حسام السيد
المُثير في هذه المجموعة القصصية على قصر حجمها، هو هواجس بعينها مُستعادة من خلالها بإصرار شديد يتخفى وراء حكايات مُختلفة، تحديدًا تجربة الأبوة التي مر بها قاص وشاعر وكيف أثرت على رؤيته للعالم؟
في أربعة قصص نجد الشخصية الرئيسية أب وحيد مع ابنه/ابنته مع غياب الأم، في قصة يتشبث الطفل باستعارة «العصفورة قالتلي» ليهيم بوجدانه مع كل عصفور يراه أملًا في أن يوصله لأمه في السماء، في تلك القصة لا يفهم الأب الإستعارة أبدًا و يركض هلوعًا وراء طفله في الشوارع
في قصة أخرى نجد الأب يجتهد أكثر لفهم طفلته، يتملكه هوس يجعله يصطنع قاموسًا للغة الأطفال، يُخبرنا أن اللغة تمثال كامن في جبل رخام ما علينا إلا إستخراجه، اللغة سر فينا وليست مُستحضر خارجي من العالم، لا نُدرك هل الأب جاد فيما يظنه أم أنه مهووس وحسب برغبته في عقلنة وصال إبنته، طريقة رجولية من أب لا يدري كيف يحدث سحر الأمومة بعفويته فيحاول إلتقاطه بشكل علمي، جهود سيطرة تعوض الغريزة الأمومية التي يكمن سحرها في عفويتها كأنها تحدث دون مجهود
في القصة الثالثة، تُروى من منظور الإبنة، التي تعشق أباها الوحيد، وتفتقد أمها الراحلة، لكنها ذات أمسية تسمع الأب يروي لأصدقاؤه مزحة خليعة، تتحطم ألوهيته في ذهنها، بينما سحر وألوهية الأمومة طبيعية لا تحتاج شيء، ولا يحطمها حتى الرحيل، يُمكن أن يستعيدها الطفل بعد رحيلها باستعارة أو صورة لا أكثر وبالفعل سوف تستعيدها الإبنة في أحد المواقف الصعبة التي تمر بها كل فتاة، بينما الأب قد تُدمر أسطورته مزحة لا أكثر
تبدو في كل قصص الرواية، الأمومة ألوهة غائبة، سحرية، سرية، هبة لا تكلف فيها، بينما الأبوة إجتهاد مُضني ومحاولة رقيقة بلا كتالوج أو تعلُم من رجل أن يصير إلهًا لجمهور واحد هو إبنه أو إبنته، باصطناع قاموس، بالإحتجاب مع أصدقاؤه ليصير مؤنسنًا معهم بعيدًا عن إبنته، بالبكاء وحيدًا لكيلا يسمعه إبنه. نجد إكتمال تلك الصورة في القصة التي منحت المجموعة إسمها «تمشية قصيرة مع لولو»
أب يصطحب طفلته في يوم عيد للشوارع، فتتحول التمشية لمُغامرة مُرعبة، مُحاطة بمخاوف شتى، يؤنسن الأب قطة الشارع ويخبر إبنته أنها تعرفهم، يطوف بها في مدينة حوانيتها مُغلقة، تبدو مقبضة رغم بهجة العيد التي بدأت بها القصة، حتى مظاهر البهجة مثل الألعاب النارية والصواريخ تبدو تهديدًا يفر منه مع طفلته، لتضيع عليها فرصة شراء الحلوى، يُقابل الأب رجلًا من الماضي، رجلًا كان يستميت للتنازل عن جنسيته، ربما يُجسد فكرة الهجرة، أو حل الهروب من تمشية بسيطة في فضاء مكاني مُكلل بالمخاوف لبلاد بعيدة أكثر أمانًا لطفلته، تنتهي القصة بقرار التمشية على الكورنيش الذي ينتهي بوقوف قلق أمام السيارات المُسرعة، بينما النيل على الضفة الأخرى، في رمزية عابرة تشبه عبور الأموات للخلود عبر بر النيل الغربي. لجنة تخلو من المخاوف مليئة بالحلوى والقطط التي لا تخيف وحوانيت لا تغلق أبوابها أبدًا
قصص تُمثل عقدًا مُنفرط لا ينتظمه إلا خيط واحد، هي أبوة قلقة، يُحاول فيها شاعر وقاص بجمالية رقيقة مُقاربة دور مهيب مثل الأب، في إحدى القصص يستعيد الإبن صوت أبيه الذي يُحذره في صورة رجل آخر جواره، رغم أن أبيه مات منذ سنوات، يتساءل القاص بشعرية حزينة، هل يُمكن أن يتمظهر بعد غيابه لأطفاله، وحتى في تمظهره يعد أنه لن يكون أبويًا بصورة سيئة سلطوية، لن يثقلهم بتحذيرات أو وعيد، فقط سيُشير لهم بتحية دافئة عبر أيادي العابرين
_
الهاجس الثاني في المجموعة هو هاجس الإبداع، ما يتبقى من المُبدع وما يذهب جُفاءًا كالزبد، في القصص السابقة يحاول القاص مٌقاربة دور الأبوة بجمالية وشعرية تُخفف من وطأة الموت الذي يبرز في المجموعة القصصية كغول مُتربص بالأحباب، غول عملاق يسأل طوال الوقت كم الساعة؟ كم مر؟ كم تبقى من الزمن؟
كيف يُمكن مٌقاربة الموت شعريًا؟
نجد في قصة شاعر قديم لا يؤرقه في موت صديقه إلا الإستعارة التي إختارها الناس ليصفوا موته، يُحاول تفكيكها وتفسيرها عسى أن يصل منها لعقلنة تُخفف من موت صديقه، بذكاء يخفي القاص حُزن الشخصية الرئيسية وراء محاولاته عقلنة الموت بالبحث عن المجاز المُناسب
بينما في قصتان يُناقش القاص مٌعضلة موت المبدع، والحياة الثانية التي توهب للعمل الفني بعد رحيل صانعه، نجد أغنية قديمة إكتسبت حياتها وخلودها الخاص لدى جيل من العجائز، لا قيمة فيها لحياة مؤديها، الذي لا يقاوم فكرة موته ولا يدافع عن كونه حيًا لم يمت بعد، ولا يُصحح لمن يخبره أن يقلد أداء الأغنية بينما هو المؤدي الأصيل لها في الحقيقة، يحيا كنسخة مُقلدة من إبداعه الخاص، هنا العمل الأصيل يكفي ، لا قيمة للمؤدي حتى لو أربكنا حضوره وغيابه ، بينما في قصة أخرى نجد البطل يتحرج في شراء لوحة بعدما علم أنها مُقلدة، عندما غابت الأصالة عن العمل الفني، غاب السر، غاب السحر، مهما بدت اللوحة مُتقنة ما هي إلا كيتش، زيف لا يُخفي وراءه مُعاناة أو سر.
يأخذ الكاتب تيمة الأصالة والزيف لآفاق أكثر جمالية، فهي ألفاظ تنتمي للعمل الفني، وبها تتحدد قيمة العمل بينما في حياتنا الخاصة يأخذها بطلان في قصة لعوالم ذكرياتهما، يقوموا بعناية بإصلاح الماضي، بإعادة تأويل الذكريات بما يجعلها أكثر جمالًا، هذا زيف يجعله الكاتب محمودًا وربما أكثر أصالة من الواقع نفسه، يجعله القاص ينتصر في النهاية عندما ينسى الحبيبان الأحداث الحقيقية ويتذكرا نُسختهما المعدلة عن قصة حُبهما
في القصص كلها، لا يوجد وقاية من الموت، من المرض، من العجز، من الوحدة، فقط تحضر تلك المعاني بشكل أكثر رعبًا بعدما صار القاص أبًا، بعدما تحول من رجل عابر يتذوق الجمال وحده، لإله لابد أن يُقدم العالم لأطفاله، يحميهم من رعبه، ويُعبد لهم طرقًا جمالية لوصال الحُسن فيه
في قصتان هما الأجمل في المجموعة «طواف» و«ضوء الصورة» نجد البطلة في إحداهما فقدت ساقيها والبطلان في القصة الأخرى فقدا البصر تدريجيًا، عندما فقد الزوج البصر كليًا بعد زوجته توحد مع ظلامها، مع طريقتها في وصال الأشياء بالسمع واللمس، عندما عاش عبر عاهته وسيط العجز ذاته تمكن من وصال زوجته، رآها مجددًا دون نور
«هل يراها حقًا أم أنهما معًا في العتمة، كان يراها أمامه بعيني رأسه أو بعقله ، لا يعلم، وكانت تنظر إليه بابتسامته التي طالما أسرته، جالسة أمامه بكامل وضوحها رغم أن مصباحًا واحدًا لم يكن يضيء الغرفة» هنا الجمالية تنتصر على البصر الذي يُعرفنا على كل صور الجمال
وفي قصة طواف بعدما فقدت قدميها لا تسير البطلة إلا في أحلامها، لكن أحلامها دومًا رهينة ما يعرفه عقلها من أماكن، لو إنتهت ذخيرة الأماكن من حياتها السابقة سينتهي مشي الأحلام.
لا يُراهن القاص في النهاية على حكاية ملحمية تهزم الموت والوحدة والفقد والمرض، إنما يُراهن بشعرية فرضت حضورها على النص والقصص على قُدرة الشاعر على تمرير كل ما يمر به في إستعارة جمالية تُخفف وطأته، تجعل العمى طريقة لوصال المحبوب مُجددًا وتهمس لنا أن كل جمال ندخره في وجداننا سوف نحتاجه، فالمرء يمتلك سعته بقدر ما مر به، ويمتلك أحلامًا مادتها هو ما عاشه حقًا، فهل عشت حقًا ما يكفي لتمتلك زاد الأحلام؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وكاتب مصري
المجموعة صادرة مؤخرًا عن دار الكتب خان ـ معرض القاهرة للكتاب 2023
روائي وكاتب مصري
المجموعة صادرة مؤخرًا عن دار الكتب خان ـ معرض القاهرة للكتاب 2023