د. حسام الدين فياض*
” يجب على المرء أن يذهب إلى الجهة التي يطيب للعقل فيها أن يشعر بالخطر “ غاستون باشلار (إدغار موران: المنهج، معرفة المعرفة: انثروبولوجيا المعرفة، ص9).
إن المجتمعات تختلف تبعاً للثقافة، فالثقافة هي التي تجعل الشعوب تتمايز فيما بينها وترى هذه النظريات أن الأفكار، والإيديولوجيا، والقيم من مسببات التغير الاجتماعي والثقافي، فعندما يتبنى مجتمع قيم معينة فإنها تؤثر في نظر أفراده نحول العلاقات الاجتماعية القائمة بينهم وفي اتجاههم بشكل عام.
ومن الملاحظ أن الثقافة كانت دائماً مفهوماً ديناميكياً ومتلوناً، أي إن معناها يتغير مع الزمن كما أنها تتخذ عدة أشكال. وفي وقتنا المعاصر أصبح ينظر إليها باعتبارها عملية مستمرة أكثر منها كياناً جامداً، وكفعل أكثر منها اسماً وبخاصة داخل الانثروبولوجيا والدراسات الثقافية، ويرى عالِم الانثروبولوجيا روى فاجنر Roy Wagner أن الثقافات دائمة التغير ويُعاد تخلقها كجزء من عملية مستمرة، وعلى نحو خاص فإن الثقافات تغذيها ضغوطاً ومؤثرات داخلية عدة، مما يؤكد أنها ليست جامدة أو ثابتة. كذلك فإنها تتشكل بفعل قوى خارجية مثل: الهجرة الدولية موجات اللجوء. وبالتالي فهي ليست كيانات متجانسة أو متفردة أو محددة، بل إنها بالأحرى تقوم بعملية مراكمة وتأخذ عن تقاليد أخرى.
تنطوي الحياة الاجتماعية على مُتضمنات تتعلق بالهوية وتكونها، فما دامت الثقافات في حالة تغير وحركة مستمرة، من الطبيعي ألا تكون هناك هويات ثابتة أو مستقرة، على أنه ينبغي ألا نبالغ في أهمية مدى التغير وسرعته في لحظة ما، لأن الثقافات إذا كانت غير ثابتة وفي حال تغير دائم، فسوف يكون من الصعب على الناس أن تتماهى معها أو تسكنها. من هنا لا بد من أن تكون هناك لحظات استقرار، فترات من الزمن تتماهى فيها شبكات أو مجموعات من البشر مع أشياء من قبيل الأفكار والقيم والرموز، وترتبط بمظاهر ثقافية، مثل: الآثار الفنية والنصوص، وتكون قادرة على إضفاء الطابع المحلي عليها. بمعنى آخر، فإنه حتى في عالَم دائم الحركة، ما زال يعاد إنتاج الثقافات داخل عدد وافر من النظريات الاجتماعية بأطر تفسيرية، ونظم قيمة، ومصادر للهوية.
إن معظم الصراعات التي نراها حولنا اليوم هي صراع وصدام ثقافات من نوع ما، وقد انتبه لفكرة الصراع الثقافي الممكن مفكرون عرب أمثال: محمود أمين العالم، المهدي المنجرة، عبد الله العروي، حتى قبل صمويل هنتنغتون وكتابه ذائع الصيت ” صراع الحضارات ” أو فرانسيس فوكوياما في كتابه ” نهاية التاريخ “. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: ما هي تمظهرات الصراع الثقافي أو صراع الهويات في وقتنا المعاصر؟ في حقيقة الأمر، إن أكثر الانفجارات الصراعية في عالمنا اليوم هولاً وتدميراً، هو ما ينتجه الصدام بين فكرتين ثقافيتين متناقضتين ومتضادتين، من حيث القيم والمشاعر والمعتقدات والأفكار السياسية أو المذهبية أو القومية. هاتان الشحنتان المتناقضتان في حال صدامهما غير المقنن، يفجران الصراع البارد أو الساخن في عالمنا المعاصر.
يعد الصراع في حياة الإنسان أهم ظاهرة، وهو النتيجة الحتمية لبيئة الاختلاف المتواجدة في الذات البشرية الناتجة عن الاحتكاك في التفاعل بين الجماعات الساعية إلى تحقيق أهدافها. تعود كلمة الصراع إلى العراك نسبة للخلاف أو النزاع الناتج عن تعارض المصالح والأهداف للأفراد والجماعات، والكل يعمل على حسمه لصالحه، وذلك باستعمال كل الوسائل المتاحة، ويظهر في عملية الصراع الأشخاص بشكل واضح من ظهور الهدف المباشر، نظراً لتطور المشاعر العدوانية القوية، فإن تحقيق الهدف في بعض الأوقات يعتبر شيئاً ثانوياً بجانب هزيمة الطرف الآخر. أما الصراع الثقافي هو نوع من الصراع القائم في مجال النسق الثقافي للبناء الاجتماعي ويحدث عندما تتعارض القيم والمعتقدات الثقافية المختلفة، كما توجد تعريفات واسعة وضيقة لهذا المفهوم، وكلاهما استخدم لشرح العنف (بما في ذلك الحرب) والجريمة، سواء على نطاق صغير أو كلي. كما أن الصراع عملية اجتماعية، توجد بأوجه مختلفة في الحياة الاجتماعية، والمتناقضات الثقافية تنبع من داخل المجتمع، وإزالتها يؤدي إلى تغيرات اجتماعية في المجتمع. خلاصة القول يمكن اعتبار الصراع الثقافي إحدى العمليات الاجتماعية التي تحدث عند تعرض الأفراد لموقفين ثقافيين متعارضين ومتناقضين، ويتطلب كل منها سلوكاً مغايراً، ويؤدي إلى وجود نمطين من الدوافع المتناقضة والمتعارضة يؤدي إلى إعاقة الفرد في التوافق ولا يلغي أي من الدافعين المتصارعين الآخر، ولكنهما يعطيان الفرصة لنشوء توتر متزايد وسلوك غير ثابت على الصعيد الفكري والثقافي.
بذلك يعتبر الصراع الثقافي نمطاً من أنماط المعارضة العتية والرافضة للانصياع، ويتسم بشيء من الانفعال وفيه يحاول الشخص أو الجماعة إحباط أو تدمير الخصم من أجل الوصول إلى الهدف المنشود. وبعبارة أخرى، يصبح المجتمع الذي تسوده زيادة مفرطة في الأصوليات والقوميات العرقية التي هي نقيض حقوق الإنسان والديمقراطية والحوار المفتوح، ويطلق باربر على ذلك مصطلح ” لبننة العالم ” بمعنى أن تصبح هناك حالة في داخل الدول القومية: ” الثقافة فيها ضد الثقافة وأناس ضد أناس وقبيلة ضد قبيلة ” وتكون القومية العرقية في كل مكان القوى التي سوف تقضي على كل أشكال التعايش والتعاون الاجتماعي والاعتراف بالآخر مما يدمر كل المشاعر والعواطف الإنسانية المتبادلة.
بعد انتهاء الحرب الباردة، وكانت في شكل منها صراعاً ثقافياً وفكرياً، برزت حروب الهويات والثقافات على المستوى الدولي أو الإقليمي، بل وحتى في البلد الواحد تفجر ذلك الصراع في غياب مسطرة للتوافق بشكل (افتراسي) إن صح التعبير. فالموقف من الهجرة والمهاجرين واللجوء الذي يتجلى لنا اليوم في كل من الولايات المتحدة وأوروبا هو شكل من أشكال صراع الثقافات، فالثقافة الغربية قلقة، على أقل تعبير، من هجمة كبرى للاجئين من دول الجنوب (السوريون، والعراقيون، الصوماليون، ….)، فالغرب يعيد حسابات الهجرة واللجوء، كما يحدث في الولايات المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية. كل الضجيج السياسي في الولايات المتحدة جاء من خلال صراع لقوى ترغب بقوة في شيطنة ثقافات بعينها، سواء كانت دينية، أو بسبب لونها، بل إن الكثير من دول أوروبا يتوجه إلى اليمين اليوم، لرفض أو قفل الباب أمام ثقافات، تبدو لهم أنها مختلفة عنهم ومهددة لوجودهم.
– تمظهرات الصراع الثقافي في الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر:
تفسر الماركسية عملية الصراع الثقافي بالاستناد إلى المتناقضات المادية داخل المجتمع فكلما زادت المتناقضات أدى إلى زيادة حدة الصراع، بالتالي زادت حدة التغيير. يذهب ماركس إلى الصراع الثقافي يعود بالأصل إلى الصراع التفاوت الطبقي القائم في المجتمع البرجوازي، فلا يمكن لأي صراع إلا أن يكون بين طرفين متناقضين، حيث يفرز كل طرف من أطراف الصراع ثقافته الخاصة من خلال الموقع الطبقي الذي يحتله في عملية الصراع، فينجم عن عملية الصراع على ساحة الوعي الاجتماعي صراع مماثل على ساحة الثقافة عندما تعي كل طبقة مصالحها وأهدافها الخاصة وتصبح طبقة لذاتها، فالثقافة بذلك ليست وحدة متكاملة، بل هي متعددة الوجوه والأسباب والأهداف والتمظهرات أي الثقافة والثقافة المضادة. فالفهم الدقيق لواقع الثقافة حسب ماركس هو التعدد الطبقي والعلاقات المتناقضة بينها على ساحة المصالح، فالطبقة البرجوازية لها ثقافتها، وللطبقات الشغيلة والمنتجة ثقافتها، ولا يمكن أن تتناغم ثقافة الثري مع ثقافة الفقير بسبب تناقض المصالح والسعي إلى السيطرة على مفاصل الواقع الاجتماعي ليأخذ الصراع الطبقي في نهاية المطاف شكل الصراع الثقافي.
يعتقد باريتو بأن الصراع الثقافي يكون بين النخبة والعوام فكل منهما ثقافته الخاصة، ويرجع هذا الصراع حسب باريتو إلى رغبة النخبة باحتلال مواقعها القيادية والحفاظ عليها لأطول مدة زمنية ممكنة وعدم أتاحتها المجال للعوام بمشاركتها في القوة والمسؤولية من خلال فرض مصوغاتها الثقافية. بينما تريد طبقة العوام بسبب تراكم لديها ثقافة الخضوع الوثوب إلى مراكز النخبة واحتلالها للسيطرة على زمام القوة والحكم في المجتمع إذاً المنافسة الشديدة بين النخبة والعوام ترجع إلى رغبة كلتا الطبقتين باحتلال مراكز القوة والمسؤولية، فالنخبة تريد الاستمرار بالمحافظة على مراكزها القيادية، بينما العوام تريد انتزاع مراكز القوة والمسؤولية من النخبة بالاستناد إلى مبرراته ثقافية. بذلك نستطيع القول بأن سبب الصراع بين النخبة والعوام يرجع إلى الاختلاف في المشتقات الثقافية التي تفضي إلى الرغبة في الاستئثار بالحكم واحتلال المواقع الحساسة في المجتمع وصياغة مناخ ثقافي بناءً على مشتقاتها يدعم ويبرر سيطرتها على الواقع الاجتماعي.
وفي ذات السياق يذهب داهرندورف إلى أن الصراع الاجتماعي يحدث نتيجة لغياب الانسجام والتوازن والنظام والإجماع في محيط اجتماعي معين وبالأخص في مجال الثقافي. ويحدث أيضاً نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية أو كليهما معاً. أما المحيط الاجتماعي المعني بالصراع فيشمل كل الجماعات سواء كانت صغيرة كالجماعات البسيطة أو كبيرة كالعشائر والقبائل والعائلات والتجمعات السكنية في المدن وحتى الشعوب والأمم.
أي إن فهم داهرندورف لمفهوم الصراع الاجتماعي ينطلق من مفهوم السلطة الذي يعني احتمال طاعة أشخاص معينين لقائد جماعة معينة، وهذا يعني أن المجتمع في الغالب يتألف من جماعتين متضادتين إحداها مسيطرة وأخرى خاضعة يحدث عادةً صراع بينهما نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول كيفية تقسيم الموارد المادية مثل: السلطة، والدخل، والملكية. وأيضاً لوجود ما يسمى بـ ” الرموز الثقافية ” وهو نوع من الأسباب التي تؤدي إلى انسجام بين البشر أو إلى خصام، والخصام في هذا السياق قد يتجلى في الاختلاف على مفهوم السلطة المادية ورموزها. فمن له الحق في تنبؤ السلطة وتملكها؟ ولماذا؟ إن مثل هذا التساؤل هو المنطلق الأولي الذي يؤدي إلى نشوب الصراع الاجتماعي الذي يتمظهر في نهاية المطاف بين أفراد المجتمع بصور متعددة أهمها الصراع الثقافي.
أما كوزر فقد أرجع مصادر الصراع الثقافي ومنابعه إلى الطموحات الفردية ومحدداته الثقافية بديلاً عن أن يرد منابع الصراع إلى الخواص المميزة للبناء الاجتماعي. حيث أكد على الدور الذي تلعبه عواطف الناس People Emotions في ظهور الصراع الثقافي على اعتبار أن عواطف الناس تتشكل بناءً على المحيط الاجتماعي والثقافي الذي تمارس فيه علاقاتها الاجتماعية. ومعنى ذلك أن مدى تأثير عواطف الناس على ظهور الصراع العدائي وخاصةً بين الأفراد الذين لديهم اختلاف في خصائصهم وقيمهم الثقافية التي تؤطر الأفعال الاجتماعية، حيث تظهر مظاهر الحب والكراهية بصورة واضحة، ضمن إطار هذه الأفعال وبالأخص عند الاختلاف الثقافي حول مواضيع معينة مما يؤثر على طبيعة علاقاتهم الاجتماعية. خلاصة القول إن طبيعة الصراع الثقافي عند كوزر، تتمظهر في سياق العلاقات الاجتماعية بناءً على طبيعة المحددات الثقافية المعنوية وما تفرزه من رؤى ومبادئ أولية لتقييم الواقع والآخر المختلف ومن هنا ينشأ الصراع الثقافي، حيث إن كثافة الصراع يهاجم ويهدد بالتمزيق أساس الإجماع لنسق اجتماعي يرتبط بجمود البناء على الصعيد الثقافي، وما يهدد توازن مثل هذا البناء ليس الصراع في حد ذاته، ولكنه الجمود نفسه الذي يسمح بتراكم العداوات ونقلها عبر خط رئيس واحد للنزاع والتي تنفجر في شكل صراعات تعم كل الواقع الاجتماعي.
وأخيراً يرى بورديو أن الصراع الثقافي يأخذ منحاً رمزياً من خلال العنف الرمزي الذي يعتبر العنف الناعم واللا محسوس واللا مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، والذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة، أو أكثر تحديداً بالجهل والاعتراف، أو بالعاطفة كحدٍ أدنى. أي إنه نمط خاص من العنف العام يسمى أحياناً بالعنف المقنع أو المستور أو حتى العنف الخفي، وهو أسلوب موجه إلى عامة الناس خلاف العنف المادي أو المباشر الذي يكون هدفه محدداً، فالعنف الرمزي يتخذ عدة أشكال وأنماط تشكل في مجملها إشارات أو رموزاً للمواجهة غير المباشرة، حيث يعمد فاعلوه على التخفي دون الظهور علانية. ويعتقد بورديو أن العلاقات الاجتماعية، مهما كان حقلها أو مجالها، مرتبطة بآليات بنية التنافس والهيمنة الثقافية والصراع. وقد أصبحت هذه الآليات راسخة ومتجذرة لدى الأفراد عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية (التطبيع الثقافي)، فالأفراد ينتجونها بدورهم بطريقة غير واعية بوصفها أعرافاً وقيماً ومعايير. وتعد الأسرة والمدرسة فضاءات لترسيخ وإعادة إنتاج الطبقية واللامساواة الناتجة عن وجود طبقة مسيطرة، وطبقة مسيطر عليها، حيث تساهم مؤسسات الدولة والأسرة والنظام التربوي في ممارسة العنف الرمزي ضد الفاعلين المجتمعين المرتبطين بها. ويلاحظ أن الكثير من آليات التنافس والسيطرة تنتقل من جيل إلى آخر عبر منافذ التربية والإعلام والثقافة بشكل رمزي مستتر. ويذهب بورديو إلى أن العنف الرمزي يتم ممارسته من خلال السلطة الرمزية التي تمثل شكلاً من أشكال السلطات الأخرى، إلا أن لها قوى خارقة تجبر المسيطر عليه من قبلها إلى الخضوع لها والاعتراف بها دون أن تبذل طاقة كبرى في التحكم فيه، بالإضافة إلى أنها تستثمر جموع الرساميل الرمزية في خطاباتها التي تعمل على المحافظة على قوتها داخل الطبقات المسودة، حيث تستند السلطة الرمزية دوماً إلى أسلوب التورية والاختفاء، وهي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المنشود من قبلها، إلا من خلال التعاون الذي يجب أن تلقاه من طرف أغلبية الأفراد، والذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية ولا يعترفون بها.
ويرى بورديو أن الطبقة المهيمنة في المجتمع تحتاج إلى رأسمال ثقافي حتى تستطيع أن تنتج ما يعني لها من أفكار ومعاني ورموز ثقافية تمكنها من السيطرة على الطبقات الأخرى – الجماهير بالمعنى الواسع التي تستهلك مثل هذه المنتجات الثقافية. وتذهب نظرية رأس المال الثقافي إلى أنه بإمكان الطبقات التي تقع تحت الهيمنة أن تستثمر كذلك في رأس المال الرمزي، وأن تكتسب ما يترتب عليه من رموز ومعان ودلالات ثقافية وقد يعتبرونها جزءاً من تكوينهم الثقافي. ومن الجدير بالذكر أن رأسمال الثقافي لا يكتسب ولا يورث دون جهود شخصية، إنه يتطلب من طرف الفاعل عملاً وطويلاً مستمراً ومعززاً للتعلم والتثاقف بهدف أن يندمج فيه ويجعله ملكاً له، أن يجعله ذاته، بما أنه يحوِّل الوجود الاجتماعي للفاعل. وهذا ما تقوم به مؤسسات التنشئة الاجتماعية ورأسها المدرسة ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها ومستوياتها.
خلاصة القول إن العنف الرمزي يتخذ صيغته السوسيو ثقافية فيما يتعلق بالصراع الثقافي، عندما يمارس دوره وفاعليته الثقافية في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، لما له من قدرة على التواري في خفايا الحياة الاجتماعية، بشكل متوارٍ عن الأنظار، حيث ينزع إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرض نظام من الأفكار والمعتقدات التي غالباً ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة، والسيادة، والسيطرة، ويهدف هذا النوع من العنف إلى توليد معتقدات وإيديولوجيات محددة وترسيخها في عقول الذين يتعرضون له وأذهانهم، فالعنف الرمزي حسب ما ذهب إليه بورديو ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، وإنتاج الخطاب الثقافي وإنتاج القيم، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون بقدرتهم على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة إيديولوجياً على الآخر وتطبيعه، مع القدرة على بناء المعطيات الفكرية بالإعلان عنها وترسيخها، والقدرة على تغيير الأوضاع الاجتماعية والثقافية عبر التأثير في المعتقدات وتغيير مقاصدها وبناء تصورات إيديولوجية عن العالم تتوافق مع إرادة الهيمنة والسيطرة التي تقررها الحاجات السياسية لطبقة اجتماعية معينة وهذا الوضع هو لب الصراع الثقافي.
إن المتتبع لعملية الصراع الثقافي سيدرك أنه يدور في مفهوم قديم بأساليب مستحدثة، أبرزها الصراع الإيديولوجي، حيث تحاول الرأسمالية المعاصرة باسم العولمة أن تجعل خطابها بكل ما يتضمنه من حقائق وأساطير أن يكون هو الخطاب السائد، نافياً بذلك كل الخطابات المنافسة. فالليبرالية هي المذهب السياسي المعتمد، وحرية التجارة ورفع كل القيود أمامها هي المبدأ المقدس، والتنافس العالمي في ظل وهم الندية الكاملة بين جميع الدول، لا فرق بين المتقدمة منها والنامية، هي الفلسفة الجديدة. غير أن هناك مجالات جديدة يدور فيها الصراع الثقافي باسم الخصوصية الثقافية التي تحاول الوقوف ضد موجات العولمة المتدفقة. وبعض هذه المحاولات ينطلق من مبادئ مشروعة تريد تأكيد حق الهويات الثقافية المختلفة أن تعيش وتحيا وتزدهر في عصر العولمة، بدلاً من الدعوات البدائية لتنميط وتوحيد أساليب حياة البشر وفق قيم الحضارة الغربية. غير أن هناك في هذا المجال محاولات تنطلق من رؤية مغلقة للتاريخ، لا تؤمن بالتقدم الإنساني، وتريد إقامة أسس المجتمع المعاصر في ضوء الارتداد إلى مرجعيات الماضي، من خلال اتجاه انعزالي يظن أنه يستطيع أن يحمي الثقافة والمجتمع من مفاسد العولمة المعاصرة. فالحرب الدائرة في يومنا هذا هي حرب ثقافات بامتياز البقاء فيها للفكر الأقوى الذي يملك مفاتيح العلم والمعرفة التكنولوجية. أما عن الكيفية التي يتم من خلالها حسم عملية الصراع الثقافي، فإنها تتحقق عن طريق إنهاء بعض المظاهر الثقافية الأضعف لحساب الثقافات الأخرى، أو استبدالها بعناصر جديدة، أو بتنميط العنصر الغالب في الثقافة الأقوى بواسطة العولمة الثقافية.
..……………………..
* الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة، قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
مراجع المقال:
– بول هوبر: نحو فهم للعولمة الثقافية، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط1، 2024.
– علي ليلة: النظرية الاجتماعية الحديثة (الأنساق الكلاسيكية)، الكتاب: الثالث، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط1، 2014.
– السويحلي الهادي داعوب: نقد نظريات الصراع الغربية من منظور النظرية العالمية الثالثة، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، ط1، 2006.
– حسام الدين فياض: التحليل النقدي للخطاب بوصفه ممارسة اجتماعية، مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية، العدد: 240 (15)، نيسان 2023.
– محمد قطب سليم: المجتمع والثقافة والشخصية – دراسات في علم الاجتماع الثقافي، السلطان لتشغيل الأوراق، القاهرة، ط1، ب.ت.
– حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الثالث، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022.
– أثر أيزابرجر: النقد الثقافي – تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية، المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة)، القاهرة، العدد: 603، ط1، 2003.
– حسام الدين فياض: نظرية الصراع على السلطة عند رالف داهرندورف (قراءة تحليلية – نقدية)، مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية، العدد: 245 (1)، تموز 2023.
– حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية – نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الأول، دار الأكاديمية الحديثة، إسطنبول، ط1، 2020.
– إدغار موران: المنهج – معرفة المعرفة: انثروبولوجيا المعرفة، ترجمة: جمال شحيّد، مراجعة: موريس أبو ناضر، المنظمة العربية للترجمة، الجزء: الثالث، بيروت، ط1، 2012.
– حسام الدين فياض: في النقد الثقافي محاولة للتأصيل، مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية، العدد: 242 (15)، أيار 2023.
– حسام الدين فياض: نظرية الصراع الاجتماعي الإيجابي عند لويس كوزر، مجلة التنويري، عمان، 9 يونيو، 2023. https://altanweeri.net/10308/
– محمد الرميحي: صراع الثقافات وفقر الأمم!، صحيفة الشرق الأوسط، الجمعة – 02 جمادي الأول 1439 هـ – 19 يناير 2018 م. https://2u.pw/07JqGiQv