جماليات المكان البغدادي في هايكو الشاعر حميد العادلي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عباس محمد عمارة

حميد العادلي شاعر عراقي، ولد في بغداد عام 1972درس الإعلام والصيدلة. ونشر مجموعتين ورقية في الهايكو هما: ارتعاش الثلج عام 2019 و رقصة الفالس وأزهار النرجس عام2021 ومجموعة من الإصدارات الإلكترونية والمشاركة في الأنطولوجيات العربية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا نكتب الهايكو؟ لماذا نكتب الهايكو في ظل وجود القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والنثر والومضة وغيرها من الأجناس الشعرية.  العالم يتغير، أحداث 11 من سبتمبر واحتلال العراق2003 وظهور مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت وتحول العالم الى الرقمنة والتواصل الحضاري بين الشعوب وعدم تطور الأشكال الشعرية القديمة وغيرها من المسببات والمستجدات ساهمت في الانفتاح العربي على الهايكو وفي هذا المجال تقول الدكتورة بشرى البستاني: “إن الذين ينتقدون الشباب العربي على اهتمامهم اليوم بفن الهايكو عربيا، وليس يابانيا ، ينظرون للقضية على أنها مجرد لعب ، على أهمية اللعب الفني الذي يمتلك قوانين اللعبة ويحافظ عليها من الانفراط ، لكن المتدبر للأمر يجدها أبعد من ذلك وأهم ، إنها ليست عملية ممهدة ولا يسيرة ، بل هي طريق محاط بالمكابدة والمعاناة من أجل خلاص الروح والعقل والجسد ، لأنها ليست مسألة تغيير بنية أو تجديد شكل كما يتصور بعضهم ، بل هي تغيير رؤيا أولا ، وبدون هذا التغيير لن يكون لتغيير البنية كثيرُ أهمية”. ((د. بشرى البستاني – الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى 1-موقع الحوار المتمدن 2015)).  

من الأسباب الشائعة لرفض الهايكو في بداية نشأته هو عدم توفر النصوص الجيدة والمعلومات الخاطئة ومحاولة مقارنته بالقصائد العمودية وعدم وجود نقاد متخصصين في قصيدة الهايكو. ومن طرائف ما اذكر أن أحد النقاد كان يلاحق ندوات ومهرجانات الهايكو التي تعقد في أماكن مختلفة من بغداد بالحجج الجدلية والعقل الدوغماتي الرافض للهايكو. نعود إلى الهايكو وكيف نعرفه وهل له تعريف جامع وشامل. التعريف الاشتقاقي للهايكو (طفل الرماد،الكلمة المضحكة)

لا أهمية له إلا من الناحية التاريخية فقط. يختلف تعريف الهايكو اصطلاحا ولا يوجد تعريف ثابت أو محدد. كل التعريفات تشير إلى بعض الخصائص الضرورية وهذه التعريفات قابلة للإضافة والحذف من بعض الخصائص بسبب تطور الهايكو واختلاف البيئات ووجهات نظر الشعراء في التأكيد على جوانب معينة. ومن هذه التعريفات تعريف جمعية الهايكو الأمريكية عام 2004:  “الهايكو قصيدة قصيرة تستخدم لغة تصويرية لنقل جوهر تجربة الطبيعة أو الموسم المرتبط بشكل حدسي بالحالة الإنسانية”.  تعريف آخر للشاعر والناقد الأمريكي مايكل ديلان ويلش: الهايكو قصيدة من ثلاثة اسطر تستخدم الصور الحسية لنقل الظواهر والتجارب الخاصة بالطبيعة والطبيعة البشرية أو الإشارة اليهما باستخدام تقنية أو بنية التجاور التي تتشكل من جزئين (صورتين)بلغة بسيطة وموضوعية “•المصدر: GRACEGUTS.

بعض التعريفات تشير إلى أهمية القطع (kiru’ or ‘kire’ )الذي يربط أو يفصل بين صورتين؛صورة ثابتة وصورة متحركة كما تشير اليه الشاعرة الهندية كالاراميش في نص باشو الشهير عن الضفدع. يمكن مقارنة مصطلح الهايكو بمصطلح الفلسفة philosophy من حيث النشأ والثبات ومفارقة الأصل اليوناني والتعريفات المختلفة حسب أراء واتجاهات الفلاسفة. تاثير الهايكو الحديث على تجربة العادلي نجده واضحا في نصوصه وهذا يعود إلى اطلاعه المبكر على الهايكو الغربي من خلال الترجمات العربية في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية كما ساهمت في بلورة وتشكيل ملامح الهايكو عنده مبكرا ومفارقة بعض التنظيرات العربية للنقاد والمترجمين التي لا تعترف بامكانية كتابة الهايكو باللغة العربية. حيث أشار في حواري معه عام 2021 إلى تعرفه على الهايكو من خلال اطلاعه على ترجمات مجلة الأقلام للشعر الإسكندنافي عام 2009 وترجمات جاك كيرواك وتوماس ترانستومر.  يشار إلى أن لينا شدود قد ترجمت “كتاب جاك كيرواك ” عام 2014. اما الأعمال الشعرية لتوماس ترانسترومر ترجمها عن السودية قاسم حمادي /الطبعة الأولى 2005. أثر كيرواك في نصوص العادلي واضحة جدا في تناوله ذات الموضوعات كالقطط والعصافير والقهوة وأسلوب تناوله للمشاهدات اليومية بطريقة واقعية. من ناحية أخرى اعتقد أن ترجمة مقالة عزرا باوند في محطة المترو -نشرت باللغة الإنجليزية عام 1913 -إلى اللغة العربية قد عززت الثقة بالنفس عند شعراء الهايكو العرب ومنهم العادلي لتجريب كتابة الهايكو. أشير هنا إلى ترجمة عبد القادر الجنابي في موقع ايلاف الإلكترونية عام 2014 ثم أعاد بكاي كطباش نشر مقالة عبد القادر الجنابي المترجمة في نادي الهايكو-سوريا في 23 نيسان 2014. استطاع عزرا باوند لفت الانتباه إلى أهمية الصور المستخدمة في الشعر وبالتالي أهمية الهايكو الياباني وتأثيره العميق بغض النظر عن الجدل النقدي الغربي الذي دار حول اهمية عزرا باوند واهمية قصيدته “في المترو ” هايكو أم لا إلا أنه يشكل المرحلة الأولى-مرحلة المراهقة والبداية في تاريخ الهايكو باللغة الإنجليزية حسب مايراه الناقد الأمريكي الكندي بروس روس.

في محطة مترو

اطياف هذه الوجوه في الزحام

بتلات على غصن ندي،اسود

ويشير بروس روس في ذات المقالة نشرت 2012 إلى أهمية الشاعرة إيمي لويل في الهايكو اكثر من عزرا باوند كونها التقطت الخصائص المتأصلة في الهايكو خارج الموضات الحالية للفن والشعر الصيني والياباني بينما بقي باوند اسير المدرسة الانطباعية في معالجته للصور الشعرية. بغداد كلمة سحرية توحي بالكثير من المعاني والخيالات والدلالات إلى الماضي إلى عظمة مدينة بغداد كأحد مراكز العالم تاريخيا.

ارتبط الهايكو عند العادلي بالمكان المتمثل بصورة واضحة في مدينة بغداد،موطن الشاعر حيث تشكل الاماكن والمشاهدات اليومية هاجسه الأكبر في الكتابة عن بيئة بغداد الاجتماعية.  لعبت بغداد دورا مهما في تشكيل أو توجيه احاسيس وافكار العادلي لملاحظة ما يجري على أرض الواقع. هذا الارتباط العاطفي بالوطن انتج الكثير من نصوص الهايكو والسينريو التي امتازت بنقد الواقع والشجن العراقي. طبيعة الواقع العراقي فرضت على الشاعر أن يوثق اللحظات المريرة والمؤلمة بالرغم من أنها عابرة إلا انها تتكرر يوميا:

نصب الحرية

المتسول الاعمى

ينشد موطني موطني!

**

وحدها

لافتة بغداد المتهرئة

تكسر الريح

**

مع كوب قهوتي

اذرع شارع الرشيد

ابحث عن بغداد

**

ضباب

جدارية فائق حسن

مغمورة بالهديل

**

يا للوجع

بألف دينار اهب الحرية

لأربعة عصافير

**

زقاق بغدادي…

رائحة الوشوشات البريئة

تسكن الشناشيل!

**

في هذه النصوص أعلاه نلاحظ حركة العادلي بين أزقة بغداد القديمة(جانب الرصافة من بغداد) الممتدة بين ساحة التحرير ،نصب جواد سليم وجدارية فائق حسن في حديقة الأمة مرورا بشارع الرشيد،حيث بائع القهوة القريب من بناية وزارة المالية القديمة وصولا إلى جسر الشهداء والمقاهي وشارع المتنبي ومن الجهة الثانية سوق الغزل ومنطقة الشورجة ،هي رحلة أو جولة جمالية. الجمال يتجسد في الشناشيل ونصب الحرية والازقة والمقاهي ومشاهدة العصافير والطيور في سوق الغزل ورائحة القهوة في شارع الرشيد. العادلي يكتب نصوصه من مشاهدته العيانية. هذه النصوص ترتبط بالواقع وبالأرض وبرغبته بالتغيير نحو الأفضل. اما نصوصه عن الطبيعة في بغداد هي من جملة ملاحظاته للطبيعة الحضرية المدنية:

فوق الجسر

مع النقر اللذيذ

النوارس تلتقط الخبز!

**

مويجات النهر

أرجوحة بغدادية

استراحة النوارس

**

غيمة…

أطاردها بعين

وأخرى للطريق!

**

احيانا يربط الطبيعة بمعاناة الإنسان الحياتية وهذا النص من النصوص الكلاسيكيةالتي تذكرنا بنصوص شعراء الهايكو اليابانيين:

مساء خريفي

الجدة المريضة بإصبعها

تكور شكل القمر!

جمالية الامكنة البغدادية نجدها في الأشياء البسيطة: لون الحافلة،شكل الجسر،رؤية نهر دجلة،المقاهي،الشناشيل ،النوارس كل هذه الامكنة وغيرها تصنع مناخا رائعا وتحقق الاستقرار النفسي عند العادلي ولربما بعد تناول قدح من عصير “ابن زبالة ” في شارع الرشيد والقريب من ساحة الميدان:

ساحة الميدان

بقايا بغداد

عصير زبيب أحمر

**

حميد العادلي استطاع الخروج من عنق زجاجة الهايكو الياباني ومطبات الهايكو العربي

إذ امتازت نصوص العادلي بالايجاز (القصر)والواقعية التصويرية في تناوله للبيئة البغدادية في حركتها اليومية عبر بصيرة نافذة تلتقط كل ماهو هامشي ويومي عبر محورين المحور الأفقي الذي يمثل الحاضر الزائل الذي يلتقطه عبر مشاهدته والمحور العمودي الذي يرتبط ببغداد وما تمثله الأمكنة فيها من أبعاد ثقافية وتاريخية واجتماعية وجمالية وشعبية. لا نعرف إلى أين سيقودنا حميد العادلي في قصائده القادمة وما هي الإضافات والتطورات التي ستطرأ على تجربته الشعرية لكنها بالتأكيد تجربة تضيف الكثير إلى تجربة الهايكو العراقي بعدما اتضح مسار الرؤية عنده بشكل اكثر وضوحا واتساقا.

…………………………

المراجع:

1-كتاب الهايكو جاك كيرواك،ترجمة لينا شدود -الرباط-منشورات ضفاف …الطبعة الأولى-2014

2-الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر السويدي توماس ترانسترومر-ترجمة قاسم حمادي،سوريا-بدايات للطباعة والنشر والتوزيع-الطبعة الأولى 2005

3-د. بشرى البستاني – الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى 1-موقع الحوار المتمدن /2015

4-عزرا باوند في مترو-ترجمة عبد القادر الجنابي-موقع إيلاف الإلكتروني /2014

5-حميد العادلي،ارتعاش الثلج (هايكو) سوريا-دار دلمون الجديدة 2019

6-حميد العادلي،رقصة الفالس وأزهار النرجس(هايكو)بغداد-دار الرفاه 2021

7-Academy of American poets

8-Haiku Mainstream: The path of Traditional Haiku America by Bruce Ross-modern HAIKU- volume 43. 2/Summer 2012.

9-GRACEGUTS / Website.  

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم