أسامة علي
هذا الرجل الذي لا يرى الناس إلا من أعلى، ليس تكبرا منه لا سمح الله، لكن لكونه مجبر، فهو فارع الطول والعرض بشكل مفرط، ناهيك عن تفاصيل وجهه المبالغ فيها بشكل مخيف، والتي تكمل لمن لا يعرفه هيبته وجبروته. و المفارقة هنا أنه رغم شكله الذي يصدر لكل من يراه الخوف، الا أنه كان غاية في الطيبة و العبط، ربما لوجود مشكلة ما في جيناته الوراثية،أو خلل مكتسب في عقله، لكن المؤكد أن عقل الننوس قد توقف تماما عن النمو، منذ أن كان طفل. فها هو الآن، و قد قارب الخمسين، ومازال وعيه و مشاعره و تصرفاته هناك.
يتنقل الننوس بوقت فراغه الطويل، بين اللعب مع الأطفال، الذين أسعفهم الوقت و تصرفاته الطفولية، على التعود على منظره المرعب، وبين الانفراد بنفسه وطائرته الورقية العملاقة التي تليق بضخامته، والتي صنعها بنفسه من خشب الخيزران والبلاستك الملون، يهبط بالطائرة المنخفض الطويل الذي يفصل خطوط سكك حديد القطارات المتجهة للجنوب عن خطوط سكك الحديد المتجهة للشمال، ويطيير طائرته، يقضي ما قبل المغرب بساعة وحتى العشاء في مسابقة القطارات بطائرته المحلقة. الننوس لا أهل له لا عائلة لا أحدا، ولا أحد بشارع المظلوم وحواريها يعرف أصله فهو مثل بقية مجاذيب سيدى المظلوم، الذين يظهرون فجأة من العدم في رحابه. يقتات الننوس من الجنيهات القليلة التي يوفرها له عمله كمنادي، و من طيبة قلوب بعض أهالي الحي.
وانا صغير كنت كباقي الأطفال الذين لم يتعودوا على شكل الننوس بعد، حتى أني قضيت يوما في غاية الرعب، عندما إستأجره أبي لينادي على أختي الصغيرة أسماء، التي ندهها الفضول فتاهت بشوارع و حواري الشرابية.
عندما كان يشتد الحر على النننوس، كان يهج من عشته الكائنة أسفل بير السلم المقابل لمنزلنا والتي كانت قبل أن يسكنها عشة فراخ وبط، يولى وجهه صوب الحنفية العمومية الكبيرة، التي حفرتها الحكومة أيام ناصر نهاية الشارع لخدمة سكان الحكر.
حكر المظلوم أيام ناصر كان أرض فضاء ملك لهيئة السكك الحديدية، تفصل ميدان سيدى المظلوم بمقامه عن السكك الحديدية. في البدء كان مجاذيب سيدى المظلوم، وكل من سمع عن كراماته وله مظلمة
وشحاذين الموالد ، وبالطبع الغجر المحتكرين وسائل الترفيه، جميعهم عند اقترب مولد سيدى المظلوم، كانوا ينصبون الخيام بقطعة الأرض الفضاء ويقيمون فيها، وعند انتهاء المولد يحملون خيامهم و يرحلون، مع الوقت حول المريدين و الشحاذين والغجر خيامهم لعشش ثابته في الأرض من صفيح. أيام السادات، وتحديدا بعد الانفتاح، تحولت العشش لبيوت من دورين من خشب وصفيح. من الصباح وحتى قبل غروب الشمس بقليل نسوان الحكر وبناتهن يتجمعن حول الحنفية الكبيرة، يغسلن الملابس المتسخة و المواعين بماء الحنفية ،و يغسلن همومهن بالفضفضة و الحكي ، و في أغلب الأحيان يتشاجرن على أولوية الغسيل. ما أن تلمح إحداهن الننوس و هو يقترب من الحنفية، حتى تشهق وهي تضرب على صدرها و هي تصرخ ( الننوس جي يا ولاد، الننوس جي) فيهربن مسرعين تاركين خلفهن المواعين و الملابس و الفضفضة و المشاجرات.
الننوس لا يصبر على الحر، حتى أنه مجرد أن يصل الحنفية حتى يخلع جلبابه ، ويقذفه خلفه وكأنه يخلع عن كاهله سجنه.
الننوس في حياته لم يرتد ملابس داخلية، حتى أنه عندما تنقح عليه غريزته الجنسية، ينتصب جلبابه، وكأنها خيمة انتصبت على عموداها.
سبحان العاطي الوهاب، الننوس قليل العقل، وهبه الوهاب صوت فائض الجمال ، صوت لا يشبهه أي صوتا كان، سيمفونية نادرة من الات موسيقية لم يعرفها البشر بعد هو صوت الننوس، عندما ينادى على أطفال الحتة التائهين وعندما يغني و هو عاريا أسفل الحنفية. أغاني أسفل الحنفية مختلفة، أغاني وقحة ساحرة، أغاني تثير غرائز النسوة، كما يثيرهن عمود الخيمة العظيم، حتى أن بعض النسوة كن لا يهربن لحظة حضوره، يتلكأن عن عمد في جمع الملابس و المواعين وهن يسرقن النظرات لعمود الخيمة العاري من خيمته. المرة الأخيرة، التي لم يعد يسمح للنوس بعدها بالتعري كانت عندما تلكأت إحداهن أزيد من اللازم ، وسرحت كالمسحورة في عمود الخيمة، سرحانها الذي دفع الننوس للإنقضاض عليها دون تفكير، فتسمرت مكانها. أكثر من نصف ساعة ولم تفلح أيادي و أرجل سكان الشارع وحكره في تخليص المسكينة من التصاق جسد الننوس بجسدها، حتى الضرب المبرح بالعصي ولأقدام، لم يفلح معه، فقط عندما تلطخت ملابسها الممزقة بسائل عمود الخيمة ، أرخى مخالبه و نهض عنها، وهو يغنى، رغم كسر العصي الغليظة والركل لبعض عظامه، رغم نافورة الدم الذي يخرج من رأسه. عاود الغناء:
ياكتر همك يالي الجمال همك
يسيل دمك
وما تسلى يوم همك
ياكتر همك يالي الجمال همك
ياكتر همك ياحر