وعلى الرّغم من حرص الإغريقيّين على إدراج الشّعراء ضمن منزلة رفيعة و نبيلة إلّا أنّ جالينوس يأبى ذلك و يأبى الإنعتاق إلى القصور و الممالك وفضّل أن يحتكّ بالعامّة من فقراءَ و مساكينَ ، و كان مارًّا في طريقه نحو نهر تحيط به أزهار الكاميليا و على ضفافه نخلة باسقة مترامية الظّلال حيث يجلس أصدقاؤه ينتظرون قدومه ليلقي عليهم آخر قصائده ممّا ارتجست به عاطفته ورؤاه . كان يسير في ذاك اليوم بتأنٍّ متأبّطا أوراقه ينظر إلى الأفق متحسّرا من ضيقه ، وكانت قامته الطّويلة تضفي عليه نوعا من المهابة ، و شعره المصفّف قد تناسق مع وجهه المشرق وعينيه الخضراوين . و لاح سوق اليونان من أمامه بضخامته ، و كان قديما لا يفضّل الخوض في غماره و لكّنه الآن يحسّ بنوع من السّرور الغريب ، إنّه يريد أن يرى الناس و الأطفال والتّجار ، و تسارعت على وقع ذلك الإقبال القاهر خطواته إلى أن أدركه فلفحته في المداخل نسمات بها روائح الزّيتون والفواكه ممّا طرب له أنفه وخفّت به روحه ، ثمّ دخل من دون تورّع فكانت الجلبة عظيمة ، و استغرق النّظر في طفل صغير بائس يقود مع رجل شاة لكي يبيعاها ، لقد كان طفلا بريئا جميل الطّلعة و المُحيّا ، ثمّ حيّاه صوت فإذا به صديق قديم فردّ بتحيّة أحسن منها ثمّ استكمل الطّريق و أصوات التّجّار مرتفعة لا تنفكّ نبراتها ، لقد لاحظ أنّ للعربات الجوّالة هيأةً عريقةً فهي ركيزة هذا السّوق ، تذهب أجيال وتأتي أجيال أخرى و تتواتر الأحقاب و تبقى العربات هي نفسها قائمة سائرة كأنّ بها تتحدّى الزّمان . اشترى لنفسه لوحة رائعة من مجموعة لوحات لطفل صغير كان يبيعها ليكسب بها قوت عيشه وودّ لو أنّه يشتري جميعها فقد كانت غاية في الرّوعة و على الرّغم من غموضها و غرابتها ، إلاّ أنّ بها تناسقا لا يفضي إلّا لرموز كامنة . قدّم للطّفل الصّغير النّقود و داعب رأسه ثم حمل أوراقه و لوحته التي صارت ملكا له ، و مضى في طريقه التي كان ينشُدها ، و بدأ السّوق يندثر شيئا فشيئا ، و الزّحمة تخفّ شيئا فشيئا و مثلها أصوات التجّار تخفت حينا بعد حين ، و انتهى به المطاف إلى طريق أخرى ترابيّة تفضي بتموّجاتها إلى النّهر ، فانطلق و لم يثر انتباهه سوى سرب هائل من اللّقالق المهاجرة حائمة في الفضاء منطلقة بحثا عن مكان آخر ذي مناخ أفضل يتناسب مع وطأة عيشها ، ثمّ عاد لينهمك في أوراقه ينظمها و بعد ذلك أخذ يتأمّل في اللّوحة العجيبة وتارة يرمق الأرض بنظرات عابرة خشية أن يتعثّر ، و شغلت اللّوحة ذات التّداخلات الصّفراء اللاّمعة فكره تماما ، فلم ينتبه لذلك اللّقلق الذي تخلّف عن ركبه و قد كان متباطئا بفعل سلحفاة ضخمة كان يحملها بين منقاره الطويل ، لقد انقضّ عليها في وقت غير مناسب ، فلو تنازل عن الفضاء ليلتهمها لأضاع السرب وظلّ الطّريق ، و عندما وصل مباشرة فوق جالينوس أدرك أنّه لا فائدة من حملها أكثر فانتفض و انطلق بسرعة جنونيّة لاحقا بأقرانه بعد أن أفلت تلك الوجبة الزّاحفة ، فتهاوت كصاعقة بسرعة فائقة و ارتطمت برأس جالينوس مباشرة حتّى أحسّ بزلزلة و ارتجاسة برق لمعت بين عينيه الصّافيتين ، ثم تنهّد بتهدّج و سقط على الأرض مغشيًّا عليه فكسرت اللّوحة و تطايرت الأوراق و السّلحفاة هائمة على ظهرها تحاول النّهوض عبثا فلا تستطيع .
………………….
* جاليونس طبيب وفيلسوف يوناني (129 ــ 200 ميلادي) .
* اللّوحة ذات التّداخلات الصفراء : يحكى أنّ ” فينسنت فان غوخ ” الرّسّامُ الهولنديُّ الشّهير ، رسم لوحة باللّون الأصفر على مرتفع شاهق ، و لاحظ أنّه كلّما عاد إلى الوراء و تأّمّل فيها بدت اللّوحة أجمل ، فتتالت خطواته وراءً إلى أن تهاوى من على المرتفع و كانت نهايته ، و منذ ذلك اليوم سمّي اللّون الأصفر باللّون الملعون .