ثمة نباحٌ يعترينى

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البهاء حسين

كان لى حمارٌ أبيض

طفلٌ مثلى

سليمُ القلب

كنا صديقين فعلاً

طفلين يمشيان بأيدٍ متشابكة، أثناء المشاوير

أُمسكُ بلجامه، ويُمسك بلجامى

نمشى كأننا قطعنا وعداً صامتاً

كأى حبيبين، على العيش معاً، حتى آخر العمر

لكنه خاننى ذات مرة، ورفس طفولتى

:

حين تُرخى الحبلَ من يدك

حين يتحرر الحبلُ من الأصابع

تفقد بيتك

زوجتك

تفقد نفسك دفعةً واحدة

لم أصدق أن يرفسنى فى منطقةٍ حساسةٍ كهذه

كدتُ أن أتقيىء روحى

لكن احتمال اختفائه

أن تفقد جحشك الصغير الذى يقاسمك حياتك

الزريبة نفسَها

الذى تمشى به متبختراً فى شواع القرية، كأنه فرس

اختفاؤه هو الموت الحقيقى

الصحبة تحولك، مع الوقت، إلى نسخةٍ من صاحبك

إلى حمارٍ

إلى دجاجة

إلى بيضةٍ تفقس الآلام فى كل خطوة

لكننى نسيتُ ألمى

نسيت نفسى وتذكرته

هو أفلت منى

لكن أنا الذى تُهت

،،

الخيانة مُرّة

لكننى حاولتُ أن أجرى خلف جحشى

استغثتُ بالطرقات الفارغة التى تعينه على الجرى بسرعة دون عائق

وضعتُ يدىّ بين فخذىّ

ورحتُ أنهق خلفه، كأننى أتوسل إليه

أن يعود، حتى لو رفسنى رفسة أخرى مميتة

كنت أحمّمه بالطريقة التى تحممنى بها أمى

فى الطشت

ثم أمسّد شعره المبتل، وأرضى عن يدى

:

بعد الخيانة

كل خطوة تراها فى الشارع هى رفسة محتملة

تحطيم القلوب أسهل من تحطيم الفخار

نحن أكثر هشاشة من غزل البنات الذى كنت أبيعه وأنا صغير

نشتريه، أنا وأمى، من ” أخميم “

وفى طرقات القرية أنده عليه بصوتٍ سرى

كى لا يسمعنى الأطفال الذين يعيّروننى بفقرى

كنت هدفاً لآذانهم

وصرتُ للتوّ ضحية للجحش الذى ائتمنته على طفولتى

:

الخيانة مُرّة

أمرّ من حساء العظام الذى يصفه الأطباء لمرضى التيبس

الخيانة تفقدك ضناك

يصبح بعيداً عنك

كيف يمكن أن تحضن الصوت البعيد

حتى إن تملص من السماعة

وراح يركض فى أعماقك

الجحش الذى يستحق الصداقة

لا بد أن يكون تلقائياً

كأنه من قطن

،،

حين يصبح الجحش شقيقك

لا بد أن تعذره

كان يسمعنى وأنا أكرر صوته

كان شقيقى بمعنى الكلمة

شقيقى الكبير، وأحياناً ابنى الذى ينهق فى وجه أعدائى من الأطفال

فأسمع النهيق على أنه نباح كلابٍ شرسة قادرة على أن تفتك بهم

ابنى الذى أنبح من خلاله

،،

مع الخيانة تغادر الروحُ الجسد

وإن عادت تصير روحاً أخرى

فى جسد آخر

لكنّ الخيانة تمنحك الوحدة

الوحدة نعمة

كوبٌ فارغ

وأنت السائلُ الذى يملؤه

:

الماء جيد للأملاح

لكنى أنسى الماء فى الشتاء

النسيان هو عيب الشتاء

أن ترسّب أملاحك لفصلٍ آخر

أن ترسّب التجارب التى تريد أن تنساها، ولا تقدر

أو تلك التى تعلق بذاكرة الأمهات، ولا تريد أن تنساك

،،

كان لطفولتى أصدقاء آخرون من الحيوانات

لكننى خنتهم، من دون قصد

مرة دهستُ دجاجتى، وأنا أجرى فى باحة البيت

كنت قادماً من الخارج، مندفعاً كالسهم

ريقى ناشفٌ من العطش

وفجأة وجدتُها تحت قدمى

ماتت، على الفور، ونسيتُ أن أشرب

النسيان حدادٌ صامت على من نحب

ولهذا لا أصدق أننى قتلتُ كلبى المفضل

كما أخبرتنى أمى، فى الزيارة الأخيرة

كنت مراهقاً

ظللتُ أضربه بالهرّاوة على رأسه

دون اعتبارٍ لعينيه التى كانت تستجدينى

هكذا تقول أمى

لكننى لا أفلح فى التذكر

فى إعادة تمثيل الجريمة

فاجأتنى أمى

حتى إن صار مسعوراً، ولا بد من قتله

كان يمكن أن أختار طريقة رحيمة

تبّتْ يدى

ما أكثر ما يخون المرء يده أو تخونه

:

أن تصاحب الحيوانات

فى الطفولة

يعنى أنك ستموتُ معهم فى كل مرة

لهذا منعتُ ابنتى الصغيرة ” ملك ” من تربية الكلاب

قلت لها: جربى أن تصاحبى العصافير

لكنها أخبرتنى أن العصافير أيضاً تموت

تغادر العش ولا تعود

:

“ملك ” لديها الآن قطٌ صغيرٌ تتحسّب لفراقه

اشتريتُ له قفصاً يقضى فيه حاجته

وأخر، كى ينزل معها إلى الشارع

كى يرقب الحياة من على ظهرها

تسميه ” فزدق ” وأنا أدعوه حفيدى منها، فتضحك “ملك ” وتسترسل فى أمومتها

” ملك ” أمى

روحٌ تموء طوال الوقت، حتى وهى نائمة

قلبها جحشً صغير مثل قلبى، لكنه لا يرفس

وإن كان حضنك يا حبيبتى قد أصبح معضلة

أنا لا أستطيع أن أحضنك

أن أضمك إلى قلبى

بعد وحشة

خوفاً على عظامك التى أصابها التيبسُ فى هذه السن

أنت وأمى

أخاف علكيما من الحضن

على سنواتك السبعة عشر

على سنواتها التى تخطت الثمانين

كأننى، إن حضنتكما بقوة، ستفلتان من يدى

:

الجحش

ضناك

أمك

الدجاجة

الكلب

كل شخص

كل حضن

كل شىء نحبه

يصبح عبئاً علينا

سبباً وجيهاً للندم

الحنينُ نباحٌ على الماضى

على الطفولة التى “كانت هناك، ولم يعد لها وجودٌ” .

 

 

 

مقالات من نفس القسم

يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

كوبنهاجن