كان جالسا على طرف السرير. في عينيه إعياء الجوع، وحدة نظرته. وجهه الأسمر الهزيل كأنما هو بذلة عتيقة لا تصلح معها المكواة. قال مطوحًا بيده اليسرى في الهواء بنشاط مفاجئ:
– لن أسكت.
ومثل الأفكار الكاذبة التي تهاجمك لحظات مثل الرعد دون أمطار لم أستطع الإمساك بشيء محدد في تهديده. لن يسكت لمن؟ كثيرون هم الذين أصبحوا خارج ضفاف قلبه الشحيحة.
أحسست بالخواء، وتيبس حلقي في هواء الحجرة الساكن. وقفت، ثم خطوت بضع خطوت؛ لأعطى نفسي فرصة للخروج مع تمهيد مناسب؛ محاولًا تفادى كتبه، وأوانيه، وأشياءه البسيطة التي تتراص في فوضى حول السرير. كنت أشك في عدم جدوى الزيارة، وانتظر خيطًا؛ لأتشبث به إلى الهرب. قلت:
– أنا معك.
قال:
– فعلا؟
أومأت برأسي لأعلى ولأسفل ببطء. سلط عينيه في وجهي الذي أشعلته سخونة النظرة.
– لست محتاجا لأحد منكم ينقذني من الموت. إما أن تنطق بلسانك، وتكون معي فعلًا، وإلا فلا تهز لي رأسك مثل أفعى تراوغ قبل أن تنقض.
أشعل سيجارة أخيرة من علبته فارتفع دخانها، وامتزج بدخان المدينة العجوز. لن أحتاج إلى النظر في تلك الوحوش الدخانية المتصارعة، والتي تملأ سقف المدينة؛ لأتأكد من التهديد المريع بالفناء. قلت:
– لا ترسل ما تكتبه إلى الجريدة مرة أخرى؛ فهذا يورطك ويورطنا باعتبارنا أصدقاء. أقصد في الوقت الحالي؛ لأن التحالفات تتغير، وما ستحتاجه سندبره لك.
كان جلد وجهه قد بدأ ينتفض من سباته. تراجعت محافظا على مسافة الأمان:
– هذه الأيام صعب أن تمنح نفسك لأحد، أو لفكرة بشكل كُلِّى. رأسك هذا قنبلة، وسيفجرك أنت وحدك.
صرخ:
– يا كلاب. تؤمنون بما أقول في السر، وقد كنا شركاء في صنع مستقبلنا، وتنكرونني أمام الجميع!
– يا صديقي أنت لست المسيح. لقد عملت أول ما جئت هنا مِهنًا عديدة: نقاشًا، وساعيا، ولفظتني هذه الأعمال كطعام كريه الرائحة، ثم عملت مراسلًا للصحيفة قبل أن أصبح كاتبًا بها. وجدت الفرصة التي جئت لأجلها أنا، وأنت. باختصار أرسلني باقي الأصدقاء في محاولة أخيرة؛ لتليين هذا الرأس حتى تعبر العاصفة.
قال:
– لم يعد ممكنا أن تظل علاقاتنا هكذا. إما أن تكونوا معي، وإما لا يريني أحد منكم وجهه. أما العاصفة فستستمر طالما أنكم تنحنون.
– ما تقوله لن يفيدك، ولن يغير في واقع الأمر شيئا.
– ماذا تريدون منى أن أقول؟ ما تقولونه أنتم ؟ من نفس الظروف خرجنا، وكنا جيران هنا، لكنك طعنتني بخنجر التجاهل. لذلك اختاروك لتكون الطعم، وأُسلِّم، ونصير جميعا أسماك شهية في بطن الحوت.
بحركة مباغتة أمسكني من ياقة القميص متجها إلى الشباك. قبض عنقي من الخلف بحركة لا تتناسب مع ضعفه البادي على جسده، وألقى برأسي وكتفي خارج الشباك فصرت مقلوبا كخفاش نائم، وهو يمسك بي من الخلف:
– أنظر للعفن الذي أعيش فيه. أنسيت؟!
كان صراخي يخرج ضعيفًا، ويجرح حنجرتي. جدفت بيدي؛ لأصعد مرة أخرى. سحبني بقوة فاطرحت على الأرض، وقمت مفزوعًا. انطلقت قافزًا إلى الباب. فتحته، وجريت وأنا أرهف أذني مفتتًا الصخب الذي ملأهما لأي دبيب يتبعني. لعله يأتي ورائي، ويمارس جنون الانتقام الذي فاجأني به الآن. ذبت في كتلة الظلام على السلالم. انفرط الظلام مرة أخرى على الرصيف، ونظرت للخلف، ولأعلى. لم أر إلا ظلالًا شاحبة وراء النوافذ المغلقة، وفى شباكه الموارب، وبعض النجوم التي تنبض في السماء البعيدة. أحسست أنه ربما يراقبني، وأن عينيه تخترق الفراغ لتمسك بي. أسرعت خطاي مرة أخرى. دببت بقدمين راسختين متخلصًا من رعشتهما حين ولجت الشارع الرئيسي المزدحم في ذلك الحي الشعبي. على الأسفلت تفاديت العربات الرامحة، حتى التزمت الرصيف، وعيون الغرباء تصطدم ببعضها للحظات؛ لتفتش عن شيء تائه. لن أعاود زيارته مرة أخرى وإن راهنوا على قدرة صداقتي معه في فعل المستحيل. هل تركنا بلدتنا الصغيرة ، وأتينا إلى هنا إلا لنبحث عن ثقب إبرة ننبعث منه إلى العالم؟! أراه الآن يعاود النظر. مثل زمان. حين كنا معًا إلى وجه المدينة الغارق في ضباب أسود، ومساحيق مبتذلة. بالرغم من ذلك يحملها كطفلة يتيمة في قلبه. جربت مرة أن أبصق عليها. قال لي وقتها: “لن أسامحك. ابصق في أي اتجاه إلا هنا في الأسفل فهؤلاء لا يتحملون لعنة أخرى”.
قد يعاود النوم ملفوفًا في بطانيته القديمة. سيستيقظ إثر كابوس سببته الذكريات، أو الأمعاء الخاوية. سيفتش في كتبه، وأوراقه، وأشعاره التي لم تعد تصلح إلا للإيمان السري عن يقين الارتواء. لن يجد حتمًا إلا الكلمات التي مزقتنا، وشتتتنا في كل النواحي إلا باتجاه اليقين. قد يدفن نفسه حتى الصباح بين أكداس فوضاه العارمة. ربما يستعيد قليلًا من عقل التخاذل؛ ليندم على قذفه المال الذي أعطيته. قلبي معلق بمأساته، ولا أستطيع أن أحمل إلا عبء نفسي هنا. سأفكر حتى يأتي الصباح الذي نكرهه؛ لأنه يأتي كل مرة بما هو أسوأ..
الصباح لم يأت بعد. اتصلت الشرطة بمدير التحرير فور إبلاغهم بالحادث، ثم جيء بنا. كان رأسه المستطيل قد تهشم. أما جسده فكان ملتويًا، ودمه.. دمه الذي شعرنا باتقاده ونحن حوله مثل حر المدينة ساعة الذروة. كنا وسط دائرة كبيرة من البشر الذين تجمعوا. أنكرت معرفته أمام الضابط، وأنكرت أنني كنت آخر من رآه مرات عديدة قبل أن يصيح الديك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص من مصر
خاص الكتابة