جسدك خارج الماء

جسدك خارج الماء
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبرت الكلمات الخمسين ذهني عدة مرات، شكلت بعض العبارات، كانت عبارات مغرية ورنانة.. غالبا ما أحتاج لعشر كلمات وجملة واحدة مثل تلك لأبدأ نصا مراوغا لا أعرف أين ينتهي ولا لأين سيقودني جنونه، لكني انزلق في حفرة أليس وأستمتع بخفق قلبي مع السقوط ، ذلك السقوط السريع المدوي نحو المجهول حتى ينقذني غالبا نص مهترأ يقف على الحافة بين ما حدث وما لم يحدث مطلقاً.

المفتتح الأول راودني بعد ساعات قليلة من خروجي من غرفة العمليات ، في المرة الأولى التي اعتدل فيها للجلوس ويباغتني الدوار لكني أمتلئ برغبة الدق على الأرض والمضي عبر طرقة المستشفى ذات الجدران الوردية، دور الولادة والطوارئ جدرانها وردية ، ودور الأورام جدرانه خضراء.. لا أعرف كيف تبدو بقية الأدوار لكن حتما هناك جدران زرقاء ولافتات بيضاء مكتوب عليها عبارات في أغلب الأوقات مرعبة لمن لديه "فوبيا مستشفيات" مثلي .

أنا الهشة مثل قطعة كرواسون خرجت من الفرن وبقت للأبد ، دلالة تاريخية على هزيمة الغزاة . القوية مثل حلم يوشك أن يرى النور .

بدا المفتتح الاول مبشرا بنص جيد ، تدفقت أفكاره لكن حالتي الصحية والألم الذي كان يتجول على راحته في جسدي وشغفي بالصغيرة التي تبكي مثل بطة تجرب العوم للمرة الاولى أو مثل وحش صغير يسأل عن ميعاد وجبته .

كان على المفتتح ان يتراجع قليلا في جانب عقلي لكن الأفكار ظلت تتدفق حتى أني بحثت للحظة عن لوحة المفاتيح قبل أن استسلم للصمت من جديد.

في المرة الأولى التي لمست لوحة المفاتيح كتبت الجملة الاولى وحدها – كل هذا الألم ! كل هذا الجمال ! – ثم عاودت صمتي ودوراني في زخم ضوضاء ذاتي ومخاوفي التي بدت عميقة ومحفورة في القلب ، فكرت فيما بعد في جملة احبها لنزار قباني كنت أكتبها كثيرا في كراسات المحاضرات أيام الجامعة مع المزيد من أبيات الشعر كانت الكلمات ” لن تتعمدي إمرأة وجسدك خارج الماء

ظهرت الجملة أمامي وكان لديّ متسع من الوقت والأرق وصوت الصغيرة ونوبات الألم والحزن والفرح والإرتباك لأفكر ، كان لديّ وسط كل الفوضى كل البراح لأفكر .. ما الذي يمكن أن يعمد الفتاة التي في قلبي إمرأة !

وبدا لديّ الماء وقتها غير موفق، ربما تعمد الدماء النساء .

تبدو الدماء اكثر واقعية ، خطوط الدماء التي تسيل من الجسد والروح هي ما تمنح صكوك العبور .

طالما ابهجتني وأفزعتني تلك الدماء التي اقصدها ، والتي يمنعني كوني أم لصغيرة جاءت للعالم منذ أيام قليلة أن أتمادي في شرحها ، لأستمتع قليلة بدوري كأم محافظة لا تنعت الأشياء بأسمائها الصحيحة ولا تسب الوقائع بما يصفها تماما لأن صغيرة تجلس بالقرب من قلبي تسترق السمع ، وتتعلم وتعلمني معها ضبط دقة قلوبنا معا .

أقول لأبيها ذلك منذ أيام: لا تستخدم ألفاظا خارجة في حديثك، هناك آنسة صغيرة في البيت .. لكني اشفق عليها من الدماء التي ستعمدها بالغة ، ثم امرأة تخص رجل ستختاره غالبا لأنها عرفت منذ اللحظة الأولى التي تلاقت فيها عيونهما أن حكاية ستكون بينهما ، رجل سيحنو عليها وسيصلان معا لصيغة تفاهم ومحبة عميقة يثقلها الوقت واختبار الحياة والثقة في أن احدهم يمسك بيدها وتتكأ هي عليه جيدا

ربما ستفعل ذلك بعد ان تكسر قلبها عدة مرات ، وربما بعد أن تكسر وتحرق معه نصف السفن والأواني وتابلوهات البيت .

ثم يعيدا على مهل بناء كل شيء، ربما ستحفظ وعدها له كما فعلت أمها في السابق بألا تكتب أبدا عن دماء البدايات .

وستحتفظ أيضا لنفسها بصورة طفلتها الغارقة في الصراخ والماء والدماء وهي تضرب بيدها الهواء وتجرب العالم الخارجي لأول مرة .

ربما ستحتفظ بنص غامض عن كل الدماء وكل العتبات التي تعمدها امرأة ، وتنكر مثل امها ان يكون الماء هو بوابة العبور .

ربما ستفعل كل ذلك ، او تفعل امورا أخرى لا تشغلني الآن لأني أعرف أن فطرتها ستدلها ، هي الصغيرة التي بدات من تعويذة قديمة همست بها جدتها في ليلة باردة في مستشفى بعيد وقاس قبل أيام من غيابها ، تعويذة حفظتها في قلبي حتى تجسدت بين يدي ، طفلة عذبة لا يمكنني التوقف عن النظر لها وضمها حتى أتأكد انها حقيقية ، طفلتي التي ساعدتني خانة الأم في شهادة ميلادها  ، والكثير من الألم في مكان الجراحة، وقلبي الذي تملأه ودموعي التي تسيل كلما تألمت أو عجزت عن جعلها تتوقف عن البكاء كأم ساذجة ، طفلتي التي ساعدني كل ذلك ان اصدق أنها تعويذتي الصغيرة التي جاءت من عالم الحكايات لتنصب كوخا وتشعل الحطب فيجئ الدفء ورائحة الطعام وصوت المحبة ،  ليغمر الرضا العالم ، وتخفت حدة الحزن في قلبي ، ويرتق وجودها هوة الفقد الكبيرة في روحي .

فأعرف أني ربما سأبقى تلك الفتاة الصغيرة التي تعبر بوابة عالم النساء وتشتري الحكايات وتبيعها ، وتفكر ان الدماء وحدها تبدو ملائمة لمقايضة التعاويذ والحكايات .

مقالات من نفس القسم