ثومة التى لا يعرفها أحد

حانة الست
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطي

هناك شخصيات وهبها التاريخ صفات التمجيد والقداسة وكل من يطالها أو يختلف معها يلقى ما لا يٌحمد عُقباه، مثل الرئيس جمال عبد الناصر والكاتب نجيب محفوظ وغيرهمت من القلائل مِمَن لهم مريدين ومحبين، ومنهم ايضاً فاطمة بنت الشيخ المؤدّى السيد البلتاجى، وقد اشتهرت بكُنيتها أم كلثوم وهى أيضاً ثومة والست وكوكب الشرق وفنانة الشعب، وهى مطربة كل العصور منذ أغنية “إن يغب عن مصر” فى ذكرى سعد زغلول 1927، وهى مطربة “ارفعى يا مصر أعلام السرور” وكذا “أشرقت شمس التهانى” بمناسبة زواج الملك فاروق 1938 وهى الأغانى التى استمرت كوكب الشرق بها تؤيد وجود الملك فاروق ملك مصر والسودان.

ثم تهُبّ سنة 1952 لتصبح ثومة المطربة الفلاحة ابنة قرية طماي الزهايرة (محافظة الدقهلية) هى أيقونة الغناء المُعبّرة عن توجهات الحِقبة الناصرية والتى دعمت ام كلثوم وأعلت من شأنها ولم تَحسبها على العصر الملكي.

إن سيرة أم كلثوم أو ثومة -كما كان يحلو للكثيرين تلقيبها –  لا تزال تستحق الكتابة والتأريخ حسب رواية “حانة الست” للكاتب محمد بركة، وهى التى اتخذت نهجاً فعليا لحياتها متمثلاً فى بيت الشعر من قصيدة الشاعر أحمد شوقى” سلوا قلبي”  التى غنتها أم كلثوم بنفسها:

وما نيل المطالب بالتمنى      ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا

صدرت رواية الكاتب محمد بركة “حانة الست – أم كلثوم تروى قصتها المحجوبة” وكأنها تعيد كتابة سيرة المطربة الأشهر، فى الجزء الأول حيث يطغى صوت شخصية أم كلثوم على سرد الراوى العليم -الذى ندر وجوده- كراوية لسيرتها الذاتية وقد أسرفت فى البُكائيات على نشأتها والحال الأُسري الفقير الذى عاشت فيه وذكورة والدها الذى لم يكن يرغب -مثل عادات الجاهلية- فى إنجاب فتاة وكذا تنمُّر شيخ الكُتّاب الذى طالما سَخِر منها وظنت بعد رحليه أنه لابد أن يعود مرة أخرى بجبروته المعتاد ” مضى أسبوع ولم يرجع الشيخ للحياة ولكن لابد من أخذ الحِيطة والحذر مثلما يفعل أطفال قريتنا مع الثعابين، يصطادونها فى طقوس خاصة وهم يطئون بأقدام حافية وسيقان رفيعة جحور الخطر” (ص47)، تجلت رؤية السرد بصوت الراوى الذاتى حيث تصف أم كلثوم نفسها هى الخشنة التى خلت من ملامح الأنوثة، حين أسرف السرد بلسانها فى وصف تلك الحقبة لسنواتها الأولى فى القرية عبر ذكر حدث ما ومن ثم الاسراف فى  سرد ذلك الحدث “أعيد اكتشاف جسدي.. لم أعد أرتدي المعطف والعُقال أو أوارى نهدىّ بعيداً” (ص117).

فى الجزء الثانى من الوصف لمرحلة ازدهار أم كلثوم ومن ثم وصف عصورها الفنية التى ساندتها فيها شخصيات موسيقية فريدة لم يذكرها النص حسب أسمائها المعروفة ؛ فالشاب النحيل الذى يجيد تسبيل العيون (عبد الحليم حافظ) غنّى بعدها وذكر أنه “حُسن الختام” مما جعل ثومة تغضب عليه وبالتالى يناله ما ينال من غضب القيادة السياسية التى تبجلها: “قالوا عنه ابن الثورة. فلم أعترض رغم أنه ابن السَهوكة. قالوا إنه أمل مصر فى الغناء فلم أتكلم، أشاعوا أن لديه خطّا هاتفياً موصولا بمكتب رئيس الجمهورية مباشرة فابتلعتها فى هدوء؛ لكن أن يتجرأ ويتطاول ويستهزئ فلن أسكت” (ص256) واستمر الحدث على لسان الراوية (أم كلثوم ) نفسها يصف الكتكوت الذى لم يخرج من البيضة (الفتى المطرب صاحب النظرة المنكسرة. (ص258).

ونفس النهج استخدمته الراوية أم كلثوم عن ذاتها فى وصف الموسيقار (عبد الوهاب) “أكثر من استدر عطفي هو أكثر من هاجمنى علناً وبضراوة عبقرى الألحان والشكوى الذى يحتضن عوده كبحّار تعرض للخيانة وبات يؤمن أن الكون يتآمر علىّ” (ص284). لم تستخدم الراوية الذاتية الشخصيات حسب أسمائها المعروفة عبر الوقائع التى هى أيضاً معروفة؛ بل حملت تقنية التورية لإظهار أدوراهم فى حياة ثومة، ومن ثم استخدامها لهم لمصالحها الشخصية باقتدار مثل الموسيقار العبقرى محمد القصبجي الذى تصفه باستنكار: “هل كنت أنا من ضرب حضرة الموسيقار صاحب الشارب الشبيه بشارب هتلر على يده حتى يقضى بقية عمره يحتضن العود ورائى وأنا أغني؟ كان رائدا فى الموسيقى والغباء، لم يشأ أن يصدق أن الحياة مراحل وأن مرحلته انتهت فى حياتى، أراد الالتصاق بى إلى الأبد وكأن ما بيننا زواجا كاثوليكيا، وكأننى يجب أن أعيش ممتنة له بقية عمرى ” (ص254)

سيجد القارئ فى رواية حانة الست للكاتب محمد بركة تلك الصراعات التى كانت تقودها امرأة ملأت الدنيا غناءً دون مورابة، أم كلثوم التى ساعدها الواقع -الانتهازى( بعد 1952) – فى الغالب على أن تكون هالة مقدسة فى حياة العالم العربى حتى أن الخميس الأول من كل شهر حين تلتقى مستمعيها تتغير حياة الناس بترك كل شؤونهم للتفرغ للاستماع إلى ثومة التى لم يكن الأوربيون يفهمون كلمات أغانيها إلا أنهم تفاعلوا بأرواحهم مع موسيقاها وهو ما حدث عند غنائها فى فرنسا فى 1967 عندما غنت على مسرح الأولومبياد أشهر مسارح أوروبا على الإطلاق.

ثلاث وظائف جسدت سرد أم كلثوم لسيرتها الذاتية – حسب رواية محمد بركة – أولا الوظيفة الوصفية، التي يقوم فيها (الراوي الذاتى ) بتقديم مشاهد وصفية للأحداث، والطبيعة، والأماكن، والأشخاص، بما يُعلم عن حضوره، بل إنه يظل حاضرا ويسرد تفاصيل النص كأن المتلقي يراقب مشهداً حقيقياً متسما بوجود الراوى فيه.
 ثانيا الوظيفة التأصيلية، وفيها يقوم الراوي بتأصيل رواياته في الثقافة العربية والتاريخ مثلما حدث على لسان أم كلثوم راوية سيرتها الذاتية، فجعلت منها أحداثاً للصراع الواقعى مع شخصيات حقيقية نعرفها، وربطتها بمآثر الواقع المعروف في الانتصار على الخصوم (استخدام القصبجى- الصراع مع عبد الوهاب – إخضاع عبد الحليم حافظ، وقد قامت الراوية هنا بهذه المهمة لوصف تفاصيل الوقائع المعروفة.

 ثالثا الوظيفة التوثيقية، وفيها قامت الراوية (أم كلثوم) بتوثيق بعض رواياتها مع مجايليها وتابعيها وأسرتها ورفقائها، رابطة إياها بمصادر خاصة حسب وجهة نظرها، زيادة في إيهام القارئ أنها تروي تاريخها الشخصى والفني موثقاً. وقد جمعت الراوية (أم كلثوم) هنا في رواية الكاتب محمد بركة “حانة الست – أم كلثوم تروى قصتها المحجوبة” بين التوثيق التاريخي والتخييل الروائي الذى افتقر إلى الكثير من سرد الأحداث الجديدة عن المعتاد الذى قرأه كل من حرص على معرفة سيرة أمرأة وقفت تُطرب وتغنى على رءووس الأشهاد فى عصور سياسية متضاربة فكسبت العصر الملكى وأزدهرت وتجلجلت فى العصر الناصرى ولم يجرؤ بشر على التصدي لأهوائها.  

مقالات من نفس القسم