محمد الكفراوي
ينطلق المبدع أحيانا من خيط رفيع يربطه بالعالم، ينسج منه عالمه الإبداعي ونصه الفني، سواء كان شعرا أم نثرا أم حكيا روائيا، بعض المبدعين يحققون أكثر من جنس أدبي في نص واحد فيما يعرف بالكتابة عبر النوعية، فتجد الصورة الشعرية إلى جوار الأسلوب النثري السردي، إلى جانب الحكاية الغرائبية، وربما المشاهد الدرامية ذات الطابع المسرحي.
في ظني أن أحمد الشهاوي ارتكز في روايته الأولى “حجاب الساحر” الصادرة مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية على أمرين؛ تجربته الطويلة في عوالم الصوفية باعتباره الخيط الأبهى الذي يربطه بالعالم، وجعل من هذه التجربة وسيلة وطريقة ولغة وأسلوبا في الكتابة والحكي والتحليل للشخصيات والأحداث وحتى وصف الأماكن، والأمر الثاني الكتابة عن الحب التي برع فيها حتى يمكن القول أنه رائد ومؤسس لنوع أدبي جديد هو “أدب العشق “.
في “حجاب الساحر” يخوض الشهاوي للمرة الأولى تجربة الكتابة الروائية من خلال قصة قد تبدو بسيطة على المستوى الشكلي أو من خلال الرؤية المباشرة العابرة، لكنها تحمل عمقا روحيا وبلاغيا وفنيا وتفاصيل متعددة؛ ترتبط بالتاريخ والحضارات المختلفة وأدب الرحلات والأسفار، والتكوين النفسي للمرأة والعلاقة المعقدة التي يمكن أن تعيد صياغة العالم بين طرفين، ولكن يبقى الحس الصوفي والكتابة الروحانية التي تحفر في أعماق الشخصيات لتخرج منهم المادة الخام لوجودهم البشري؛ هو الأمر الأبرز في هذه الرواية منذ بدايتها، فالأفكار – كما قال رواد البلاغة وأسطوات اللغة القدامى – “ملقاة على قارعة الطريق” ولكن من الذي يصيغها فنا وأدبا وحكمة، الرهان إذن يكمن في كيفية تناول الموضوع وليس اختياره.
من حيث البنية الدرامية للرواية تنحصر الأحداث بين ثلاثة شخصيات رئيسية الشخصية الأولى هي البطلة “شمس حمدي” التي تأتي أوصافها لتنبئ عن النموذج المثالي للأنثى الفارهة، بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ على مستوى الشكل والطبقة الاجتماعية والمضمون الروحي والأفكار، وهي أيضا نموذج للعاشقة الاستثنائية التي تؤمن بحبيبها وتثق فيه ثقة عمياء، وتذوب في حبه بكل جوارحها، لذلك تتبعه وتنفذ تعليماته في رحلة اكتشاف السحر المعمول لها، ومحاولة تحصينها من شرور السحر والسحرة والعين والحسد، أملا في أن تتوقف آلامها وأوجاعها الروحية والبدنية، خاصة بعد أن أصيبت بالسرطان ودخلت لإجراء جراحة لإزالة الرحم موطن الورم.
الشخصية الثانية هي عمر الحديدي العاشق الصوفي المثقف البارع الذي كان له تاريخ من العمل في السحر، وهو الذي يقود شمسا عبر دروب وعرة للتخلص من آلامها وأوجاعها، ويخوضان سويا مغامرات في غاية الخطورة والتشويق سواء في البحث عن السحر المعمول أو في إجراءات وطقوس إبطال هذا السحر.
الشخصية الثالثة تبدو هامشية نسبيا ولكنها تمثل جانب الشر أو العقدة في الأحداث، وهي شخصية غازي الشحات المتزوج من أخت شمس حمدي والذي حاول ابتزاز شمس بشتى الطرق وفي النهاية هددها بتدمير حياتها ليسيطر على المصنع الذي يمثل ملكية مشتركة بين عائلته وعائلة شمس.
تبدو الشخصيات الثلاثة انعكاسا عصريا ورمزيا للأسطورة القديمة “إيزيس وأوزيريس” والأخ الشرير الطماع “ست” إله الشر.
هذا ما توحي به القصة التي تعتبر الحضارة المصرية القديمة بتراثها وآثارها ونصوصها المقدسة عنصرا مهما في تكوين شخصية البطلة التي تقرأ يوميا ساعتين في كتاب “الخروج إلى النهار” أو كتاب الموتى، كما تقرأ بعض الوقت في “متون الأهرام” أو نصوص التوابيت القديمة، من هذه الخلفية والمرجعية المصرية الأصيلة انطلقت شخصية شمس حمدي بحثا عن معنى الحياة والوجود في الحب والعشق والغرام الذي يملأ جوانحها بهجة وطمأنينة.
فهي كما جاء في نص الرواية “اسمها شمس، لكنها في الحقيقة شموس كثيرة من فرط فرادتها وخصوصيتها…. لم تعد تعرف أهي شمس حمدي أم إيزيس أم سخمت أم هن جميعا امرأة واحدة؟ن تعيش في داخلها إلهة أتت لتخلص الناس من الشرور والآثام.” ص 12
يتعرف القارئ شمس حمدي بعينيْ عاشقها، فيجد فيها كل ما يحلم به إنسان في امرأة؛ من حسن خلاب وجسد فياض، وعقل راجح وروح شفافة محلقة في الأعالي، وينساب الوصف من لدن العاشق لمعشوقته بطريقة موغلة في الهيام، ونتعرف أكثر على تفاصيل حياتها على لسانها فهي امرأة متزوجة ولديها ثلاث بنات، وتعاني الكثير من الأزمات بدون سبب واضح آخرها مرضها الذي استدعى إزالة الرحم، ورعبها من هذا الأمر لما يمكن أن يمثله من انتقاص وتشويه لأنوثتها.
هذا هو الجانب المادي للحكاية، أما الجانب الروحي فيتمثل في علاقتها بعمر الحديدي الذي يعشقها لدرجة العبادة، ويعرف الكثير عن آلامها ويسعى إلى فك السحر المعمول لها، مستغلا علاقاته بعالم السحر والأعمال السفلية ومحاولة تحصينها من شرور السحر والسحرة، واستعادة بصمة روحها المسروقة. فهو له باع في علم السحر والطب الروحي، ويؤمن بقدرات العقل وقيمة الخيال وقدرته على الإيحاء والتحكم والسيطرة في مجريات الروح.
“مع شمس لابد من استخدام كل ما هو متاح عندي، لإرجاع بصمة روحها المسروقة أولا، ثم استيلاد بصمات أخرى لا يعرفها سواي، كي لا تنسحب من الحياة كلية، حتى لو تطلب الأمر مني إعادة برمجة أدراج عقلها، ومنازل روحها، وهو أمر ليس مستحيلا، لكنه ليس سهلا او عابرا أيضا.” ص 147
لفك السحر الذي أصاب شمس وأدى إلى مرضها وفتور روحها ومعاناتها الشديدة في كل مناحي حياتها يذهب عمر إلى قريته وإلى قرى أخرى مجاورة يستشير المشايخ والعارفين بأمور السحر و”الأعمال” و”الربط والفك” وغيرها من الأمور التي تتطلب معرفة علوم السحر، ويعرف أن العمل المرصود لحبيبته موجود في حديقة والدتها، وأن الذي وضع هذا العمل هو زوج أختها غازي الشحات، وترى شمس صورته أكثر من مرة، لكنها لا تبوح باسمه وهي متعجبة من أن يصل به الشر لهذه الدرجة.
يخوض عمر وشمس مغامرتين مهمتين في طريقهما لفك السحر وتحصين روح شمس واستعادة بصمة روحها المسروقة، المغامرة الأولى تتمثل في اللجوء للقوة السحرية الكبرى لدى أجدادها الفراعنة، وما يمتلكونه من علوم وسحر ورؤى غرائبية للحياة وما بعدها، باعتبارها امتدادا طبيعيا لمسيرة الأجداد، فيكون على شمس أن تبيت ليلة عارية في غرفة الدفن داخل الهرم، وهي تجربة في غاية الصعوبة والخطورة نظرا لما يتبدى لها من عوالم غريبة وكائنات عجيبة، وتتكشف لها حقائق وأحوال لم تخطر على بال بشر.
الرحلة الثانية أو المغامرة الكبرى التي يقوم بها عمر وشمس تكون إلى اليمن وتحديدا جزيرة سقطري المعروفة بأنها جنة أرضية، والمنسوج حولها العديد من الأساطير، وبالفعل تخضع شمس هناك لطقوس معينة تساعد على استرداد بصمة روحها.
يبرع الكاتب في الربط الدائم بين شخصية البطلة وبين الشخصيات المستدعاة من التاريخ المصري القديم، وهذه السمة تعطي الرواية بعدا سحريا أسطوريا لما يزخر به التاريخ المصري من عجائب وأساطير وغرائب يحار العالم في أمرها.
ويعتبر الرهان اللغوي والأسلوبي في هذه الرواية رهانا أساسيا؛ لاحتفاء الكاتب الشديد باللغة واختيار الألفاظ والمصطلحات والتراكيب اللغوية بدقة شديدة وحرص كامل على توصيل المعنى بشكل بسيط وسلس، وهو ما يتبدى في التعشيق بين اللغة ذات الطابع التراثي أو الصوفي بما فيها من فخامة وجزالة وعراقة وبين الألفاظ المستخدمة في العامية المصرية مثل “يزعل” للحزن و “شوف” للنظر، وغيرها من الألفاظ الدارجة الواردة في سياق فني مختار بعناية، كما تبدو اللغة الشعرية واضحة في العديد من التراكيب التي يستخدمها الكاتب.
حجاب الساحر رواية المغامرات الصعبة والرهانات الكبيرة، والسحر والأساطير والوعي الصوفي، هي عمل فني يغوص في النفس البشرية ويحاول سبر أغوارها بطرق ووسائل شتى، أولها فهم الذات والتوافق معها ومعرفة قيمة بصمة الروح وتأثيرها كطاقة كبرى تحرك الإنسان وتتحكم في مصيره بوعي أو من دون وعي، وربما آخرها التوصل لصيغة مصالحة مع العالم بعد تحقيق السلام الداخلي سواء من خلال العشق كفعل مادي أو كحالة روحية ممتدة للأبد.