جنية الأسنان

محمد محمد مستجاب: لا أعرف المتاجرة بالأدب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد محمد مستجاب

تخبرني صديقي الجديدة التي تعرفت عليّ عن طريق ” الفيس بوك” أنها تريد لقائي.

أعتذر لها بشدة نظرًا لانشغالي برعاية أمي المريضة، تلح في اللقاء، وتخبرني أنها قد حلمت بي ثلاث مرات خلال أسبوع واحد، وأنها كانت تتابع صفحتي لمدة شهر قبل أن ترسل طلب الصداقة، وأنها عندما لم أستجب، أرسلت لي رسالة طالبة رقم هاتفي.

تبدو تلك الصديقة الجديدة التي لم ألتق بها، أنها نافذة بوح، لا تكف عن الاتصال بي منذ أن أرسلت لها رقم هاتفي، وأخبرت نفسي أن الأمر سوف يتوقف بعد عدة أيام، لكن طلبها لقائي أثار قلقي الشديد.

رغم سكنها في مدينة بعيدة، إلا أنني فوجئت بها منذ عدة أيام تتصل بي، لتخبرني أنها تقف قريبًا من بيتي، لكنها لا تعرف البيت تحديدًا، وأنها في انتظاري على الشارع الرئيسي أمام قاعة سيد درويش.

أحاول ان أتماسك وأنا اطلب منها الانتظار، فبعد دقائق سوف أكون أمامها. من المؤكد هي صديقه مجنونة!!

هالتني ابتسامة استقبالها، ابتسامتها التي تشبه الحضن، فكرتني بقصة حبي العظيمة أثناء الجامعة، كانت مبتسمة وتنظر لي رغم ضجيج الشارع وزحامه، وكأنها تقول لي: أيه رأيك؟، وتكمل الصديقة الجديدة: أليس الرابع من نوفمبر هو تاريخ قصة حبك القديمة الآن؟

حاولت عدم التفكير فيما تخبرني به، وحاولت أكثر أن أطل في الفراغ بعيدًا عن نظرات عيونها الثابتة على عيني. لكني فشلت!!

حركاتها الطفولية، وابتسامتها، وعدم ثباتها أثناء الحديث، ذكرتني بابنتي يسر، طلبت أن نجلس في مكان كي نتحدث، رغم أنها لم تصمت طوال الدقائق التي ذهبنا فيها إلى مقهي قريب من البيت، إلا أنها كانت تتحدث بحميمية أفتقدها، تسأل عني وعن والدتي، تسأل أسئلة كنت أبحث عنها من أشخاص آخرين، لكنها تسأل وكأنها تعرفني من زمن بعيد، تخبرني أنها التقت بي في حيوات أخرى، وأن الخذلان والفقد والحزن الذي يظهر على عيوني، شيء قديم، وإنها دائمًا تظهر لي عندما أشعر بخيانة تمت من أقرب الأشخاص لي، أخبرتها انني لم أعد أنجذب للبدايات، حتى لا أقابل بفقد عظيم في النهايات، تخرج لي الهاتف المحمول وأجد صورة ابنتي عليه، تخبرني أنها أحبت ابنتي حبًا عظيمًا من علاقتي بها، وأنها تمنت أن يكون والدها أو حبيبها مثلما أتعامل مع ابنتي، تخبرني أيضًا بأنها قد أحضرت لابنتي بهدية صغيرة، تخرج الهدية من حقيبتها، عروسة صغيرة في حجم  الإصبع.

العروسة تشبه كثيراً من العرائس التي كنت أشتريها لابنتي وأضعها أسفل وسادتها لتجدها عند استيقاظها، فتخبرني ابنتي بسعادة عظيمة بأن “جنية الأسنان” هي من أرسلتها، أتذكر كم الألعاب والملابس التي اشتريتها لابنتي، ولم تراها أو تستخدمها بسبب بعدها عني، ابنتي التي تشبهني في تصرفاتها وحركاتها، والتي تضع ساقا على ساق مثل جدها مستجاب أثناء النوم، ابنتي التي أراها على هاتف صديقة تبدو لي منطلقة أكثر من اللازم.

فجأة تخرج لي الصديقة الجديدة أحد كتبي، وتطلب توقيعي عليه، أشعر ببعض السعادة، وأتذكر الكتابة، وأنه يجب أن أرمم روحي التي قسيت عليها طوال هذا العام، روحي التي هاجمها الحزن والاكتئاب بشدة كما ذكرت لي الصديقة الطبيبة النفسية منذ عدة شهور.

شعرت بأن الصديقة الجديدة قد خرجت فجأة من قمقم الزمن، لا تكف عن ذكر أشياء حقيقية لحياتي، وتردد خلف كل عبارة “هذا حدث لك في حياة أخري”.

كلماتها شجعتني على الابتسام، وقلت لها كي أنهي حديثها: هل تزوجنا في حياة أخري؟

تنفجر الصديقة الجديدة في ضجة صاخبة تجعل العالم كله ينظر إلينا، وتذكرني بضحكتي الصاخبة التي كانت تشبه ضحكة مارد يخرج من قمم. ولم أعد أضحكها!!

تقول: للأسف لأ!، نحن أصدقاء فقط، نرمم أرواح بعض، نخبر بعض – رغم البعد – بأنه يوجد من يسأل علينا، أضحك وأخبرها أن كل هذا هراء، لكنها لا تتوقف عن مفاجأتها.

تخبرني بأن هاتفي سوف يرن بعد لحظات، لكن لا اتصال يأتي بل رسالة من صديقة وكاتبة كبيرة، تطمئن على والدتي، وتخبرني بأنها تريد أن ترسل لي مبلغًا من المال لمساعدتي في علاج والدتي.

أنظر للصديقة الجديدة، وأبتسم، بأنني يجب أن أتركها الآن لتأخري على والدتي، لكنها لا تريد أن تركب السيارة التي طلبتها، تريد أن أظل أقف معها، أحاول الهرب منها، أريد أن أعبر الشارع للذهاب لبائع الجرائد، تصمم أن تعبر معي، تمسك يدي، تذكرني بابنتي التي تحب دائمًا قبضة يدي عليها، قبضة يدي التي لا تشعرها بالخوف بقدر شعورها بالأمان، أقف عند بائع الجرائد أطل على المجلات، لكن الصديقة الجديدة، تطلب ما كنت أفكر فيه، مجلة ماجد وعلاء الدين وناشيونال جيوغرافيك، أنظر لها بعدم تصديق، تقول تلك المجلات لابنتك، لكني لا أعرف ماذا تريد من جرائد أو مجلات، آخذ من يدها المجلات، وأصمم أن تتركني، تجدني غاضبًا، لكن ابتسامتها تهدئ من تطفلها وعدم تصديقي لما يحدث، أشير لسيارة أجرة، وأضعها فيها، وتركب في المقعد الخلفي وتدير رأسها وتشير لي بيدها، ثم ترسل قبلة في الهواء.

أستدير عائدًا للبيت في ارتباك شديد، ألقي المجلات على المقعد، واطمئن على أمي، والتي كانت تريد بعض الماء، أمد لها الأنبوب كي تشرب، تخبرني بأنها شعرت بمجيء أحد للبيت أثناء غيابي، أضحك مع أمي وأنا أضع عليها الغطاء، وأخبرها بأن أحد لم يأت، تقول بصوتها الخافت: جاء أحد، قلت ربما تكون تهيؤات أمي التي تنتابها كثيرا من كثرة الأدوية ومن شدة الألم، ورغم فقد بصرها، إلا أنني ربّت على رأسها وقلت لها حاضر.

تركت أمي ودخلت لإعداد كوب شاي، لكن أثناء تبديل ملابسي وجدت حقيبة بها جاكتا جديدا وباكو روق أبيض ومجموعة من الأقلام، منذ مدة لم أشتر شيئًا لنفسي، حتى أشيائي التي كنت أعتز بها، والتي صارت نهبًا لامرأة دخلت حياتي ذات يوم، وسخرت من ملابسي ونظافتها أو ترتيبها في الدولاب، أقوم بارتداء الجاكت، أجده مقاسي تمامًا وعلى وزني الجديد بعد أن فقدت كثيرًا منه في الفترة الماضية، أحاول أن أعرف من جاء أثناء غيابي للبيت، لكن أمي تعود لتخبرني أنها شعرت بأن احدًا قد جاء، لكنها لم تره.

قلت لأمي ربما تكون “جنية الاسنان”، وابتسمت ودخلت الشرفة وجلست أتابع الليل والسماء، تناولت الهاتف لأتصل بصديقتي الجديدة. لأخبرها بما وجدت في البيت بعد عودتي من لقائها. لكني أجد رقمها قد تلاشي من هاتفي كما تلاشت صفحتها من على الفيس بوك.

الشيء الوحيد الذي لم يتلاش قبلتها التي أرسلتها لي والتي لا تزال حتى الآن ترمم روحي. والعروسة الصغيرة التي في حجم الأصبع والتي تذكر ابنتي بأن جنية الاسنان لم تنسها وتنتظرها.

3 نوفمبر 2022

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون