حجازى .. غياب بطعم الحضور

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 أحمد عبد النعيم

يظل تاريخ فن الكاريكاتير المصرى فى العصر الحديث يقف كثيراً رافعاً القبعة أمام عبقرية فنان الحارة المصرية حجازى، لموهبته المصرية المتدفقة والحالة الفنية والوجدانية التى تبعثها رسومه، لنستمتع معه بألحان فنية عاشقة للبيئة التى تربى فيها..

 

أدرك حجازى المشكلة الاجتماعية وأبدع أروع تصوير للحالة الإنسانية للإنسان المصرى البسيط وأفكاره لم تكن بعيدة عن عمق المشكلة الاجتماعية التى تأخذ من القرار السياسى بعدا آخر.. أحس حجازى مبكراً فهو ابن الحارة المصرية التى عاش مع والده يلف الكفور والنجوع يرى الناس التعبانين على رصيف القطار فى انتظار لقمة العيش أحس أن القلم والريشة يمكن أن تمسح حبة العرق  أبدع أروع صوره للكاريكاتير الاجتماعى فقد اكتفى صناع جيل ما قبل الثورة من رسامى الكاريكاتير بأكاديمية الأداء الكاريكاتير فالاهتمام الأول بالتشكيل داخل البرواز التشكيلى ذات الخطوط الثقيلة لطبيعة الطباعة بالحفر، وراحت الأفكار السياسية يغلب عليها الخطابية نظرا لتناحر القوى، واتسم الأداء بالبورتريه الكاريكاتيرى للزعماء والبعد عن الرمز الا ما ندر فى استخدام المصرى افندى أو ابن البلد، وكان طبيعى أن يتسم الأداء بالاكاديمية لتأثر الكاريكاتير بمجموعة الأجانب سانتيس الاسبانى رسام مجلة الكشكول، الذى جاء الى مصر بدعوة من الأمير يوسف كمال للتدريس فى مدرسة الفنون الجميلة، وامتازت خطوطه بالرشاقة والدقة. والفارس الثانى التركى على رفقى رسام مجلة خيال الظل المنافس الطبيعى للكشكول فى انحيازها لحكومة الوفد، وجاء رفقى وهو ضابط هربا بعد ثورة كمال أتاتورك وخرجت خطوطه الى حيز الحيوية ولكن بتحفظ اكاديمى. والأجنبى الثالث صاروخان الذى جمع بين الأول والثانى.

وجاء الرعيل الأول من رسامى الكاريكاتير المصريين، رخا ـ زهدى ـ عبد السميع ـ طوغان متأثرين الى حد كبير بالأجانب حتى اخذ كل منهم أسلوبه بعد فتره.

امتاز جيل حجازى بغزارة إنتاجه الفنى المتدفق الحيوى المدرك لأبعاد المشكلة، جيل تربى على مبادىء وسط كوكبة ثقافية وفنية فى مباراة رائعة عكست صورة الحياة المصرية، جيل متفق تماماً مع نفسه..

اهتم جيل حجازى بتطوير الأداء والخروج من حيز الأكاديمية بالمبالغة المدروسة لعناصر العمل، وكان الرائد فى ذلك البهجورى، والاهتمام بتطوير الفكرة الاجتماعية على يد مبدع أخر الراحل الجميل صلاح جاهين .

ولد الفنان حجازى فى مدينة الإسكندرية 1936 وعاش بداية حياته فى طنطا.. استطاع أن يدرك منذ النشأة الأولى طبيعة حياة القاع، ولد وسط المشكلة الاجتماعية ولم ينعزل عن الواقع بل أدراك بحسه الفنى  الرائع وإنسانيته، انه ولد ليكون ساخر عظيم احتضن كتاب بيرم التونسى وركب القطار الذى طالما ركبه وجاء الى القاهرة مع صديقة اسحق قلاده/ وسكن حجره أساسها من أوراق الجرائد وترك ورقة صغيره يخبر والده بأنه أراد العمل ليخفف عنه بعض الشئ ..

وفى طريقة الى إبراهيم الوردانى صاحب إحدى المجلات الفنية عرض أعماله التى لم تكن أبدا كاريكاتيرية، ولكنها لوحات تعبيرية للناس والحارة والبيت المبنى بعرق الغلابة من طين النيل، ولكن المجلة كانت فى حاجة الى رسام كاريكاتير ولم تكن بوصلة حجازى قد اتجهت ناحية الكاريكاتير، وفى عودته الى حجرة الورق نام على نصف الجرائد ورسم النصف الآخر بخطوط كاريكاتيرية، وذهب الى مجلة التحرير لصانع النجوم حسن فؤاد، وبدأت صفحة جديدة فى كشكول الوطن على صفحات مجلة صباح الخير 1956 بخطوط حجازى تعانق ريشة بهجوري المتحررة وعبقرية فكرة جاهين وتطوير أداء رجائى ونيس. 

امتازت خطوطه بالقدرة على التعبير ببساطة  بعيداً عن الخطوط الكثيرة غير المؤدية للمعنى، فهو مباشر مثل خطوط أشخاصه شديدة الوضوح واستطاع حجازى ان يطور من خطوطه عبر سنوات النضج الفنى، فى الخمسينات اقترب أسلوبه من المبالغة الشديدة كأعمال جاهين ورجاءى .. وفى الستينات بدأت بوادر المدرسة الحجازية ولكنها لم تصل الى النضج إلا فى نهاية الستينات، وعندما استراح الى أسلوبه المختصر توجه الى الطفل العربى يقدم رائعته تنابلة الصبيان بشكل خرج من عالم الأساطير والخرافات وكلاسيكية قصص الأطفال، الى التعامل مع نضج عقل الطفل وذكائه الفطرى .. ولحجازى كاريكاتير لطفل يسأل زميله ( هناك جرائد معارضة للكبار لماذا لا توجد مجلة معارضة ) رغم البساطة ولكن السؤال يحمل الكثير .. تلك هى العقلية التى توجه إليها حجازى عندما خاطب الطفل المصرى والعربى، والتأمل لأشخاصه التى قام بتصميمها الى مجلة ماجد يلمس بساطة وعمقه وإنسانيته ..

وعندما وصل بأسلوبه  إلى حالة ترضيه تصل إلى الوجدان فى تعليقات شديدة البساطة، عميقة تجعلك تقف إمامها فى حالة اندهاش كيف وصل حجازى إلى هذا التعليق بسرعة؟! فهو تعليقك اليومى وخبزك والهواء الذى تتنفسه، كيف استطاع حجازى أن يصنع منه فكرة عميقة؟! هذه هى المتعة فى خطوط حجازى.. لم يأخذ تعليقه من الجرائد أو البرامج الحوارية وجلس على مكتب جلد مكيف ولكنه اختار أن يركب كل يوم الاتوبيس الى اى مكان الساعة الخامسة مع أول طلعة موظفين، يجلس فى الدرجة الثانية يسمع الناس لا يتحاور مع احد فقط يراقب التعبير والحالة المزاجية ويسجل فى ورقة صغيرة، وفى تمام السادسة صباحا يكون على مكتبة يبدع أجمل وابسط الأفكار، وقبل حضور الموظفين والعمال يكون انتهى من عمله، فيذهب الى محرابه بحى المنيل العريق يجلس بصحبته سيجارته ودخانه يراقب ويتنهد قليه قبل الجلوس الى عالمه الطفولى برسم القصص المصورة، وهو أستاذ فى اختيار زوايا العمل والتركيب الفنى داخل المشهد واستخدام حرفى لبالونة الحوار ..

 البعض يشبه حجازى بجمال حمدان ولكنه لم يكن منعزلا أبدا ولكنه فقط يحدد مساحة القرب والبعد ومساحة الصداقة ومتى يجلس مع صديق ومتى يجلس مع نفسة لقد اختار يوما كل شهر يجتمع فيه الجميع فى بيته. وحتى فى فتره انعزاله الشخصية كان اقرب لأصدقائه تلك طبيعة خاصة لفنان احترمها الجميع .. فهو صاحب الشخصيات الخاصة «المرتشون.. الموظفون.. الأزواج.. الفلاحون.. فئات الشعب بكل ألوانه»منضبط يذهب الى مكتبة مبكرا جدا يبدأ يومه مع ندى الصبح وحياة البسطاء يجلس على مكتبة وفى خفه يرسم خطوط مصرية وكأنك تسمع صوت سيد درويش ومع نفس الندى يعود الى صومعته الخاصة بالمنيل متأملا الحياة يصنع إبداعا للأطفال، جيل لم يلوث بغبار المدنية بعد نعشق تنابلة السلطان فى سمير ورسومه بمجلة ماجد، ويزداد الإصرار ليصنع كاريكاتير للأطفال فى تجربة خاصة ماركة حجازى التى لا تقلد. 

وعندما نقف أمام  موظفى حجازى نستمتع بحالة إنسانية مدركة لطبيعة الموظف الكسلان.. والمرتشى.. المفلس..معبرا عن الوجه السالب كطبيعة الكاريكاتير الانتقادية  الذى ينتظر آخر الشهر وهو خارج بجيوب بنطلونه الفارغة.. استطاع حجازى فى باب خاص به على صفحات صباح الخير، ان يقدم الإنسان البسيط فى تعامله مع موظفين آخر زمن.. استطاع ان يعبر عن الإنسان ببساطة أدركها بحس شعبى انسانى.. المتأمل لرسومه يمكنه ان يؤرخ لحالة وطن الملابس .. البيوت .. قصة الشعر .. ملابس الشباب والبنات .. أسعار الفاكهة واللحمة .. مشهد الحجرة الواحدة الأب على سرير غير حليق والأبناء ينامون تحت السرير والأخر يذاكر على الطبلية وإلام تطبخ بنفس الحجرة، مشهد يجسده حجازى بحرفية شديدة ولكنه دائما ما يشعر أن لديه الكثير فلم يحتفظ بأصول أعماله ولم يعلق اى عمل بمكتبه أو بيته فقد انتهى ووصلت الرسالة واستكمال الباقى طبيعة خاصة عجيبة ولكنها مرضية له ..

وعندما عاد الى طنطا استقبله الأهل بكلمة الحمد لله يا خال، انك ح تموت وسطنا وقد مات وسط الجميع وكتب فى وصيته ألا تخبر الأسرة أصدقائه ألا بعد موته بفترة حتى لا يزعجنا .. فقد انزعجنا بموته وفراقه.  حجازى هو سيد دروبش الكاريكاتير المصرى وفنان الحارة المصرية بجد.. رغم اختياره العزلة الإجبارية فى مسقط رأسه طنطا إلا أن خطوطه تنبض رافضة حالة العزلة تصرخ فى أعلى صوت فهو مسحراتى لنا طوال العام.

ستظل إعمال حجازى تاريخا خاصا لوطن عاش فيه حجازى حتى رأى بعينه ثورته الثانية وكم كنا نتمنى أن يرسمها لنا لنرى ما لم يمكن أن نراه إلا في رسومه التى ظلت  تضحكنا وتبكينا على واقع يدق ناقوس الخطر وهذه عظمة فن حجازى فهو باق رغم رحيل صاحبه.

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم