أحمد عويضة
مزيج ساحر من المشاعر الإنسانية المتضاربة سيجتاحك عند مشاهدة هذا الفيلم. هو أحد إنتاجات أمازون الأصلية، صدر في أول أغسطس 2022 تقريبًا، ولم نسمع عنه في عالمنا العربي لسوء تسويق أمازون فيها، رغم أنه من بطولة نجوم لامعين مثل فيجو مورتنسن وكولين فاريل وجويل إيدجرتون. ومن إخراج رون هاوارد الذي أخرج أفلامًا مميزة مثل Rush, A beautiful mind, The Davinci code وغيرها الكثير من الأفلام التي شكلت مسيرته المميزة.
يرصد الفيلم تلك اللحظة العابرة التي ظهرت فيها إنسانية العالم -إلا واحدًا سنأتي للحديث عنه- وإلغاء كل الاعتبارات الأخرى، عندما احتُجِز اثني عشرة طفلًا تايلانديًا ومدربهم في أحد كهوف تايلاند السياحية بعدما دخلوه وهطلت الأمطار الموسمية بغزارة غمرت الممرات وحالت دون خروجهم. وبعد عدة محاولات من فريق الإنقاذ وجنود البحرية التايلاندية أطلقوا نداء استغاثة للعالم كله لمساعدتهم في إنقاذ العالقين.
ويستجيب الكثير من الناس للاستغاثة ويأتون من كل أنحاء العالم باذلين كل جهد ممكن لإخراج الأولاد، ويركز الفيلم على فريق من غواصي الكهوف المحترفين وهم يحاولون استكشاف الكهف ونرى معهم صعوبة الغوص فيه لمنعرجاته الحادة وخطورته وهو مغمور بالماء. ويتمكنوا بعد عدة محاولات من الوصول إليهم والتيقن من أنهم على قيد الحياة وتبدأ المشكلة الأكبر: كيف نُخرجهم.
وعلى الجانب الآخر نرى تضحيات عظيمة قام بها الفلاحون التايلانديون عندما ضحوا بمحاصيل الأرز و وافقوا على جعل حقولهم مصب لشلالات مياه الأمطار التي تهطل فوق الجبل، حتى يساهموا في انحسار الماء في الكهف وتهدئة تيارات المياه ليتمكن الغواصون من ممارسة عملهم. وافقوا دون تردد وهم يعرفون أن تلك التضحية قد تذهب هباءً، لكنهم قرروا أن مجرد الاحتمال يستحق.
أظن أننا لا نحتاج إلى حكي قصة الفيلم/ قصة ما حدث بالفعل، لأننا عاصرناها كلنا في عام 2018، وللمصادفة فقد كانت في نفس توقيت كأس العالم ولم نهتم وقتها بكأس العالم قدر اهتمامنا بأخبار الأطفال، حد أن السؤال الصباحي اليومي كان: هل أُخرجوا؟
يعيد الفيلم إلينا كل الأحاسيس التي اجتاحتنا وقتها، ويعيدنا إليها: إلى تلك اللحظة التي تذكرنا فيها جميعًا أننا بشرًا – إلا ذلك الانتهازي الاستغلالي الذي حاول استغلال الأزمة وجهل الناس بطبيعة الكهوف وأعلن عن اختراع أنبوب يُوضع فيه الأطفال لإنقاذهم مما أدى إلى ارتفاع أسهم شركته-، ويحمل إلينا الفيلم تفاصيلًا لم نكن نعرفها عن معوقات عملية الإنقاذ، وربما تفاصيل أخرى لم ينتبه لها البعض، مثل اضطرارهم إلى تخدير الأطفال لأكثر من خمس ساعات متصلة حتى يتمكنوا من إخراجهم، وأن تلك الفكرة عندما طُرِحت كان وقعها كحكم إعدام، لكنها كانت السبيل الوحيد لإنقاذهم.
يُعد الفيلم على المستوى التقني نموذجًا للتحضير والاجتهاد والاهتمام بالتفاصيل، تصرفات فيجو مورتنسن وكولين فاريل والباقيين كانت بالفعل تصرفات غواصين، حتى طرق حركتهم فوق الأرض وحملهم اسطوانات الهواء، تعاملهم مع المعدات بل وحتى ملابسهم العادية التي كانت أخف ما يمكن كما يفضل الغواصون. بل إن الأمر قد وصل إلى طرق التنفس تحت الماء (لم يتنفس الجميع بطريقة واحدة) لدرجة أن الفارق كان واضحًا بين فريق غواصي الكهوف الأجنبي وفريق الغواصين التايلاندي الذين يألفون الغوص في البحار المفتوحة لا الكهوف، ومن عظمة هذه التفصيلة أنني أثناء مشاهدتي الفيلم أدركت أن بعض الغواصين التايلانديين سيصلون إلى مكان الأولاد لكنهم لن يتمكنوا من العودة وسيحُتجزوا معهم، فقط من طريقة التنفس. أما تفاصيل المرحلة الأخيرة من عملية الإنقاذ فكانت مبهرة، وسأذكر هنا تفصيلة صغيرة جدًا: أثناء خروج أحد الغواصين بولد من الأولاد في الموجة الأولى، كانت رجلاه المقيدتان تحتكان بصخور قاع الكهف فما كان منهم في الموجة الثانية إلا أن ربطوا زجاجة مياه فارغة بقدمي فتى آخر فحماهما ذلك من الاحتكاك. بالإضافة إلى الإصابات التي تعرض لها الغواصين في أياديهم، وهي إصابات شائعة بشدة لأي غواص كهوف. تفاصيل كثيرة جدًا ربما لن يلتفت لها الجمهور العام، لكن ذلك لم يمنع رود هاوارد ولا الممثلين من إتقان أدوارهم بكل تفاصيلها، في درسٍ مهم لأي مبدع.
أما الممثلون.. فيا الله على ما قاموا به.
حقيقة لا أدري ماذا أقول عنهم، أداء رائع دون تكلف، وقدرة استثنائية على نقل كل التعبيرات والمشاعر المعقدة دون أن يتكلموا، بتعبيرات الوجه فقط. قدم الجميع أداءً استثنائيًا، الممثلون التايلانديون الذين أجهل أسماءهم للأسف، والعظماء الذين أحبهم بشكلٍ شخصي: فيجو مورتنسن وكولين فاريل وجويل إيدجرتون.
فيجو مورتنسن هو قائد عملية الإنقاذ وصاحب فكرة التخدير، استطاع ببراعة أن يخبرني -دون أن يقول- بأنه رجل عملي واقعي، يسعى دومًا إلى المواجهة ولا يحب أن يعلق الآخرين بحبالٍ واهية. يخطط جيدًا لما يقوم به ويراعي السلامة دومًا.
وجويل إيدجرتون، غواص وطبيب تخدير، استدعاه ريك (فيجو مورتنسن) ليعرض عليه فكرته، ويكفيني منه تعبيرات وجهه عندما علم بالفكرة وعندما عرف أن الموجة الأولى من الأطفال قد خرجت سالمة.
أما كولين فاريل، فأنا على المستوى الشخصي سعيد جدًا لأن عام 2022 كان بالنسبة لي عام إدراك الجمهور لعظمته وإبداعه وموهبته، ثلاثة أدوار بثلاث شخصيات مختلفة أبدع فيها كلها، مما جعلني أقول: أنا صح.. أنا صح.
ربما الشيء المميز في كولين فاريل هو أنه يبتكر شخصية لكل دورٍ يقوم به، لا يكتفي بتقمص الشخصية والتمثيل، بل يبتكر طريقة مشي وطريقة كلام وطريقة نظر مختلفة في كل مرة، ومن شاهد أعماله الثلاثة في 2022 The batman, Thirteen lives, The banshees of Inisherin سيشاهد ثلاثة شخصيات مختلفة تمامًا، أداء طازج ومبتكر دومًا.
ما حدث في تايلاند كان حدثًا استثنائيًا أخرج بعض الجمال من داخلنا، وما قام به الفيلم الرائع هو توثيق لتلك اللحظة بكل تفاصيلها، علّنا نتذكرها عندما نشاهده وتحرك شيئًا داخلنا يجعلنا نسعى للعودة إلى ذلك الجمال مرة أخرى.