انتهيت من زينتى حتى صرت كزيتونة لامعة ترتدى أديم كرزة حمراء ، عبرت فى الدرب الواصل بين بوابة الطريق وباب المنزل ، داست قدمى أول طرد خريفى من أوراق شجر الفيكس المصطفة على جوانب الدرب القصير
كان أحساسى بالحياة فى أوجه حتى كدت أراقص كل وريقة من وريقات الخريف ، حتى أنى التقطت بعض منها ، دسستها فى الحافظة وإنطلقت إلى العمل .
عندما دقت الساعة التاسعة سرت فى الممر الذى يفصل بين مكتبى ومكتب السيد المدير ..كان هذا هو الوقت المخصص لعرض المستندات التى تحتاج لتوقيعه ، تطل على الممر نوافذ يجلس خلف زجاجها حشود من الموظفين ، ينتظرون مرورى بعد ان أصبحت أتمايل واتثنى مختالة اثناء ذهابى وعودتى .
لم أعتد التأنق ولا التثني فى مشيتي لكنى أصبحت كذلك منذ شهرين تقريباً بعدما التقيت به أول مرة ، كان جالساً فى ضيافة المدير ، عندما اصطدمت عينى بعينه أدركت مدى روعة الحياة وعرفت كيف أن هذا العالم الذى نعيشه ليس كما يصوره البعض .
لو كان العالم سيئاً حقاً ؛ فأنّى له أن يحوى كل هذا الجمال والسحر الذى هبط من السماء ؟!
لا اعتقد أنه مر من طرقاتنا ولا داس بقدميه على أرضنا ، بل تهادى هابطاً خلف أجنحة حنون تجلى بعدها ببهاء ورونق على هذا المقعد ، اعتقدت ساعتها أن السماء لابد وأنها قد أرسلت فلذة من كبدها إلى الأرض.
كنت اقلب الحافظة التي تحوى المستندات أمام المدير وعينانا متلاقيتان ، لم أنتبه إلا عندما نقر المدير على مكتبه بقلمه
انصرفت بلا رغبة في الانصراف ، كيف لحمقاء أن تترك خلفها هذا السماوي ، تأكدت ساعتها ان إرادتي خرجت ولن تعود ابداً وأنها تحطمت تماماً امام هذا الرجل ، اقسمت ؛ لو تمكنت منه ألا أغادر فيه اخمصاً ولا ذوآبة ، سرت عائدة إلى مكتبى وأنا غارقة في لحظ عينيه الآمرة التى تنقل الأشياء إلى حيث شاء ، اصطحبت معى عطره ؛ لم يكن عطراً بشرياً كالذى عهدناه ولكنه طبع وصبغ من طيوب الجنة التى أصبحت أعرف أحد ساكنيها ، عندما تكلم أمامى سمعت صوتا قادما من قلب دافىء لا من جوف فارغ كأجوافنا ، وطاردتنى ابتسامته التى أسكنت حيرتى و قهرت أنوثتى وأوقفت عندى كل حيل النساء .
سرت فى الممر لحظات وبعدها التفت لأجده يطارد بخطاه خطواتى البطيئة ، توقفت خاشعة أمامه مستعدة لأوامره طائعة لها مهما كانت.
قال لى مبتسماً واثقاً :
سأعود فى الخريف وعندها سيطول حديثنا
مضت شهوراً تركنى فيها على وعد بلقاء طويل يجمعنا، تعجلت قدوم الخريف ، لم أر خلال غيابه رجلاً يمشى على قدمين ، أصبح العالم فارغاً فى ناظري إلا من صورته.
*****
قطعت الممر فى هذا الصباح الخريفى الذى انتظرته طويلاً إلى غرفة المدير تحدونى أمال عريضة فى اللقاء المرتقب .
عندما أغلقت الباب ورائى وجدت المدير وأمامه رسالة وصلته عبر الفاكس ، كتم أنفاسه حتى انتهى من القراءة ، صمت تماما ثم سالت من عينيه دموع ، فى النهاية وقّع على الفاكس بما يفيد أنه قد طالع الوارد وحوله لى للحفظ ، عندما قرات مافيه عرفت أنه كان ضمن ضحايا الطائرة التى سقطت ليلة أمس ، وضعته فى حافظتى وانصرفت محترقة غارقة ومحطمة.
خاص الكتابة