د. فضيلة ملهاق
اتّقدت جمرات الخراب، تفحّم شعورها بحلاوة السنوات التي قضتها في الحسابات، والمعادلات الكيميائية، والتفاعلات النووية، وأنابيب الاختبار…يقضم القلق أعصابها، والأرق صحتها،
تأملت اليرابيع وهي تتقافز، وتندسُّ في التراب، وقالت لها بصوت مبحوح:
“في ذروة الحلم، حملت على كاهلي رسالة العودة الى تاريخ بعيد، ونسف التخوم الإقليمية التي تعزل إحساس الانسان بالإنسان، واخترتكِ أنت أيتها المخلوقات الآتية من عمق التراب والتاريخ، لتحملي معي الرسالة.
ربما لأنني أثق بصبرك، وربما لأنني أتعاطف مع قهرك، الذي جعلك اسما لسوط جلّادك، وربما بسبب قواسمنا المشتركة القوية، وأولها عبئ اللعنة، التي تُطاردك بأسطورة، تٌحمّلك وزر غيرك، وتُطاردني بأبحاث، وضعها في طريقي عقلي المؤمن بالعدل.”
تأمّلتها للحظات ثم هزت رأسها، بحركة معترضة، وعادت تحدثها بنبرة أقلّ تعاطفا معها:
“… وضعك، مقارنة بي، أفضل، أفضل بكثير! قدرك أن تعيشي في الصحارى لتنتعش حياتك، وقدري أن أعيش حيث يتصحّر الإنسان، تركضين هربا من قنّاصيك بسرعة قد تفوق الأربع وعشرين كيلومتر في الساعة، حتى لا تكوني فريسة، وقدري أن أظل فريسة مهما ركضت، وبأي سرعة، أو اتّجاه، ركضت…الوقت يفترس من عمري، والألم يفترس من وجودي…مهما فعلت أظل ملهاة ظروف جعلتني باحثة.
أرأيتِ؟ كل شيء يجعلك في وضع أفضل! لا وجه للمقارنة، حتى حواسك، تتمتعين بحاسة سمع عالية، تجنبك الخطر، وأنا لدي أكثر من حاسة تدفعني نحو الخطر، صوت الآخرين، أوامرهم، توجيهاتهم، تعليقاتهم، انحشارهم في حياتي.. نفسي.. ذاكرتي..
فلولا أن استمعت لصوت ضميري لكانت حياتي ربما أفضل مع لطفي، ولولا أن استجبت لصوت أحلامي لكانت ربما علاقتي بالآخرين كذلك أفضل.. وربما ما كنت اليوم أمشي هذه المشية التي لا تختلف كثيرا عن مشيتك.
بل إن وثبتك أكثر ثقة وقوة! أنا وثبتي عرجاء، على جميع المستويات، عرجٌ في رجلي، وآخر في قراراتي، لا أدري إن كان يجب عليّ أن أستمع لنصائح طابتي وأقبل عرضه، أم أتّخذ منحى آخر.
أنا في حالة دوخان! أخشى أن أقف الوقفة الخطأ، أو أقفز القفزة الخطأ، الخطأ لمن كانت في وضعي غير مسموح به، قاتل، لا يغفره التاريخ، ولا النفس.
أغْبِطُك! بل أحسدك! أعجز أن أعاملك بغير لوثة الإنسان الأولى، الغيرة .. عشت مثلك لسنوات حياة ليلية، لكن في ظروف مختلفة، أنت تحتمين في النهار بجحرك، وتخرجين ليلا، وأنا حياة الليل تقودني إلى مخاوف انكشاف النهار، وأشعة الشمس تجلب لي عتمة الخوف من الآتي.
لك راحة السبات الشتوي، وأنا لا راحة لي حتى في السبات، سباتي هو طمر النفس للنفس، ألست في الواقع أنا من يستحق الشفقة؟
كنت قبل لحظات فقط أفكر في إطلاق سراحك، أن أُعتقك من شقاء التجارب، وتقلبات ضوء المخابر.. لكن انتبهت لما تحظين به من مزايا، وغيّرت رأيي…أنا الآن من يحتاج لمن يحررني من قيودي، أحتاج إليك…متى تظهر النتائج النهائية عليك، وأتحرر من قيود هذا المخبر؟ أريد أن أشفى منه، أريد أن أحيا حياة طبيعية، ولو تحوّلت يربوعا، بل أنا أحدثك اليوم بصفتي لاجئة…أنشد في عالمك راحتي.”
أمضت وقتا في المخبر تتحدث إلى اليرابيع ثم غادرت، وكأن صحنا طائرا اقتلعها من مكانها وألقى بها خارجا، تركت باب مكتبها مفتوحا، واخترق جسدها زحام الشارع مثل نيزك يخترق الغلاف الجوي، اندفعت بغير وجهة أو هدف معين، يداها معقودتان خلف ظهرها، وقدماها لا يميزان ما يصطدم بهما، وعيناها غائرتان، يجولان في الآفاق، تارة، ويكنسان الدموع التي تلهث فيهما، تارة أخرى.
………………
* فصل مقتطف من رواية “لعنة اليربوع “، صدرت عن دار موفم للنشر والتوزيع- الجزائر، 2019