محمد العبّادي
ربما لم يحصل أي فيلم هذا العام على هذا القدر من الترقب والاهتمام مثل “جوكر”, فمنذ اليوم الأول للإعلان عن مشروع عودة “الجوكر” للشاشة بأداء “واكين فونيكس” انفجر جدل هائل بين كل المهتمين بالسينما والقصص المصورة، بين فريق حكم على التجربة بالفشل كما حدث مع محاولة “جاريد ليتو” التعيسة لإعادة إحياء “الجوكر” في “الفرقة الانتحارية”، وبين من راهن على خبرة وموهبة “فونيكس” وقدرته على الفوز بتحدي إخراج “الجوكر” من عباءة “هيث ليدجر”.
وارتفع مستوى الجدل حول الفيلم مع عرضه الأول في مهرجان فينيسيا الذي توّج بفوزه بالأسد الذهبي للمهرجان، ليأتي العرض التجاري للفيلم بقدر هائل من الصخب ربما يليق بالصخب الذي ملأ أحداث الفيلم.
بدا من الصخب المصاحب لعرض الفيلم انتصار كاسح لمن راهنوا على نجاحه، فامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بعاصفة من المدح، موجة من المنشورات المليئة بالكلمات التي اعتدنا أن نراها في مثل هذه الأحوال: أعظم فيلم.. أحسن أداء.. أعلى تصوير.. عبقرية واكين.. إبداع فيلبس..
في أيام قليلة ارتفعت موجة المدح والاستحسان حتى أغرقت أصحاب الرأي الآخر، فمن جرؤ على انتقاد الفيلم قوبل بتعليقات تشكك في حسن ذائقته السينمائية أو تتهمه بأنه ينقص من قدر الفيلم فقط بحثا عن الظهور والاهتمام، وكأن الإعجاب المطلق هنا هو رأي مسلم به وغير قابل للنقاش.
لم أندهش كثيرا لهذه المبالغة، فطبيعة الفيلم نفسه والظروف العالمية المحيطة بعرضه تكفي لعمل حالة هوس تجاهه.
لكن يبقى واجبنا هو تحليل الفيلم بحيادية ودون الغرق في مبالغات المدح أو الذم.
لا فيلم بلا واكين: هكذا قالها المخرج “تود فيلبس” في خطاب قبوله للأسد الذهبي، ولديه كل الحق فيما قال.. ربما كان يجدر بلجنة المهرجان أن تمنح الجائزة مناصفة لكل من “فيلبس” و”فونيكس”.. مثلما فعلت لجنة “كان” 2013 حين منحت جائزة فيلم “حياة آديل” لمخرجه “عبد اللطيف قشيش” بالاشتراك مع الممثلتين: “آديل إكساروكوبولوس” و”ليا سيدو”.
ببساطة فإن أداء “واكين فونيكس” هو نقطة القوة الأساسية في هذا الفيلم، ويدين له الفيلم بجل نجاحه وهالة الانبهار الكبيرة التي أحاطته. “فونيكس” الممثل الخبير الذي رشح ثلاث مرات للأوسكار من قبل، يقترب بشدة هنا من الجائزة بأدائه الاحترافي الذي أضاف قيمة كبيرة ليس فقط لشخصيته، بل للفيلم ككل، يدعم فرصته في الفوز بالتمثال الذهبي هذه المرة أن أداءه هنا قريب من “ذائقة الأكاديمية”، بأداء “خارجي” به قدر كبير من الحركة.. بالإضافة إلى قيامه بإنقاص وزنه للقيام بالدور، وهو ما تقدره الأكاديمية كثيرا.
استطاع “واكين” هنا أن يضيف من خبرته وشخصيته للدور مستفيدا من طبيعة الفيلم الذي اعتمد في الأساس على كاريزما الشخصية التي يقدمها، ومستفيدا بالطبع من ضعف سيطرة المخرج على العمل والتي أعطت للممثل مساحة أكثر من كافية للإبداع. لتظهر لنا نسخته: الجوكر المختل عقليا الذي يملأه المجتمع بالانتقام حتى ينفجر في وجه الجميع.
من هو الجوكر؟: إن أردنا أن نحلل سيناريو هذا الفيلم، وبالتحديد إن أردنا تحليل شخصية الجوكر كما طرحها هذا السيناريو يجب أن نراجع ما نعرفه عن تاريخ الشخصية من قبل، يمكننا أن نعتبر أن عندنا نسختان سابقتان من شخصية الجوكر:
– جوكر (دي سي). وهو الذي ظهر في العديد من القصص المصورة التي انتجتها شركة “دي سي” وظهرت فيها شخصية الجوكر، وظهر كذلك في العديد من الأفلام والمسلسلات التي اقتبست شخصية الجوكر في صراعه الأبدي مع باتمان.
– جوكر (نولان): وهو النسخة التي أبدعها المخرج كريستوفر نولان في فيلمه “فارس الظلام”، حيث ظهر الجوكر بشكل أكثر سوداوية وتعقيدا من صورته التقليدية، وبدا أقرب لداعية للفوضوية أكثر منه مجرم تقليدي كما كان يظهر في الأعمال الأخرى.
فماذا عن هذا الجوكر الجديد؟. قد نعتبره خليطا بين النسختين، فمن ناحية استفاد صانعو الفيلم من “تساؤل الهوية” الذي زرعه “نولان” في شخصيته، فعبر أحداث “فارس الظلام”، يحكي الجوكر عدة حكايات عن ماضيه وكيف أصبح على ما هو عليه، من هذا الجانب ففيلم “الجوكر” هو إجابة لهذا التساؤل، من أين جاء الجوكر وكيف أصبح ما هو عليه؟.
لكن الفيلم اقتبس جوانب اخرى من جوكر دي سي.. منها تفاصيل الشكل الخارجي للجوكر، كذلك سن الشخصية، فالجوكر هنا يقابل بروس واين في طفولته، ما يعني أنه أكبر منه في السن كثيرا..
جوكر بنكهة “سكورسيزي”: لكن هناك مصدر ثالث للاقتباس من السهل ملاحظته في الجوكر الجديد، فقد استفاد صناع هذا الجوكر كثيرا من عالم أفلام المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي في السبعينات والثمانينات، وخصوصا من فيلميه: سائق التاكسي. 1976, وملك الكوميديا. 1982. الاقتباس هنا ليس في الشخصية الرئيسية وحدها.. بل في عالم الفيلم ككل.. لدينا هنا البطل المأزوم نفسيا الذي يتحول إلى قاتل.. نسخة حديثة من “ترافيس بيكل” بطل “سائق التاكسي”.. ولدينا هنا: جوثام. مدينة كبرى متحللة غارقة في الجريمة والفساد.. نسخة أخرى من نيويورك سائق التاكسي.. وبطلنا آرثر يحاول أن يصبح كوميديان.. ويستلهم مثله الأعلى من كوميديان كبير له برنامج تلفزيوني ناجح، نفس ما نجده عند روبرت بابكين “ملك الكوميديا”، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك العلاقة المشوشة بين البطل وأمه في الفيلمين.
لتأكيد التشابه يأتي اختيار روبرت دي نيرو لدور الكوميديان الكبير هنا، اختيار من الواضح ـنه متعمد لبطل الفيلمين السابقين (لكن هل هو اختيار ذكي؟).. أداء دي نيرو هنا جاء كمعظم أداءاته في السنوات الأخيرة: مصطنع ومتكلف ويفتقد إلى الحياة، خصوصا أن الدور ضيق المساحة ولا يعطي فرصة حقيقية للإبداع، ولم يكن يحتاج لقامة بحجم دي نيرو لتؤديه، ما الفائدة من وجوده في مثل هذا الفيلم؟.. فيلم “الممثل الواحد”.
لكن هل نجح خليط (دي سي/ نولان/ سكورسيزي) في عمل نسخة ناجحة من الشخصية، بالتأكيد “ناجحة” ولكن ليست “مبتكرة”.. فالشخصية هنا هي توليفة ناجحة من عدة نماذج جاهزة من قبل، لكن ما أعطى هذا الظهور المتفرد لهذه الشخصية هو تقديمها بالأداء المتفرد لواكين فونيكس، أداء واكين هو الذي غطى على عيوب الكتابة وتنافر مكونات توليفة الاقتباسات.
ماذا عن الصورة؟: لكن السينما ليست ما “يقال” في السيناريو.. لكن ما “يرى” على الشاشة.. فإن حللنا عناصر صورة الفيلم نجد تفاوتا في المستوى من عنصر لآخر.
ربما يكون تصوير “لورانس شير” من أقوى مكونات تنفيذ الفيلم، رغم أنه تصوير “تجاري” في أغلب أجزاء الفيلم إلا أنه نجح في التعامل مع الإضاءة بشكل ناجح.. فنجد نمط إضاءة خاصاً للمجمع السكني الحقير الذي يسكن فيه آرثر، يبدو متناقضا تماما مع قصر “توماس واين” المنيف ذي الحديقة المليئة بالضوء الناصع.. كذلك ساعد التصوير على تكوين الصورة الذهنية “السوداوية” عن شوارع جوثام.. نجد أيضا نمطا خاصا لتصوير مستشفى “آركام” للأمراض العقلية.. بينما استخدم نمطا “تليفزيونيا” لتصوير البرنامج الكوميدي.
الديكور كان انعكاسا للفوضوية التي تشمل المدينة.. كتابات ورسومات “جرافيتي” في كافة الأنحاء.. في الشوارع وعربات المترو والأوتوبيس.. مبانٍ متهالكة متربة وشوارع غارقة في القذارة كما يليق بمدينة تحتضر.
مكياج الجوكر هو دوما من العناصر المهمة في عرض الشخصية.. وهنا المكياج مال ناحية مكياج “جوكر” دي سي التقليدي مع بعض التطوير ليليق على طبيعة الشخصية والبيئة المحيطة بها.
المونتاج جاء جيدا وذا إيقاع مناسب في مناطق كبيرة من الفيلم، لكن في النصف الثاني من الفيلم ومع الاقتراب من ذروة الأحداث يزيد طول اللقطة دون مبرر حقيقي، ويتثاقل الإيقاع فيقتل التشويق.
لكن قد تبدو مشكلة الإيقاع مجرد انعكاس لمشكلة أكبر: الإخراج ككل، إذ يبدو تود فيلبس هنا في صراع ليثبت لنفسه وللعالم أنه ليس مجرد مخرج خفيف، أنه مخرج جاد وعميق قادر على بناء فيلم معقد على مستوى الصورة والسيناريو، يمضي فيلبس طول الفيلم في محاولة عمل كادرات ومشاهد معقدة تظهر قدراته الكبيرة كمخرج.. لكن للأسف.. المنتج النهائي لم يظهر هذه القدرات المزعومة.. بل على العكس.. جاء الفيلم مشتت الإيقاع.. يفتقد السيطرة والإبداع من المخرج.. فبدا واقعا تحت سيطرة الممثل/ البطل في الأساس.. يدعم هذه الرؤية السيناريو الذي جاء في النهاية – ورغم توليفة الاقتباسات – مهلهلا مليئاً بالصدف غير المبررة ونقلات الحبكة غير المنطقية.. ليفتقد الفيلم في دقائقه الأخيرة إلى قوة الدفع وتنتقل المشاهد من قوة الذروة Climax إلى رتابة وبرودة ضد الذروة Anti Climax .. فبعدما يصل المخرج إلى ذروة الحدث في مشهد البرنامج الكوميدي يبدأ في إضافة المشهد تلو الآخر دون فائدة حقيقية إلا استعراض عضلاته الإخراجية شبه المعدومة.
جوكر لهذا العالم: في المطلق يمكن اعتبار “جوكر” فيلماً متوسط القيمة، ممتعاً للمشاهدة، بالتأكيد لن تشعر بالندم حين تشاهده في السينما، لكنه بالتأكيد أيضا بعيد عن التقييمات المبالغة التي اعتبرته تحفة سينمائية. فما الذي رفع شعبيته الجماهيرية لهذا القدر؟
أظن أن الأمر ببساطة انه الفيلم المناسب في الوقت المناسب، “جوكر” مناسب للعالم الذي عرض فيه.. لقد اصبحنا في عالم تجتاحه الفوضى والجنون.. فمن الطبيعي أن يلامس هذا الفيلم مشاعر الجماهير بكل ما يحتويه من فوضى وجنون كما في عالمنا.. ودعوته لثورة، محملة بنفس القدر من الفوضى والجنون.