مدثر زكي
هبط الليل منذ زمن، لكن شفقا ظل قائمًا بالأفق الشمالي يأبى الانقضاء، وقد نثر حمرته على قطع من السحاب ساكنةٍ كأنها رُصت منذ بَدأ الخلق، والقمر مكتمل أعلاي لا يجد ما ينيره سواي وكومتين من القمامة وكلب هزيل يذهب ويجيء بينهما يفتش عن عشاء له، وأنا بمثانة ممتلئة وعينين شاخصتين. لا يبدو أن موتًا قد يأتي على هذه السماء وهذه الأرض، وقد أحكم الأفق قبضتهما على العالم. كل شيء هنا يعد بالخلود، تقول السماء: اذهب للتبول، وتصدّقها الصحراء: وعُد لتجد كل شيء كما هو، ويومئ لي القمر أنه لن يفارقني حتى، وإنما أرى موت هذا العالم فيه وأحصل على عزائي منه، وأدرك أن هذه الجنازة موشكة على الانتهاء، ولا أريد إلا أن أشهدها كاملة (ولا أريد كذلك أن أفرط في بولي)، وإنني لذو حظ عظيم إذ أتلقى عزائي من عالم كهذا يحكمه الموت. علام البكاء إذن؟ أتصور ملكًا بلغ من العمر أرذله واقترب موته، فأمر حاشيته بإقامة جنازته ليشهدها قبل أن يفقد كل شيء حقيقته، وأمر جنده بقتله قبل دفنه، كأنه يستبدل بالموت موتًا آخر من تصميمه مألوفًا. لكنه حين أتى الأجل قام من نعشه في هلع يعدو وهو يبكي بكاء طفل يريد أن يلعب بدميته قليلا بعد، أو نحيب متمرد قد رأى موته ولم يدرك بعدُ جدواه، لا أدري، لكن جنده قتلوه على كل حال، وفقد كل شيء حقيقته.
حضرت جنائزي كلها وحدي، التفتُّ بعد نهاية كل لقاء لأقف على شاهد حب فقدَ حقيقته للتو بغياب ذلك الوجه اللطيف، ولم أحصل سوى على مؤخرات مبتعدة، ولم تكن هذه تقول شيئا، ولم أكن أريد سوى أن أرى مرة واحدة بعد (سأخرجها لعمري من هذا الزمن) ذلك الوجه المألوف الذي كان وجهَ العالم لبضع ساعات مضت، غاب عنها الموت، قبل أن يبتلعها الأزل؛ لا لإنقاذ حب قتلناه، وإنما لرثائه. هذا العالم يلتفت لي، ولا يزال وجهه جميلًا كما ينبغي، وإن لم يصدق القول هذا المساء. لا لأريد أن أفر هاربًا، لطالما فررت ولطالما قُتلت، لطالما بكيت كطفل يخشى أن يفقد دميته، وكمتمرد لا يدرك جدوى موته، مؤمنًا بأن الدمع سيصعّب مهمة الدود، وأنه حين يهوي النصل سيحمله الحب لثوانٍ ستكون انتصاري الأعظم على الموت. أريد فقط أن أكون حاضرًا دائمًا حين يلتفت العالم لي، وأن أشهد جنائزه كاملة، وأن أحمل عزائي حتى جنازتي.