جـالينوس

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سفيان سعيداني

لم يهدأ لجالينوس بصر ، لكأنّها المرّة الأولى التي يبصر فيها هذه الحياة الدّنيا بعبث طفل يتغلغل بكيانه شوق الإستطلاع و التّنقيب عن غوامض هذه الحياة العجيبة ، وانطلق في طريقه وردائه الأبيض يرفرف مع النّسمات الرّقيقة، لقد كان لجالينوس هيأة متواضعة فقد كان يأبى أن يكون ممّن يغدقون أموالهم في سبيل أردية مرصّعة بالحرير والدّيباج، فله هاجس يؤكّد له مع الأيام في عقيدته أنّ حياة التّرف لا يجني منها صاحبها سوى ضيقِ الأفقِ و ضياعِ الحُلُمِ و الإنحياز إلى الملذّات.

وعلى الرّغم من حرص الإغريقيّين على إدراج الشّعراء ضمن منزلة رفيعة و نبيلة إلّا أنّ جالينوس يأبى ذلك و يأبى الإنعتاق إلى القصور و الممالك وفضّل أن يحتكّ بالعامّة من فقراءَ و مساكينَ ، و كان مارًّا في طريقه نحو نهر تحيط به أزهار الكاميليا و على ضفافه نخلة باسقة مترامية الظّلال حيث يجلس أصدقاؤه ينتظرون قدومه ليلقي عليهم آخر قصائده ممّا ارتجست به عاطفته ورؤاه . كان يسير في ذاك اليوم بتأنٍّ متأبّطا أوراقه ينظر إلى الأفق متحسّرا من ضيقه ، وكانت قامته الطّويلة تضفي عليه نوعا من المهابة ، و شعره المصفّف قد تناسق مع وجهه المشرق وعينيه الخضراوين . و لاح سوق اليونان من أمامه بضخامته ، و كان قديما لا يفضّل الخوض في غماره و لكّنه الآن يحسّ بنوع من السّرور الغريب ، إنّه يريد أن يرى الناس و الأطفال والتّجار ، و تسارعت على وقع ذلك الإقبال القاهر خطواته إلى أن أدركه فلفحته في المداخل نسمات بها روائح الزّيتون والفواكه ممّا طرب له أنفه وخفّت به روحه ، ثمّ دخل من دون تورّع فكانت الجلبة عظيمة ، و استغرق النّظر في طفل صغير بائس يقود مع رجل شاة لكي يبيعاها ، لقد كان طفلا بريئا جميل الطّلعة و المُحيّا ، ثمّ حيّاه صوت فإذا به صديق قديم فردّ بتحيّة أحسن منها ثمّ استكمل الطّريق و أصوات التّجّار مرتفعة لا تنفكّ نبراتها ، لقد لاحظ أنّ للعربات الجوّالة هيأةً عريقةً فهي ركيزة هذا السّوق ، تذهب أجيال وتأتي أجيال أخرى و تتواتر الأحقاب و تبقى العربات هي نفسها قائمة سائرة كأنّ بها تتحدّى الزّمان . اشترى لنفسه لوحة رائعة من مجموعة لوحات لطفل صغير كان يبيعها ليكسب بها قوت عيشه وودّ لو أنّه يشتري جميعها فقد كانت غاية في الرّوعة و على الرّغم من غموضها و غرابتها ، إلاّ أنّ بها تناسقا لا يفضي إلّا لرموز كامنة . قدّم للطّفل الصّغير النّقود و داعب رأسه ثم حمل أوراقه و لوحته التي صارت ملكا له ، و مضى في طريقه التي كان ينشُدها ، و بدأ السّوق يندثر شيئا فشيئا ، و الزّحمة تخفّ شيئا فشيئا و مثلها أصوات التجّار تخفت حينا بعد حين ، و انتهى به المطاف إلى طريق أخرى ترابيّة تفضي بتموّجاتها إلى النّهر ، فانطلق و لم يثر انتباهه سوى سرب هائل من اللّقالق المهاجرة حائمة في الفضاء منطلقة بحثا عن مكان آخر ذي مناخ أفضل يتناسب مع وطأة عيشها ، ثمّ عاد لينهمك في أوراقه ينظمها و بعد ذلك أخذ يتأمّل في اللّوحة العجيبة وتارة يرمق الأرض بنظرات عابرة خشية أن يتعثّر ،  و شغلت اللّوحة ذات التّداخلات الصّفراء اللاّمعة فكره تماما ، فلم ينتبه لذلك اللّقلق الذي تخلّف عن ركبه و قد كان متباطئا بفعل سلحفاة ضخمة كان يحملها بين منقاره الطويل ، لقد انقضّ عليها في وقت غير مناسب ، فلو تنازل عن الفضاء ليلتهمها لأضاع السرب وظلّ الطّريق ، و عندما وصل مباشرة فوق جالينوس أدرك أنّه لا فائدة من حملها أكثر فانتفض و انطلق بسرعة جنونيّة لاحقا بأقرانه بعد أن أفلت تلك الوجبة الزّاحفة ، فتهاوت كصاعقة بسرعة فائقة و ارتطمت برأس جالينوس مباشرة حتّى أحسّ بزلزلة و ارتجاسة برق لمعت بين عينيه الصّافيتين ، ثم تنهّد بتهدّج و سقط على الأرض مغشيًّا عليه فكسرت اللّوحة و تطايرت الأوراق  و السّلحفاة هائمة على ظهرها تحاول النّهوض عبثا فلا تستطيع .

………………….

 * جاليونس طبيب وفيلسوف يوناني (129 ــ 200 ميلادي) .

* اللّوحة ذات التّداخلات الصفراء : يحكى أنّ ” فينسنت فان غوخ ” الرّسّامُ الهولنديُّ الشّهير ، رسم لوحة باللّون الأصفر على مرتفع شاهق ، و لاحظ أنّه كلّما عاد إلى الوراء و تأّمّل فيها بدت اللّوحة أجمل ، فتتالت خطواته وراءً إلى أن تهاوى من على المرتفع و كانت نهايته ، و منذ ذلك اليوم سمّي اللّون الأصفر باللّون الملعون .

 

مقالات من نفس القسم