدرتَها الفائقة أن تعرف مِن اللحظة الأولى الحالةَ الاجتماعية للمتحدثة، أخبرَتني أن الموضوع في منتهى البساطة: علي فقط أن أنظر للدّبلة في يديها.

ظللتُ أتذكرُ إن كانت (غادة) ترتدي واحدةً أم لا، لكني عجزتُ عن التذكر، على كلٍّ أنا مُمتَنٌّ لها بالفضفضة ومشاركتي فنجانَ القهوة.

يرنُّ موبايلي فألمحُ رقمَ أمي على التليفون، أردّ فأشعر بدفءٍ غريب، تُخبرُنى بأنني أوحشتُها ووعدَتنى أن لا يتحدثَ أحدٌ معي في موضوع الطلاق، وفي النهايةِ هي حياتي ولن يتدخلَ أحد.

أشعرُ أنّ اليومَ مثاليٌّ جدًّا لرسم لوحة، وأنَّ الحياةَ أخيرًا أهدَتني لحظةً صافيةً، أخبرُها بأنني سآتي الخميسَ وسأقضي يومَين هُناك.

-         بس بلاش سواقة يا بني تعالى بالقطر، حوادث المنيا على الطريق وحشه.

-         إن شاء الله يا ماما ما تقلقيش.

بمجرد وصولي إلى العمارة أشعر بجوعٍ شديد، وعند دخولي المدخلَ أشمُّ رائحةَ ملوخية وفراخ فأشعر بحالةٍ مِن الحزن والافتقاد لليلك.

أقررُ فجأةً أن أصنعَ ملوخية وفراخ، فأغيّر وِجهَتي الى السوپرماركت، وأشتري كيس ملوخية وفراخ، وأتذكرُ عِبارات اللومِ التي كانت توجهُها أمّي لليلك وهي تشتري هذا النوع مِن الملوخية:

-         الملوخية يا خايبة تتخرّط وتتقطّف ..دي مش ملوخية اللي انتي بتجيبيها دي.

أقررُ أن أهاتف (غادة) لأسألَها عن طريقةِ عمل الملوخية والفراخ:

-         هو انت قاعد لوحدك؟

-         آه، وشعرت بالشفقة على الذات لما شميت ريحة الملوخية عند الجيران.

-         يا حرام

أخبرَتني كيف أصنعُ الملوخية والفراخ، لكنني وجدتُ أنّ الأمرَ قد يستغرقُ ساعةً ونصفًا حتى تنضج الفراخ وأصنعَ بشوربتها الملوخية، فوضعتها فى الفريزر وأجّلتُ الفكرة، واتصلتُ بكنتاكي وتناولتُ وجبتى واستغرقتُ في نومٍ عميقٍ جدّا.

استيقظتُ مِن النومِ وأعددتُ لنفسي فنجانًا مِن القهوة، وأحضرتُ فُرَشَ الرسم والألوانَ وأخذتُ أستحضرُ الرُّوحَ، تذكرتُ أنّ في دُرج المكتبِ آخِرَ قطعةِ حشيشٍ تبقَّت مِن يومِ أمسِ في سهرةِ الأصدقاء، جلستُ ألُفُّ لنفسي سيجارةً بعنايةٍ شديدةٍ وانهمكتُ في الرسم.

كنتُ أشعرُ بأنّ جُوعَ الشهورِ الماضيةِ يتفرغُ الآنَ في اللوحة، ظللتُ أرسمُ مِن العاشرةِ مساءً حتى الخامسةِ فجرًا، قُمتُ بمجردِ أن شعَرتُ بالإنهاك والرِّضا.

استسلمتُ لنومٍ عميقٍ جاءتنى فيه (غادة) ترتدي بنطلونًا ضيقًا بوسط ساقط، وجلسَت بجواري واحتضنَتني وعندما سألتُها عن رائحةِ پرفانها أجابَتني:

-         ده فيكتوريا سيكرِت.

تأخذني في حضنٍ عميقٍ جدًّا وأستسلمُ تمامًا لها.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصة وروائية مصرية

فصل من رواية (ليلك) الفائزة بالمركز الأول في مسابقة أخبار الأدب 2016 






مقالات من نفس القسم