هناك معادلات موضوعية عدة يستطيع القارئ أن يستشفها، للوصول إلى المرحلة التنويرية لبيت القصيد الملم بالأفكار الرئيسة بالرواية؛ أولها العنوان «جنية في قارورة»؛ والذي يمهد للانطباع الأسطوري الذي تحويه الأحداث، وقد حاول أن يوصلها إلينا الكاتب بتقنية (الميتاكتابة) معتمداً على اللغة الشاعرية المتلائمة مع المونولوج الداخلي لمناسبة هواجس التخاطر بين الشخصية المحورية والشخصيات الثانوية، وثانيها الغلاف المعبر بأبعاده الفنية التي تجمع بين جبهتي الرواية، فصورة الفلاحة شبه المتحفظة التي تحمل الجرة، تمثل المنظور الشرقي،وصورة الفتاة الغربية المتحررة بالخلفية، تمثل المنظور الغربي، وثالثها اسم البطلة(حنين)وقد اختاره الكاتب بذكاء شديد، ليبرز الحافز الأكبر لفكرة العودة من خلال الإعداد والتخطيط المتكامل للشخصية.
تتحرك إدارة الرواية من المذكرات التي تدونها الابنة(حنين) المقيمة بباريس، التي ولدت لأب مصري مسلم (رامي)، وأم فرنسية مسيحية(كرستين) ،وقد أسند إليهما الكاتب دور البطولة من قبل بروايته «ابتسامات القديسين»، وبذلك تعتبر(حنين) هي النتاج الطبيعي لتلك العلاقة غير المرغوبة اجتماعياً، ولذلك قررت أن تبدأ رحلة بحثها عن حقيقة تلك العلاقة بعد اختفاء أمها الغامض، بدخول كهف المجتمع الشرقي، مستخدمة جسدها كمعول للتنقيب، وذلك بخلاف المذاهب الشكية الأخرى التي صدرت العقل في البحث للوصول لحقيقة ما، ولكن استخدامها لجسدها له أغراضه التي تستنفر خواص المجتمع، فربما تخرج عليها الحقيقة من خلال هذا الهياج الذي ستحدثه بجسدها بمجتمع متحفظ، وقد حاولت أن تقنن هذه الوسيلة بخلق تبرير يرضيها، فحددت أهدافاً معلنة من زيارتها لمصر؛ وهي اختبار فرصة العيش في القاهرة، وإنجاز مشروعها للماجستير وموضوعه «العلاقات الجنسية وتأثرها بالمستوى الاقتصادي في مصر»، وزيارة عمتها نادية في المنصورة علّها تعرف كيف انتهت أمها المسيحية (كريستين) إلى حيث لا يعلم إلا الله، ولكن كل هذه الأهداف وهمية تحاول أن تقنع نفسها بها، في حين أن الهدف غير المعلن هو البحث عن هويتها الثابتة، بعد أن فشلت في العثور عليها عندما زارت والدها بدبي قبل وفاته.
نجح الكاتب في عقد موازنة تشخيصية من خلال بطلة القصة (حنين) بين الشخصيات الشرقية التي عايشتها بمصر(عاصي، علي، نسرين، نادية)، والشخصيات الغربية التي تعيش معها حالة الفصام المركب؛ (ديفيد) الحبيب المزعوم،(باتريرك) العشيق اليهودي المتعصب، (نتالي) الصديقة السحاقية التي تمثل لها مرآة الجسد، وخلصنا من هذه الموازنة بأن البطلة الباحثة عن هويتها الحقيقية، لم تجد نفسها مع «عاصي» الفتى الشرقي الوسيم الأسمر الذي تقابلت معه بالفندق في القاهرة، وقضت معه وقتاً ممتعاً، لكنه اختفى باليوم التالي، وترك لها الحيرة على وسادتها، فرغم أنها رأت في عينيه السوداوين مشاهد متعددة من هويتها الحقيقة، ورأت بهما مشهداً لأمها وهي ترتدي ملابس راهبة وتبتسم لها بحنان، إلا انها شعرت أنه غلبها بغموضه، حتى أنه نجح في أن يجعلها تشك إن كانت مارست معه الحب أم لا، وكذلك لم تجد نفسها مع (علي) الشاب الذي تعرفت عليه بمدينة شرم الشيخ، والذي غلبها هو الآخر بتمنعه معها رغم أنه قص عليه علاقاته السابقة مع (الخواجات)، لكن دماءها الشرقية وقفت حائلا بينها وبينه، وفشلت في العثور على هويتها مع ابنة عمتها «نسرين» التي ترتدي الحجاب لإرضاء خطيبها، وتحمل مفاهيم داخلية نحو العالم الذكوري، تغاير واقعها الذي تعيشه، رضوخاً لعادات مجتمعها الشرقي، ففوجئت حنين أنها وقعت بمجتمع لن يمنحها ما تريد لأنه يحمل مفاهيم عنيفة نحو الجسد، ولن يكون هذا المجتمع أبداً كمدن الزجاج التي تحلم بها، والتي تمنح من يعيش بها الشفافية الكاملة التي تجعله يرى كل الأشياء من حوله، لذلك سقطت كل أهدافها المعلنة، وغير المعلنة، فباتت فكرة إقامتها بالقاهرة شبه مستحيلة، والمعلومات التي جاءت تجمعها لخدمة دراستها ستكون معلومات ضبابية، حتى ان بحثها عن حقيقة اختفاء أمها، كانت سبباً في صدمتها بشخصية أبيها عندما قرأت مذكراته الخجولة على حد وصفها، التي أعطتها لها عمتها نادية، فصدمت عندما شعرت بأن أباها يتردد في الكتابة عن صديق مسيحي كان على علاقة بأخرى مسلمة وهذا الكلام في حد ذاته إدانة قوية لشخصيته، وعدم قناعته التامة من زواجه بأمها المسيحية، وتتساءل (حنين) إذا ما كان تردده لآفة تعصب كانت قارة في شخصيته؟، لكن المكسب الوحيد الذي جنته من تلك الزيارة هو عثورها على المفهوم المرتبط بكلمة «بلاد» الذي بحثت عنه كثيرا بين شوارع باريس، فعلمت أخيراً أنها تعني «وطن».
في النهاية تعود (حنين) لباريس، لتصنع هويتها الثابتة بنفسها من خلال التدوين بعد أن فشلت في العثور عليها بشتى الطرق في عالم الواقع، فلجأت إلى الأسطورة كحيلة دفاعية تعينها على صنع قارورة شاسعة من زجاج، تستطيع أن تتفرج على العالم من خلالها، وترى كل الأشياء على حقيقتها، دون أن تعبث بها يد إنسان، وتلك الميول الأسطورية تلتقي مع ميول الكاتب، الذي أغرق في القطع الحدثي بالتركيز على الإطناب بالفكرة، بشكل مغرق لا يخدم مصلحة السرد، وسيولة الحدث، ولكنه في الوقت نفسه استخدم نظرية (عبر البيئة) بشكل موظف، ليتملص من تهمة اللعب على وتر الفتنة الطائفية المرتفع عزفه بمصر بالوقت الحالي، مقسماً الأحداث بين مجتمعين مختلفين، ثم جلب شخصية (حنين) لتقوم بدور القاسم المشترك الأكبر، الذي يدعم من خلاله فلسفته الخاصة، ليبرهن الفكرة بعقل المتلقي.