“حشيش سمك برتقال”، مسار الأنا المجردة بمواجهة المدينة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أمل هارون

في روايتها الأولى تبدو الكاتبة الشابة هدى عمران، صاحبة ديوان "ساذج وسنتمنتالي"، بارعة في تطويع السرد والشاعرية للكتابة عن تيمة قاسية وهي تعاطي الفرد مع الذات المهزومة والمدينة. والأجمل هو إخراج التيه السائل في علاقتنا الأعمق بالقاهرة إلى طبقة أقرب من الشعور والوعي.

 

 

تسير الحكاية عما يبدو سير طويل غير محدد الهدف في شوارع المدينة، بألف ولام التعريف،لفتاة غير محددة الاسم، تبحث عن بيت وعمل، تقابل أشخاصاً تدركهم وتحادثهم وتتشابك مع وجودهم بنصف وعي، بنصف غياب، بنصف خوف وبنصف عداء، لكن بتحفز تفرضه الوحدة ويستدعيه الضعف. وعلى مدار الأحداث نلاحظ أن جميع الشخصيات متجذرة في لحظة حاضرة تشبه أجواء حلم، بينهم وبين علائق الماضي وتاريخهم الشخصي قطيعة ملفتة، لا نعرف لهم اسماً أو تاريخًا عائلياً ولا نرى تراكماً لرأسمال رمزي أو اجتماعي يتكئون عليه، مجرد أفراد في لحظة راهنة مُطلقون في مساحات تشبه ظل المدينة بينهم غربة هي ما يربطهم ويجمعهم، تجعلهم يتقاطعون ويمارسون عنفاً متبادلاً وتسود علاقتهم التوجس والتحالفات الوقتية التي لا تفضي لبناء علاقة مركبة.

تمضي أحداث الرواية إذن وتتداخل الشخصيات وتتعاطى مع العالم في تصاعد حتى النهاية لكن فيما يشبه الدوائر المغلقة، فلا يحدث شيء يمكننا تصنيفه في اطاره المتعارف عليه؛ لا شيء ينمو ولا شيء يكبر، دوائر من البحث، دوائر من الخذلان، دوائر من الليل والنهار، الطزاجة والتفسخ، العنف المتبادل والتيه، الحوار يغيّب أصحابه أكثر مما يفصح عنهم، الحب أغنية غامضة، الضحك هيستريا جماعية، الجوع هاجس مستمر، لا نهاية مُرضية وحادة، لا خراب تام ولا دمار تام، لا حب تام، ولا خلاص تام…

هي رواية عن التيه، التيه الشخصي الأعمق الذي يتجاوز كل الطبقات المراوغة من التكيف والسخرية والتكلم والتموضع وتسليك الأمور والخفة المجبورين عليها في الصراع مع المدينة والأخر، تصل بنا لتك المنطقة الأبعد، التي تظهر في لحظات الصمت والتحديق الداخلي، طبقة العجز والاختزال والخراب، الخراب الناتج عن الحياة، عن الهزيمة، عن الانكسار، عن العلاقات المتفسخة التي يختمر بها عنف مستمر ومجنون، عن عالم سائل وبؤر قوى أكبر تسحق كل ما عداها، وفي أقرب تأويل مبتذل هي رواية عما ألت إليه ثورة تلاشت وخلفت خلفها تشرذماً قاسياً للذات.

ما لفت انتباهي بشكل خاص هو هندسة مفاهيم ومعاني مألوفة بشكل مخالف، المرأة ليست بطلة لمخيلة إيروتيكية معتادة سابقة الإعداد ومختزلة، بل مكتملة الفردية لتصبح فضاءً للحزن والعنف بمواجهة المدينة والانكسار، العلاقات بين الشخصيات لا يوجد باللغة مسمى دقيق عنها يمكننا استيعابها بشكل تام من خلاله، صداقة؟ حب؟ عداوة؟ غيرة؟ أم مزيج غرائبي منها كلها؟ الألفاظ تبدو محدودة المعنى أمام سيولة العلاقات وأنماطها بين الشخصيات.

الأمر الأخر أن السرد يبتلع المكان ليفرد المساحة للتيه الفردي، يصبح تشرذم الأنا مبعث كل وعي، بشكلها المجرد عن الجندر وعن طبقات الثرثرة المعهودة عن الحزن والانسحاق بالمدينة، هذه رواية عن الصمت، عن جماليات الهزيمة الداخلية والتعاطي معها لدرجة أن مدينة مهولة كالقاهرة تكاد تبدو كخلفية ضئيلة أمام تداعيات تلك الهزيمة المستمرة فلا نكاد نستمع لأي ضجيج مميز لها.

أنهي طرحي بالحديث عن العنوان، الذي يلخص بشكل متقطع وحاد، علاقتنا بالقاهرة، بشكل معكوس ربما أو مُعبرًا عما آل إليه حالنا، الحشيش هو اختيار اللاوعي اللحظي للانعتاق والنسيان والتجاهل؛ السمك هو التفسخ البطيء بفعل الحرارة وقسوة مرور الوقت، الموت القريب الذي كان في لحظة سابقة قريبة طزاجة الحياة الهشة؛ البرتقال، هو الوعد المنكوث به من المدينة، البراق في حلمنا البعيد عنها، المّر والملون والشهي ، الذي عندما نسرف فيه يؤذي -بالحموضة الزائدة- قدرتنا على الهضم السليم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 شاعرة وكاتبة مصريّة .

 

الرواية صادرة مؤخرًا عن دار الساقي اللبنانية ـ وكانت ضمن منحة آفاق للرواية

مقالات من نفس القسم