“تمثّل الاحتفال وتحطيم المواضعات.. قراءة فى أعمال ليحيى الطاهر عبدالله”

يحيى الطاهر عبد الله
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.حسين حمودة 

أولاً: المدخل الاحتفالى وتحطيم المواضعات
(1)
تنهض أعمال يحيى الطاهر عبد الله (38- 1981)، فيما تنهض، على محاولة تحطيم المواضعات، على أكثر من مستوى، فهى أعمال تصور أشكالاً متعددة للتمرد على الأعراف والمواضعات القبلية، والاجتماعية عمومًا، والطبقية، وتمثل محاولة لتجاوز “المواضعات الفنية”، بل إن هذه المحاولة محور أساسى فى العالم الفنى لأعمال يحيى الطاهر، عبر المسار الذى قطعته، وعبر مراوحتها، المستمرة والمتصلة، بين الاستفادة من المنجزات الفنية المتحققة فى الفن القصصى والروائى الحديث، وبين التمثل الخاص لجماليات الإبداع الجماعى الموروث.
ابتداءً من قصتيه “جبل الشاى الأخضر” و”طاحونة الشيخ موسى” (بمجموعته الأولى “ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً” 1970)، إلى معظم قصص مجموعته الثانية “الدف والصندوق” (عام 1974)، وروايته الأولى “الطوق والأسورة” (عام 1975)، يمكن بسهولة ملاحظة وجود معالجة متنوعة لمحاولات التحرر من أسر الأعراف والمواضعات القبلية والاجتماعية، فى عالم جنوبى مغلق محدد، وفى مجموعته “حكايات للأمير” (عام 1978) وقصته الطويلة “حكاية على لسان كلب” (عام 1980)، يمكن تعرف المعالجة المتعددة لنزوع بعض الشخصيات، الفردية، للقفز على المواضعات الطبقية المفروضة عليها، وانتهائها بما يشبه الاحتفاء بـ”المغزى الأخلاقى” المعتمد فى الحكايات الشعبية إلى سقوط أخير. وفى القصص القصيرة جدًا بمجموعته “الرقصة المباحة” (التى نشرت عام 1983، بعد وفاته) يمكن اكتشاف أن “المواضعات” التى تم تصوير اصطدام الشخصيات بها، ومحاولة التمرد عليها، قد أصبحت تمتد لتشمل “الواقع الحضارى” بأكمله، حيث ترتبط هذه القصص، وهى آخر ما كتب هذا الكاتب، بتجسيد ما يشبه هاجس الانسحاب من “المواضعات الحضارية” كلها، والحنين المشوب بنزوع بدائى إلى عودة مستحيلة إلى رحم أول، خارج الزمان والمكان، متلق شامل، ومدمر شامل.
(2)
وفضلاً عن هيمنة فكرة الاصطدام بالمواضعات بأنواعها، ومحاولة التحرر منها فى قطاع كبير من أعمال يحيى الطاهر، فغالبية هذه الأعمال تتحقق من خلال اعتماد طرائق فنية تستكشف سبلاً متعددة لتجاوز “مواضعات الكتابة” القصصية والروائية، المتعارف عليها، حيث تتجه المغامرة المحورية لهذا الكاتب اتجاهين أساسيين: أولهما يتمثل قصصيًا تقنيات القصيدة الغنائية الفردية (وهذا واضح فى قصص مجموعتيه “أنا وهى وزهور العالم”، و”الرقصة المباحة”)، وثانيهما (الذى يسيطر على باقى أعماله، كلها تقريبًا) يتمثل جماليات الإبداع الجماعى الموروث، تمثلات متنوعة، من حيث صياغات الراوى، الزمان، المكان، الحدث، الشخصيات، ومن حيث الاحتفاء بـ”الأمثولة”، والجنوح إلى تجسيد ما هو مجرد.. إلخ، ومن حيث اللغة القصصية والروائية بوجه عام، فيصبح لهذه التمثلات الحضور الأكبر فى العالم الفنى لهذه الأعمال.
وهذه المغامرة باتجاهيها، تقذف بالمشروع الفني، كله لهذا الكاتب، خارج الأطر التى تم تقعيدها حول العناصر الفنية، القصصية والروائية، فى الموروث القصصى والروائى التقليدي، من حيث هى أطر مؤسسة على تجارب بعينها، تحققت فى سياقات بعينها، ولا ينبغى أن تغلق الأبواب دون كل محاولة للخروج منها، والخروج عليها، سواء باستكشاف كيفيات أخرى جديدة، لتحقق هذه العناصر، أو بإعادة اكتشاف وإعادة خلق الجماليات المنفية، المنسية أو المغيبة- بفتح الياء وتشديدها- فى الموروث الجماعى، القديم المتجدد، بأشكاله المتنوعة، أدبية وغير أدبية.
(3)
نتوقف هنا عند عملين من أعمال يحيى الطاهر عبدالله  “الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة” ، و”تصاوير من التراب والماء والشمس” ) ارتبط فيهما تحطيم المواضعات بتمثل تقنيات العالم الاحتفالى (ونقصد به مدخلاً موازيًا لما أسماه ميخائيل باختين العالم الكرنفالى، مستفيدين استفادة أساسية من تحليله للمفاهيم الكرنفالية التى انتقلت للكتابة الروائية)، حيث قام هذان العملان على تمثل جماليات الاحتفال التى يمكن أن تتحول لتقنيات أدبية، وعبَّرا عن عالم نهض على مراوحة أساسية بين “جنة مؤقتة”، و”جحيم دائم”، فى نوع من “رد الفعل” الفنى إزاء “زمن إطار” أو “زمن مرجع” بعينه، فى فترة السبعينيات فى مصر. وقد خضع لهذا الزمن الإطار فى تحققه فنيًا – كما خضعت مواضعات العناصر الفنية: المكان، الشخصيات، الحدث، الزمان، الحوار، اللغة… إلخ- إلى قوانين العالم الاحتفالى، الاستثنائية، التى تحطم بطبيعتها كل ما هو مألوف، مكرس، متعارف عليه.
(4)
يحدد باختين ثلاثة جذور رئيسية للصنف الروائى الأوروبى: ملحمى، وبيانى متكلف، وكرنفالى. ويرصد نمطين من أنماط الحياة عاشهما إنسان القرون الوسطى:
أولهما رسمي، جدى عابس، خاضع لنظام قائم على التراتب الاجتماعى، والثبات، والانفصال، والخضوع والخنوع، والتعصب.
والثانى “سوقى”، متحرر من كل صفات الأول.
ويؤكد باختين أن الكرة موقف شعبى تكونت سماته عبر عشرات القرون يحرر الإنسان من الانصياع والخوف، ويدمجه فى العالم، ويدمج العالم فيه ويرصد باختين عددًا من الاحتفالات الأوروبية فى العصور الوسيطة، ومن أهمها ما يسمى كرنفال “عيد الحمقى”، الذى كان يتم فيه تنصيب ملك أو قسيس أو أساقفة مهرجين من أفراد الشعب (بشكل مازح، يسخر من الملوك ورجال الدين خارج الاحتفال)، ليكشف أن هذه الاحتفالات جميعًا كانت تخرج عن “خط الحياة” المعتاد، وفيها كانت تقام “حياة مقلوبة”: فالقوانين والمواضعات والمحظورات والقيود التى تعمل دائمًا على تكريس علاقات الحياة الاعتيادية، كلها تلغى فى زمن الكرنفال، فتنتفى التراتبية الاجتماعية وآداب السلوك وكل أشكال التمايز بين الناس، وتسم العلاقة الحرة كل شيء، ليبرز كل ما كان خفيًا ومعزولاً، على مستوى المواضعات القائمة خارج الكرنفال. فالكرنفال “يقرب، ويربط، ويوحد”، وكل صوره صور “مزدوجة الوحدات”. وفى الحياة الكرنفالية الاستثنائيية المؤقتة، ينتفى الزمن العادى، التأريخى المطرد للأمام، ليحل محله الزمن “المغير لكل شيء، والمجدد لكل شيء” .
ويشير باختين إلى تراجع الحياة الكرنفالية فى أوروبا على مستوى التحقق الواقعى، ابتداءً من القرن السابع عشر، وإن بقيت للكرنفال مشتقات متأخرة، مثل “خط الحفلات التنكرية، والمساخر الماجنة ، قبل أن يحلل انتقال عناصر الكرنفال، ومفاهيمه الأساسية، إلى الأدب، حيث أصبحت هذه العناصر والمفاهيم مادة هائلة للتمثل، أو لإمكانية التمثل، فى الكتابة الأدبية.
من هذه العناصر والمفاهيم يشير باختين إلى: التنوع الأسلوبى، ومزج السامى بالوضيع والجاد بالمضحك، وإسقاط الزمن البيوجرافى التأريخى وتركيز الحدث فى نقاط الأزمات والتحولات والانعطافات والكوارث، وأشكال المحاكاة الساخرة للمأثورات وللنصوص المقدسة، وحس السخرية الذى يمتد ليشمل كل أحد وكل شيء، والتعرية (تعرية النفس والآخرين)، والضحك (بما فى ذلك الضحك من غير صوت)، والصراحة المطلقة فى حوار الشخصيات، واعتماد مبدأ “تكافؤ الأضداد”، والغرابة بالقياس على ما هو معتاد. ومن السهل ملاحظة أن كل هذه العناصر والمفاهيم تعد تجاوزًا للمواضعات الفنية المتعارف عليها فى الكتابة التقليدية.
(5)
أصبحت الأشكال الاحتفالية، بعد تمثلها فى كتابة أدبية، وسائل هائلة لكشف مستويات عميقة فى الحياة الفردية والجماعية. وقد استفاد من هذه الأشكال أدباء عديدون، منهم، كما يرصد باختين: رابليه، سرفانتس، بوكاشيو، ديدرو، إدجار آلان بو، جوجول، دستويفسكي ، وإذا كانت ملامح “الروح الكرنفالى” قد اكتسبت سمات متباينة فى تمثلها عند هؤلاء الكتاب: واقعية، أو شعرية رومانتيكية، أو سنتمالية، أو مأساوية.. إلخ، فإن السمات الكرنفالية تختلف عبر تمثلها من كاتب إلى آخر، بل قد تختلف من عمل إلى غيره عند الكاتب الواحد، كما نلاحظ فى العملين اللذين نتوقف عندهما من أعمال يحيى الطاهر عبدالله.
ثانيًا: “الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة”
(1-1)
تتكون “الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة” من سبع حلقات قصصية، تجمعها وحدة الشخصية المحورية- “إسكافى المودة”- ووحدة المكان، ووحدة “الزمن الإطار” أو “الزمن المرجع”. ومع كل ما يربط بين هذه الحلقات القصصية، فهذا العمل من أعمال الكاتب يثير مشكلة بتحديد الإطار النوعى له، كإطار متواضع عليه فى التقعيدات النظرية للشكل الروائى.
فكل حلقة من الحلقات السبع فى هذا العمل يمكن قراءتها بشكل منفصل. كما أن هذه الحلقات يمكن إعادة ترتيبها بتسلسل مغاير لتسلسلها القائم الذى وضعه الكاتب. وفيما عدا الحلقات الثلاث الأولى التى تبدو متراتبة على مستوى الحدث والزمن، فالحلقات الأربع الأخرى يمكن قراءتها بأى ترتيب. ولعل هذا هو السبب فى عدم وضع الكاتب أية أرقام أو عناوين على رأس كل حلقة من حلقات هذا العمل، واكتفائه بمجرد تكرار العنوان الأساسى للعمل ككل: “الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة”، فى بداية كل حلقة من الحلقات. وربما جعلت هذه السمة “النص” ينتمى لبناء مفتوح، قابل لحذف بعض حلقاته، ويقبل إضافة حلقات أخرى إليه.
وليس هذا نوعًا يمكن توصيفه بالتفكك داخل الشكل الروائى، كما كان الأمر فى بعض الروايات الأوروبية المبكرة التى كانت تتشابه مع مجموعات القصص، حيث كانت هذه الروايات تتضمن قصصًا فرعية بداخلها، وكانت هذه القصص الفرعية ترتبط “بأحداث القصة” (الرواية) الرئيسية وشخصياتها بطريقة محكمة” ، ولكن “الحقائق القديمة…”، من ناحية أخرى يمكن أن يرتبط بمهد الرواية الأوروبية فى الأزمنة الحديثة، أعنى هذا المهد الذى “شغله المحتال، والمهرج والأبله وغيرهم من الذين تركوا آثارهم على أسلوب الرواية” .
ليس ثمة تفكك روائى هنا، فليس ثمة “رواية” أصلاً، بل هنا نص مفتوح قائم على التفاعل بين شكل كل من القصة والرواية . وفى هذا النص الذى يضم تجارب وأحداثًا متعددة حول عالم واحد وشخصية واحدة، يوجد نوع خاص من الوحدة الإطارية التى تتغاضى عن التسلسل الزمنى أو التراتب المنطقى. تقع دوائر شبه مستقلة، داخل هذه الوحدة الإطارية، هى الحلقات السبع فى العمل. وفى مركز كل دائرة/ حلقة، من هذه الدوائر/ الحلقات، تقوم شخصية “إسكافى المودة” بوصفها شخصية رئيسية.
(1-2)
تجمع “الدورات- الحلقات” السبع فى “الحقائق القديمة” بين عناصر صياغية فنية متعددة، متباعدة على مستوى انتمائها إلى أشكال موروثة. فمع البعد الواقعى المتمثل فى الارتباط بالزمن الإطار، والمتجسد فى بعض الأحداث، هناك اعتماد على المبالغة الساخرة، والفانتازيا، والأحداث، هناك اعتماد على المبالغة الساخرة، والفانتازيا، والأحداث الخرافية، وصياغة الشخصية التى تستعيد صياغات “الأبطال الساخرين” فى مناطق متعددة من الموروث القصصى العربى والإنسانى.
وغالبية هذه “الدورات- الحلقات” السبع، التى يجمعها راوٍ واحد موازٍ للشخصية المحورية، تبدأ بشخصية إسكافى المودة الذى يبحث دائمًا عن طريق الاحتيال غالبًا عن كيفية أو وسيلة يتمكن بها من شرب الخمر، كما أن أغلب هذه “الدوائر- الحلقات” تنتهى به أيضًا.
وعلى مستوى التراتب الزمنى المرتبط بتراتب الأحداث، فى هذه “الدورات- الحلقات”، نجد أن الأولى تقع أحداثها فى ليلة ما، والثانية فى فجر هذه الليلة، والثالثة بعد أسبوع، أى أن هذه الدورات الثلاث الأولى قائمة على نوع من التعاقب. ولكن الدورات الأربع الأخرى تشكل كل واحدة منها دورة جديدة، منفصلة عن سابقتها ومستقلة عنها زمنيًا.
ولكن فى هذه الدورات السبع جميعًا، تظل “الخمارة” هى البؤرة الأساسية التى تتفرع منها، أو تتفرع فيها، الأحداث، سواء فى داخل الخمارة نفسها، أو فى الخارج المرتبط بها.
فالإسكافى فى الدورة الأولى يكون قد خرج لتوه من الخمارة. وفى الدورة الثانية يكون أيضًا قد خرج لتوه منها. أما الدورات الخمس الأخرى فتقع معظم أحداثها داخل الخمارة.
(2)
“الخمارة” مكانًا، بهذا المعنى، تصبح البؤرة الأساسية فى بناء عالم “الحقائق القديمة..”، كما يصبح “الإسكافى”- على مستوى الشخصيات- البؤرة الأساسية فى هذا العالم.
“السوق”، و”الدكان” مكانان آخران يشار إليهما كثيرًا، ولكنهما يظلان بمثابة مكانين مؤقتين- أشبه “بمحطتين”- للوصول إلى الخمارة. ويضاف إليهما أيضًا، بدرجة أقل حضورًا، كل من باب بيت الإسكافى (بما يرتبط به الباب، عموماُ من علاقة انتقالية استثنائية على مستوى الزمن) الذى يتوقف عنده مرتين فحسب، والمحفز الذى لا نراه ولكن فقط نعرف أن الإسكافى قد سبق إليه وقضى به أسبوعًا.
“السوق” و”الدكان”، وباب بيت الإسكافى، و”المخفر”، كلها تنتمى إلى “جحيم” العالم بالنسبة للإسكافى، بما تفرضه كل هذه الأماكن عليه من إحساس بالتعاسة والاغتراب وفقدان التواصل والألم. بينما الخمارة وحدها، “جنة” هذا العالم، بما تحمله له من وهم بالسعادة والتواصل مع الآخرين، والتحقق. الخمارة هى المأوى الحقيقى له. والخروج منها فى حقيقته، خروج إلى الضياع وفقدان المأوى.
فى “الخمارة”، المقابل الفنى هنا للساحة الاحتفالية، يتم إهدار القوانين الصارمة، والمواضعات، والمحظورات، والقيود التى ترتبط بنمو الحياة العادية، لكى يصبح بمساعدة الخمر، قانون التعامل بين السكارى القانون الوحيد. هنا فى الخمارة يحقق الإسكافى مع أصدقائه، أو مع الذين يشاركونه أو يشاركهم الشراب، حياتهم الخاصة، وإن كانت مؤقتة، وتواصلهم الخاص، وإن كان مؤقتا أيضًا. ومن خلال هذا التواصل وهذه المشاركة، تقترب الخمارة من أن تكون “يوتوبيا” وهمية، وتصبح محاولة للإمساك بالإنسان فى خروجه على كل ما يفصله عن الآخرين، ويقيم بينه وبينهم الجدران على المستوى الحقيقى والمجازى معًا، خاصة فى عالم المدينة الذى ينهض على هذا الانفصال.
وفى “اليوتوبيا” الوهمية تسقط أشكال التقسيم بين الشخصيات ويندمج الفرد فى “وحدة وثيقة”. الإسكافى يجلس مع العربجى والتاجر والخياط و”المعلم” الثرى وسمسار الشقق (وكلهم مسلمون)، واليونانى المسيحى يقدم المشروبات للجميع، ويبدو شخصًا حميمًا للجميع، وهكذا، وإن ظلت “الحسابات” التى تنتمى لجحيم العالم قادرة على أن تتسلل إلى هذه اليوتوبيا، فهذا جزء من تأكيد طابعها الوهمى.
ويؤكد الطابع الوهمى لهذه اليوتوبيا، من ناحية أخرى، أن الخمر التى تسقط الفواصل فى وقت ما، هى نفسها التى تجسد هذه الفواصل، بشكل أكثر وطأة، فى أوقات أخرى. فالخمر التى “تجلب الفرح فى حين”، هى نفسها التى “تجلب الحزن فى حين”، كما تؤكد هاتان الجملتان من “تصاوير من التراب والشمس”.
كذلك تأخذ الخمر طبيعة مزدوجة، حيث تصبح أداة للتجاوز المؤقت للمواضعات الطبقية وأداة للتعبير عنها وتأكيدها فى آن: “ذلك بشرب لأن معه مال (كذا).. وهذا يشرب وليس معه مال.. والذى يشرب لأنه لا يملك مالاً.. وذلك الذى يشرب لأنه لا يملك مالاً” (الحقائق القديمة..- ص 114). يضاف إلى هذا أن الخمر التى يشربها الإسكافى، عادةً، هى فى النهاية خمر “رديئة” “مغشوشة”، تسبب الأمراض، وتجعل الواهمين المنغمسين فى جنتهم الاحتفالية المؤقتة يفيقون من تأثيرها على صداع.
إن الخمارة بهذا المعنى هى التكثيف الفنى الاحتفالى لكل الأماكن، وزمنها كما سنرى، تكثيف لكل الأزمنة، والخمارة، بذلك هى إسقاط ونفى لكل الأماكن. وكل الأزمنة.
(3)
تقوم صياغة شخصية الإسكافى على مبدأ “تكافؤ الأضداد”، وهو مبدأ جوهرى فى البنية الاحتفالية، إذ تجمع هذه الشخصية بداخلها بين الحماقة والحكمة، بين الجدية والطابع الساخر، بين الأنانية وإنكار الذات، ويقترن فيها الخير والشر، والقدرة والعجز، جميعًا.
هذه الصياغة المركبة ترتبط من جانب بكون هذه الشخصية امتدادًا لصياغات شخصيات متعددة فى الموروث الشعبى والكلاسيكى، فى الأدب المحلى والإنسانى، كما ترتبط من جانب آخر، بعمل الكاتب الذى أضاف إلى هذه الصياغات إضافاته الخاصة. إن هناك ما يربط شخصية الإسكافى بأبطال “الديكاميرون”، فى سعيهم للاستمتاع والراحة، ونأيهم عن الإحساس بالمسئولية إزاء واجبات ما، وهناك ما يربط شخصية الإسكافى بنوع خاص من الشخصيات انتشر فى العديد من حكايات “الشطار والعيارين” العربية، كان “يتوسل بالحيلة والمخاتلة والدهاء فى خداع الناس ، وهناك ما يربط شخصيته- الظريفة، المحورية فى العمل- بتلك الخصيصة التى ارتبطت بالمقامات العربية، وتعلقت بوجود “رواية” أو “بطل” ظريف، محورى. والإسكافى يرتبط، من خلال سعيه لكشف التناقضات والزيف من حوله، بشخصيات المحتالين فى أدب الاحتيال عمومًا، الذى كان فى مجموعه “سخرية مرة من الزيف الاجتماعى” . كذلك ترتبط صياغة شخصية الإسكافى ببعض الشخصيات الفنية الشعبية، مثل شخصية “على الزيبق” فى (ألف ليلة وليلة) وفى سيرته، ولكن الآصرة الواضحة بين شخصية الإسكافى والشخصيات الفنية الموروثة، هى تلك القائمة بينه وبين شخصية “معروف الإسكافى” فى “ألف ليلة وليلة”، وإن كان الكاتب يقيم بين الشخصيتين نوعًا من “التمثل المقلوب” .
ولكن مع كل هذه الأواصر التى تربط شخصية “إسكافى المودة” بشخصيات موروثة، لأن لها خصوصية تميزها عن هذه الشخصيات، إذ إنها لا تقوم على صفات أحادية الاتجاه (شأن معظم الشخصيات الموروثة)، فهناك ما يربطه أيضًا بالشخصية المسماة “ابن البلد”، والشخصية المسماة بـ”الفهلوى” (وفى الخصال المعروفة عنهما ما يشير إلى الجمع بين عدة صفات متناقضة ، مما يتجاوز الأحادية المشار إليها)، كذلك يظل إسكافى المودة خارج نطاق المحتال غير المرتبط بأية أخلاق (كما عرفته الرواية الأوروبية خصوصًا)، الذى لا يعرف “الندم” (فالإسكافى “يحاسب نفسه على سوء أفعاله”- انظر الدورة الأخيرة فى “الحقائق”..).
إن هذا “التركيب” فى صياغة شخصية الإسكافى، فضلاً عن ارتباطه بمنجز الرواية الحديثة التى تجاوزت أحادية الرواية الرومانتيكية، يرتبط بصياغة احتفالية ممثلة فى المبدأ المشار إليه.
وحسب هذا المبدأ، يمكن فهم كشف الإسكافى للتناقضات من حوله، بصراحة مطلقة، وفى الوقت نفسه إقامة حياته كلها على أكاذيب لا تنتهى، فمثل هذا التناقض يرتبط بمنطق الاحتفال، حيث يصير كل شيء فيه، الحقيقة واللهو والجدية وصغار الأمور وكبارها، بلا رقيب يميز بين “الصواب” و”الخطأ كما يتم التواضع على معايير كل منهما خارج الاحتفال، بل تصاغ لهما معايير أخرى، احتفالية، مختلفة.
(4)
يمتزج فى أحداث “الحقائق القديمة..”، على نحو فريد، ما هو واقعى وخرافى وحلمى معًا، فمع كل الأحداث الواقعية فى هذا العمل، نجد أحداثًا تنتمى لعالم تناسخ الأرواح، وتحولات الكائنات، مع بعض الأحداث التى تنتمى للحكاية الخرافية، ومن هنا تبدو أحداث هذا العمل مرتبطة بعنوانه الرئيسى المتكرر مع كل دورة من دوراته، إذ يبدو عالم “الحقائق القديمة..” كأنه محاولة للارتداد إلى ذلك العالم القديم الخرافى، الذى لا يزال “صالحًا لإثارة الدهشة”، والذى يطفو على السطح مرة، أو مرات، أخرى، حين لا تستطيع “الحقائق” الراهنة، ولا المنطق القائم، أن يفسر موقفًا ما فى “واقع” يتجاوز بتغيراته كل منطق.
هكذا نجد المخمور الواقع على الأرض، عندما يواجهه الدركى، “يرتد” عقله إلى “الحقائق القديمة” فيحتال على الموقف ويتحول إلى حجر (“الحقائق القديمة”، ص 59)، وهكذا نجد المخمور نفسه، فى موقف آخر، يستعين بشيطانه فيتحول إلى خروف (ص 64)، ثم يفارقه هذا الشيطان بمجرد أن يذكر اسم الله، فيتحول مرة أخرى إلى آدمى يضاجع زوجة الدركى.. إلخ.
هذا المنحى الخرافى الذى يتخلل أحداثًا واقعية، الذى نجده فى سرد الراوى، نجد منحى آخر مرتبطًا بمستوى “حلمى” يتواشج مع الأحداث الواقعية ويتداخل معها. يلخص هذا التداخل ما يقوله “الإسكافى” “للأفندى”: “تلك هى الدنيا يا سيدى الأفندى: حلم كالحقيقة وحقيقة كالحلم” (ص 114). ومن هذا المستوى نجد تلك “الرؤيا” التى يقصها الإسكافى، بلغة تتمثل لغة الإنجيل ولغة بعض المتصوفة، والتى عاشها أو رآها وهو حبيس بالمخفر: “نظرت من عين فرأيت النور فى البحر ورأيت كل من اقترب من البحر احترق. مر الوقت بظلام ونور وظلام ونور (…) وسمعت الرجل يقول لى انظر (…) ورأيت بعينى هاتين كومة المال يحترق، ورأيت الشوارع تقطعها الشوارع” (“الحقائق القديمة…” ص 115- وهذا التشديد وكل التشديدات التالية من عندنا).
(5)
من المقطع الأول، فى “الحلقة- الدائرة” القصصية الأولى فى “الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة”، نواجه المفارقات والتناقضات ومبالغات القص الاحتفالية: “حين رأى- وقد أنهكه السير الطويل وكان يصعد من الأسفل إلى الأعلى (المطعم الفاخر بواجهات من زجاج، والرجل السمين القصير وصاحبته التى تلبس بالطو من فرو الدب- يأكلان عجلاً مشويًا وديكًا روميًا وطاووسًا محشيًا وحوتًا مقليًا، بعد أن شربا- من جيد الخمر تسع زجاجات.. وأمامهما تورتة الحلوى على شكل شاحنة وبحجم شاحنة).. صرخ هو الجائع الحافى العارى- صرخته الأخيرة، وارتمى فى حضن أمه الأرض ليستريح (“الحقائق القديمة..” ص 83).
هنا مع بنية الصورة الاحتفالية التى تسعى إلى أن توحد بداخلها كلا قطبى التناقض: الجوع والتخمة، العرى و”البالطو من فرو الدب”، الأسفل والأعلى.. إلخ، نجد- ضمن عناصر هذه الصورة الاحتفالية- تلك الغرابة بالقياس لما هو عادى، والمبالغة فى التصوير مع الميل إلى ما هو كوميدى وساخر، لكنه ينطوى على مفارقة مأساوية مرتبطة بالتناقض الطبقى الصارخ، فضلاً عن انعكاس أحد القطبين فى الآخر (انعكاس العالم داخل المطعم الفاخر بما فيه ومن فيه- من طعام كثير ومن شخصيات متخمة- فى بصر ووعى الإسكافى – الجائع المنهك الحافى العارى- خارج المطعم)..
وكل هذه العناصر أساسية فى الصورة الاحتفالية، التى ينعكس فيها القطب العلوى فى القطب السفلى (حسب “مبدأ الهيئات فى ورق اللعب”- بتقريب باختين)، حيث يجتمع طرفا التناقض، وينظر أحهما فى وجه الآخر.
(6)
يقوم مفهوم “التعرية”، الاحتفالى، أو الصراحة التى لا تتقيد بالمجاملات، بوصفه عنصرًا أساسيًا من العناصر التى ينهض عليها تجسيد العالم القصصى فى “الحقائق القديمة..”، ويقوم الإسكافى بدور أساسى فى هذه التعرية، بما يعرفه عن نفسه وعن الآخرين، وبما يطرحه دائمًا وبدون سياق غالبًا- عن نفسه وعن الآخرين.
فمعظم الأحداث والوقائع والمعلومات التى نعرفها عن الإسكافى (منذ أن جاء- على سطح قطار يحمل الفحم- من قريته بالصعيد البعيد)، والكيفية التى يحيا بها حياته- حياة “القرد مكشوف العورة” (ص101 وما بعدها)- يقوم هو نفسه، وليس الراوى، بتقديمها لمن حوله، بشكل من أشكال التعرية والصراحة الملقة، التى تبدو- على مستوى ظاهرى فحسب- متناقضة مع “كذبه الاحتفالى”.
تمتد هذه التعرية- من حيث هى موقف احتفالى أصيل- لتشمل من حول الإسكافى أيضًا. هو يعرى نفسه كما يعرى الآخرين، والآخرون بدورهم يدخلون فى طقس التعرية- خاصة داخل الخمارة- فيعرى بعضهم بعضًا. إن عين الراوى التى ترى كل شيء لا تغفل شيئًا مما تراه، والراوى الذى هيمن على تراث الراوية الرومانتيكية، يتراجع هنا ليقدم “روايات” الشخصيات القصصية، وحواراتها القائمة على التعرية المتبادلة- هذا الراوى الذى يتم من خلاله، وبواسطته، تعرف التفاصيل المتعلقة بشخصيات العالم القصصى.
من تعرية الإسكافى القائمة على معرفته بالعالم من حوله ومعرفته بنفسه، نرى أبعاد هذا العالم القصصى الحافل، ونواجه مفارقات الواقع الجديد، الذى أفرزته فترة السبعينيات فى مصر، بتناقضاته المتفاقمة. نرى – اختصار العالم الطبقى في: “ناس تحب أكل الحيوانات، وناس تأكل لحم الناس، وناس لا تأكل لحم الناس ولا لحم الحيوانات” (ص 114)، ونرى معه، ومن خلال تخيلاته- التى تشبه الحقائق- قوانين “لعبة السوق”، التى تجعل من يحكم السوق “يحكم الدنيا” أو يشارك فى حكمها (راجع ص 121).
وتشارك الشخصيات القصصية فى طقس التعرية الاحتفالى بما يكشف عن مستويات أخرى فى عوالم وعلاقات هذه الشخصيات. فى الخمارة التى يجتمع فيها الإسكافى والمعلم والخياط وسمسار الشقق المفروشة، يدخل الجميع فى طقس التعرية، وسرعان ما تتهدم الجدران القائمة على الحفاظ على المواضعات الاجتماعية الكاذبة والمجاملات الزائفة ، فبعد النكتة الفاحشة التى يرويها الإسكافى، والنادرة الفاحشة التى يرويها الخياط، والضحكة الفاحشة التى يضحكها المعلم (والضحك موقف كرنفالى أساسى) الذى يرمى قلبه: “ريالين من فضة نقية على بلاط المكان” (ص 94)، يتصارح الجميع حول ما يرونه من واقعهم الخارجي، المؤلم، الجحيمى، الذى يحيط بهم، وحول ما يرونه فى أنفسهم.
وفى مرحلة أعلى من الحياة داخل الجنة الوهمية المؤقتة، وبسبب من تصاعد تأثير الشراب، تسقط الجدران بين هذه الشخصيات، ومع اكتمال طقس التعرية يجابه بعضها البعض، “فيفضح” الخياط المعلم، و”يفضح” المعلم الخياط (راجع ص 58).
(7)
يقوم العالم القصصى فى “الحقائق القديمة” على نوع من الجدل بين الفرد والجماعة، وهذا الجدل، فى تجسيده داخل “الحقائق”، يوازى جدلاً بين الوجود مع الخمر والوجود بعيدًا عنها. مشكلة الإسكافى، بعيدًا عن الخمارة والخمر، تكمن فى تساؤله الدائم وهو وحيد: “هذا يوم يحلو فيه الشراب.. لكن كيف؟”. وإجابته العملية عن هذا التساؤل (بتحايلاته، ثم نجاحه فى دخول الخمارة وتعاطى الشراب) ترتبط بتحقيق وجوده مع الآخرين الذين يتحايل عليهم ويشرب معهم، أى أن هذه الإجابة عن تساؤلاته، لا يمكن أن تتم بعيدًا عن الآخرين، ليس فقط لأنه لا يملك المال الذى قد يستطيع به الحصول على الشراب وتعاطيه بمفرده، وإنما أيضًا لأن عالم الاحتفال لا يكتمل إلا بوجود الآخرين.
إن انفصال الإسكافى عن الآخرين يرتبط أساسًا بوجوده خارج الخمارة، وإذا امتد هذا الانفصال إلى داخل الخمارة، فإنه يغدو انفصالاً عارضًا مرتبطًا باختلاف درجات التحقق التى يحياها الإسكافى، أى يغو اختلافًا بين الإسكافى بمجرد دخوله الخمارة والإسكافى بعد بداية تناوله للشراب، أى بالضبط يكون اختلافًا بين “الإسكافى الصاحى”، و”الإسكافى الشارب”: “وقال إسكافى المودة الصاحى لإسكافى المودة الشارب: ها هم يشاركوننى طاولتى بعدما اكتظت الحانة..” (ص 121). ولكن كل هذا لا يمنع أن يشعر الإسكافى أحيانًا، أنه بحاجة إلى أن يكون بمفرده: “إنى أفضل أن أكون بمفردى” (الصفحة نفسها) ولكنه يرصد رغبته هذه فى الانفصال عن الآخرين بوصفها رغبة طارئة عليه، وشعورًا غريبًا عنه: “.. آه من هذا الشعور الغريب” (الصفحة نفسها).
الطقس الاحتفالى الجماعى، فى الخمارة الذى تجسده “الحقائق..”، ليس طقسًا جديدًا بالنسبة للإسكافى، وليست الخمرة هى شرط تحققه الوحيد هنا، بل توجد بدائل أخرى ممكنة، (أو كانت ممكنة فى فترات أخرى خارج الزمن القصصى الذى تجسده “الحقائق..”) لهذا الطقس. يقص الإسكافى على “الموظف”- مستعيدًا زمنًا قديمًا- ذكرياته أيام كان جزءًا ضمن مجموعة أصدقاء يشعرون بغيابه عندما يغيب: “خفير ببندقية وساقى ورد وجامع قمامة”، وكانوا جميعًا يدخلون فى طقس الاحتفال الجماعى عبر طريق تظلله تاثيرات “الحشيش وخمرة العسل الأسود وجوزة الطيب”، حيث كانت جماعيتهم تمتد لتصبح نوعًا من “وحدة كائنات” وهمية، يمكنهم من خلالها أن يروا “للورد عيونًا كعيون الحيوانات” (راجع “الحقائق القديمة..” ص 102). وهذه الوحدة التى يشير إليها الإسكافى مسترجعًا “زمن الوقائع” القديم، بين أربعة أصدقاء يموت أحدهم، سوف يتم تناول وحدة موازية لها، بوضوح أكبر، فى رواية “تصاوير من التراب والماء والشمس”.
خارج طقس الاحتفال الجماعى، المؤقت، يبدو الإسكافى “كأنه محكوم عليه بالعزلة، فما إن يقترب من إنسان، ويلمس كل منهما فى الآخر شيئًا، حتى تقهرهما الظروف على أن يبتعد كل منهما عن الآخر مرة أخرى” لذلك يسعى إلى الاندماج مع من حوله داخل الخمارة، وداخل خمارة “مخالى” بوجه خاص. وإذ يدخل الخمارة يختار أقرب طاولة لبابها “حتى يراه كل داخل للخمارة ويمر به كل خارج من الخمارة.. الكل هنا يعرفه، وهو يعرف الكل” (“الحقائق القديمة..”، ص 93). وهو حين يعود إلى الخمارة، مثقلاً بالحنين إلى الاندماج فى الطقس الجماعى بعد أسبوع قضاه بالمخفر، يخاطب نفسه على باب الخمارة: “كل الطاولات مشغولة، أعرف الكل ويعرفنى: الكل هنا يعرف الكل- لهذا أفضل أنا خمارة مخالى” (“الحقائق..” 73).
وحين ينتهى طقس الاحتفال، ينتهى معه هذا الاتصال بين الإسكافى الفرد والجماعة، أى ينتهى شرط الاندماج بين الإسكافى والآخرين، وحينئذٍ يكون الإسكافى قد انتقل إلى “جحيم” العالم، وحيدًا يحدث نفسه، ووحيدًا يسعى، من جديد، إلى اندماج مؤقت آخر فى دورة أخرى مؤقتة.
(8-1)
الزمن فى دورات “الحقائق القديمة..” زمن احتفالى. ليس زمنًا قصصيًا بالمعنى المعروف، وليس زمنًا تراجيديًا، وليس زمنًا بيوجرافيًا يمكن التعامل معه بوصفه وحدات ثابتة. إنه زمن الخمرة، زمن انهيار الوقت، زمن التحولات الجذرية من الفرح إلى الحزن أو العكس. وهو أيضًا الزمن الذى يتم كسره والانتقال منه إلى زمن آخر، مفارق، غير احتفالى، فيما بين نهاية دورة وبداية دورة جديدة من دورات “الحقائق..”.
فى هذا الزمن الاحتفالى يختلط الزمن الحاضر والزمن المحتمل معًا: “هنا – بالعالم- الرجل المخمور العائد إلى بيته ماشيًا على يديه وقدميه، لما يصطدم بكومة اللحم سيقف، وينادى الدركى المكلف بحراسة المكان، ويخاطبه مخاطبة من لم يذق قطرة من خمر العرق الحارقة. يقول المخمور الذى لم يعد مخمورًا للدركى: من أى قرية أتى.. إلخ” (“الحقائق..” ص 75)، وفى هذين الزمنين الحاضر والمحتمل، تحقق الانفصال بين كون الرجل “مخمورًا” وكونه “لم يعد مخمورًا”، أى بين زمنه الاحتفالى وبين خروجه من هذا الزمن.
ونجد تغلغل الزمن المحتمل فى الزمن الحاضر، الذى ينتمى للزمن الإطار، أى لزمن “الجحيم”، وتعبير عن محاولة هذه الشخصيات المستحيلة لأن تحيا فى زمن “الجنة” الاحتفالى. وهذا التغلغل، الذى يعكس تداخل الأزمنة فى زمن واحد ليس تعبيرًا عن ثبات واستمرار قيم قديمة موروثة (كما هو واضح فى أعمال الكاتب الأولى)، بل يرتبط بسمة الزمن الاحتفالى من حيث هو زمن محوِّل لكل شيء، مجدِّد لكل شيء، زمن يحتوى كل الأزمنة التى تسقط فيه.
من الطبيعى فى هذا الزمن، أن تكون المقاييس المستخدمة فى تحديده مستمدة من الحد الفاصل بين بداية الاحتفال ونهايته. ليس هناك فى عالم “الحقائق القديمة..” أية إشارة إلى الوحدات الزمنية “المفتتة” المعروفة، التى تستخدم الساعات مثلاً لتحديدها. الإسكافى يعود إلى داره، حين يعود، عندما تهلل الديكة من فوق أسطح الدور (ص 63) وهو غالبًا الميعاد الذى (كانت) تغلق فيه الخمارة أبوابها. والإسكافى ينظر حوله فيرى النور الذى يهزم الظلام فيخمن الوقت (الصفحة نفسها). وهذا الإحساس بتغير الوقت، المقترن بالإحساس بنهاية الاحتفال، هو نفسه الذى نجده مثلاً فى بعض القصائد أبى نواس الخمرية التى يصبح فيها “هجوم الصبح” إيذانًا بوقت آخر، وعالم آخر، مغاير لوقت تناول الخمر وعالمها .
(8-2)
مع هذا الزمن الاحتفالى الخاص، تظل هناك إشارات لزمن عالم “الجحيم”، أو للزمن الخارجي- الإطار- الذى تدور فيه أحداث “الحقائق القديمة..” ومن خلال هذه الإشارات تتجسد التحولات التى تمت فى فترة السبعينيات فى مصر، حيث عالم التناقض المتزايد بين الأثرياء والفقراء، والغلاء الذى يستفحل، والقوادين، والموظفين الذين زحزحوا عن مكانتهم القديمة، والتهريب وتجارة المخدرات، والحلم بالسفر إلى بلدان عربية نفطية، واختراق سلك الحكومات وكسر الحدود.. إلخ.
هذا الزمن الإطار، يتجسد فى عالم “الحقائق..”، بالنسبة للشخصيات القصصية، كأنه “زمن القيامة”، أو “آخر الزمان” ، حيث يبتلى بمثل هذه الآفات “الخالق مخلوقاته كلما اقترب آخر الزمان” (“الحقائق القديمة..”، ص 103)، كما يشار “لآخر الزمان” هذا على أنه “زمن كلب” (ص 90). ولا مهرب من وطأة هذا الزمن، لدى شخصيات عالم “الحقائق..”، سوى بالانغماس فى الشراب، أى بالغياب فى الزمن الاحتفالى الوهمى:
“صرخ إسكافى المودة:
– دعونا لنشرب.. نحن فى آخر الزمان.
– وزعق خياط الخفة:
– – آه لنشرب.. إنه آخر الزمان.
– وبصق المعلم بصقة كبيرة:
– لنشرب.. ولنطلب الستر لبناتنا.. ولنسب آخر الزمان حتى يرحمنا الله” (“الحقائق القديمة..”، ص 95).
(9-1)
يتشبع حوار الشخصيات فى “الحقائق القديمة..” بطابع خاص احتفالى. ونلاحظ بوجه عام، أن هذا الطابع يبرز فى حوار الشخصيات داخل الخمارة، أى فى الأوقات التى تحيا فيها جنتها الاحتفالية. ومن هنا تبرز الصراحة المطلقة، والتعرية فى هذه الحوارات. بينما ينتفى الطابع الاحتفالى عن حوارات الشخصيات خارج الخمارة، حيث تتسم هذه الحوارات بالكذب، وبتقمص اللغة الرسمية المتكلفة، إذ تضطر الشخصيات للتعامل مع رموز تنتمى لجحيم العالم. وعلى هذا المستوى الثانى، نجد أن الحوار المحدد، بين شخصيتين محددتين، لا يصبح مجرد حوار بين شخصين، بلغتين اثنتين، فحسب، بل يصبح بنية مفتوحة لحوار أكبر، تتسع للغات أخرى يمكن أن تنتمى لدوائر ومؤسسات، وانتماءات اجتماعية، تتجاوز الشخصيتين المتحاورتين.
المخمور الذى يصادف الدركى رمزًا ممثلاً لجحيم العالم، يمكن أن يقوده إلى المخفر (بسبب سكره، أو بسبب إحداثه ضجة، أو لأى سبب مفتعل آخر)، يخرج من جنته الاحتفالية، ويزول عنه تأثير الخمر، فيخاطب الدركى بلسان من لم يذق قطرة واحدة من الخمر، متقمصًا لغة السلطة الدعائية ممثلة فى صحفها الرسمية: “أى مدن العالم تلك التى تدس لنا (…) وهل من جائع فى ربوع وادينا الخصيب!! هل من عراة فى بلادى.. وها أنت ترانى يا سيدى الدركى منتعلاً.. وها أنا أراك كذلك.. وكلنا منتعلون.. وسيد إقليمنا عادل”، ثم يحدثه عن “صحيفة اليوم” التى اشتراها، وضاعت منه، والتى رأى فيها، كما يقول، صورة “سيد إقليمنا”، “العادل” الذى يحمل ميزان العدل بيمناه- سلمت يمناه- ويسراه- سلمت يسراه- يلوح لنا نحن جموع شعبه الوفى الأبى الخالد” (“الحقائق القديمة..”، ص 57، 58) .
إن الإسكافى الذى أفاق مجبرًا لتوه من تأثير الخمر، لا يتقمص هنا لغة أخرى، قائمة على “الكليشيهات” الدعائية، بل يتقمص لغة كاذبة تمامًا. إنه لم يعد يرطن باللغة الرسمية التى ترطن عن “الوادى الخصيب”، و”المدن التى تدس لنا”، و”سيد الإقليم العادل” و”الشعب الوفى الأبى الخالد” فحسب، بل أصبح فى غمرة تقمصه لهذه اللغة، الدعائية يقدم صورة كاذبة حتى عن نفسه هو، فيفخر أمام الدركى بأنه “منتعل” غير جائع، رغم أن الراوى، الموازى له، قد ذكر فى الصفحة السابقة مباشرة أنه “جائع حافٍ عارٍ”! (انظر ص 56).
هذا المنحى الحوارى، الذى يقوم على نوع من تضمن كلام الشخصية لكلمات وتعبيرات الغير، وعلى التشبع بروح درامية (والذى يسميه باختين بـ”الحبكة الداخلية” للحوار، حيث تصبح الشخصية نفسها، ومن ثم لغتها تعبيرًا عن حضور لغات وشخصيات، أو “مؤسسات” أخرى) هو ما نجده عمومًا فى حوار الشخصيات خارج الخمارة وخارج الاحتفال (انظر حوار “الخياط” مع كل من “الإسكافى” و”المعلم” فى “السوق”- ص 90)، ولكن داخل الخمارة، عقب اكتمال طقس الاحتفال، تسقط من الحوارات كل الأقنعة والمجاملات، وتقمص تهذيب اللغات الأخرى، أى تسقط كل أشكال الحفاظ على المواضعات (انظر حوار الخياط مع الشخصيتين المذكورتين، قبل نهاية هذه الدورة، داخل الخمارة).
(9-2)
فى لغة الحوار، سواء الاحتفالى الصريح أو المشبع باللغة الرسمية الكاذبة، وفى لغة السرد جميعًا، تمثل “السخرية” ملمحًا أساسيًا، احتفاليًا أيضًا.
فى الحوارات “المشبعة بكلمات الغير” تتجسد المفارقة الساخرة المسماة بمفارقة “الكشف عن الذات، إذ تعرض صورة عن الذات مغلوطة، أو متعارضة مع الصورة التى كونها القارئ من معرفته بالحقائق الأخرى عن هذه الشخصية وبجانب هذا النوع من السخرية، فى لغة الحوار نجد أشكالاً أخرى من السخرية على مستوى لغة السرد، ويتحقق جزء من هذه الأشكال فيما تقوم به لغة “الحقائق القديمة..” من إعادة صياغة للعبارات السائرة المسكوكة، بصورة ساخرة، حيث- على سبيل المثال- عبارة: “لا وألف لا” تتحول إلى “وقالل: نعم وألف نعم.. هذا خروف لا صاحب له” (ص 64) .
كذلك لا ينفصل المنحى “التجسيدى”، الذى يلاحظ فى عالم الكاتب عمومًا، عن طابع السخرية فى هذا العمل، فمعاناة الإحساس بالبرد لعدة سنوات يتم تجسيدها هكذا: “مر علىَّ شتاء أصفر بأسنان: ومر شتاء يصفع القفا بالأقلام.. إلخ” (“الحقائق القديمة..”، ص 13). كذلك يتم تجسيد حالة السكر الشديد التى يصل إليها المخمور هكذا: “شرب وشرب وشرب حتى رأى جاره حمارًا ببردعة ورأى الساقى قطارًا بمدخنة يصفر ويمشى على قضبان” (ص 69).
عبر هذه الأشكال الساخرة، يتحقق ما يسميه باختين بـ”الضحك المختزل”، أو “الضحك من غير صوت”، من حيث هو عنصر من العناصر الاحتفالية الكرنفالية. وإذا كان هذا العنصر يتراجع إلى حد كبير، فى عالم رواية “تصاوير من التراب والماء والشمس” (التى سوف تتخذ طابعًا مأساويًا، حيث تبدأ بالموت وتنتهى به)، فإن العناصر الاحتفالية الأخرى تظل قائمة فى هذا العالم.
ثالثًا: “تصاوير من التراب والماء والشمس”
(1-1)
تستكمل رواية “تصاوير من التراب والماء والشمس” عالم “الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة”، ولكنها عمل مستقل بعنوان مستقل، كتب بعد سنوات عدة من كتابة العمل الأول ونشره، فهى تختلف فى بعض المستويات، مثل تحجيم الطابع الخرافى للعالم، والاتجاه، بدرجة أكبر، نحو التعين المكانى والزمانى، وتأكيد فكرة العلاقة، داخل الاحتفال وخارجه، بين الفرد والجماعة.
ولكن برغم هذه التباينات بين العملين، تظل الآصرة قائمة أساسية بينهما. ولا يجسد هذه الآصرة وجود “إسكافى المودة” شخصية محورية مشتركة بين “الحقائق..” و”تصاوير..” فحسب، وإنما يجسدها بشكل أساسى، استمرار الطابع الاحتفالى بين كليهما.
(1-2)
يشير عنوان الرواية (تصاوير من التراب والشمس) إلى محاولة استعادة مفردات عالم أولى، قديم، فاستخدام الطين (التراب والماء) مع حرارة (الشمس) هو الوسيلة البدائية الأولى التى صنع بها الإنسان بعض أدواته قبل اكتشاف النار . وقد كانت هذه المواد الأولية تشكل عناصر أساسية فى حياة الفقراء من المصريين القدماء (ومعظم الريفيين المعاصرين، أيضًا حتى وقت قريب)، فمن هذه العناصر- التراب – الماء، حرارة الشمس- كانوا يرسمون بعض لوحاتهم ويصنعون بعض تماثيلهم، ومنها – مع إضافة بعض “التبن”- كانوا يبنون بيوتهم .
ومع هذه الاستعادة لصورة أولية، ولعناصر أولية فى صنع الحضارة، يحاول العنوان أن يشير إليها، فهذا العنوان يرتبط أيضًا بالعناصر الولية للحياة، نفسها، التى توقف عندها الطبيعيون اليونانيون الأوائل ، كما يستعيد فى عنصريه الأول والثانى (التراب والماء)، مادة الخلق الأولى كما وردت فى التوراة والقرآن وعشرات الأساطير القديمة .
ومع كل هذه الاستعادات، والإشارات، لأوليات الحياة والحضارة والخلق، يسمح عنوان الرواية، دلاليًا، بتفسيرات عدة، ولكن مع التفسيرات المحتملة كلها يظل العنوان مرتبطًا بمنحى تعليقى خاص بالكاتب، الذى يحاول أن يجعل روايته، بمقاطعها القصيرة ومفتتحاتها، أشبه “بتصاوير” أو لوحات، مرتبطة بالمادة الأولية نفسها التى استخدمت عبر حقب عدة، فى مصر خصوصًا، استخدامًا واسعًا.
(2-1)
تتكون “تصاوير..”، من أحد عشر مدخلاً على لسان “إسكافى المودة”، وخمسة وعشرين مقطعًا رئيسيًا على لسان الراوى. وتنهض أحداثها على تفاعل وتداخل بين مداخل الإسكافى ومقاطع الراوى، حيث تتضمن المداخل، فى بعض المواضع، أجزاء من الأحداث الروائية، وتتضمن أحيانًا تعليقات على هذه الأحداث (بمنحى يجعلها تستعيد إحدى وظائف الكورس الإغريقى القديم التى ارتبطت بالتعليق على الأحداث أو باستخلاص العبرة منها). أما سرد الراوى (الذى يغطى، بالطبع، منظورًا أرحب من منظور الإسكافى الذى يمثل شخصية واحدة، وإن كانت محورية، ضمن شخصيات أخرى فى الرواية) فيتم فيه تجسيد الأحداث الروائية وتقديم الشخصيات.. إلخ.
وتتأسس بهذا التفاعل، جدلية واضحة بين ما هو “ذاتى” وما هو “موضوعى” فى الرواية، بين مداخل الإسكافى وبين مقاطع الراوى، ويتأسس الطرح الأساسى للعلاقة بين الفرد والجماعة الذى تقوم عليه الرواية، بأحداثها التى تنأى عن الطابع “الخرافى” فى “الحقائق القديمة..”، وتحل محه طابعًا واقعيًا، كابوسيًا أحيانًا، ملمحه الكابوسى جزء من ملامح “الواقع” نفسه، وهو واقع محدد، يتجسد- على مستوى الزمن الخارجى للرواية- بإشارات واضحة، تكاد تكون تسجيلية، لفترة السبعينيات فى مصر.
العلاقة بين مداخل الإسكافى، ومقاطع الراوى الداخلية، علاقة “استكمال”، من طرفين، لعالم واحد. إن الإسكافى يشير، فى مداخله، إلى بعض الأحداث التى يتم استكمالها فى سرد الراوى فى مقاطعه التالية، وتعليقات الإسكافى على بعض الأحداث ترتبط بما ذكره الراوى من أحداث فى مقاطع سابقة. والراوى يترك دور السارد فى بعض المقاطع ليحى بعض الحكايات الفرعية، التى تضىء بعض أحداث وعناصر عالم الرواية، أو تضيف أحداثًا وعناصر أخرى تستكمل هذا العالم (انظر الرواية، ص 36: 38).
(2-2)
من المقطع الافتتاحى الأول على لسان الإسكافى: (الناس بالناس.. والناس للناس، وصاحبى الطاعن فى السن فى كرب، فبعد موت ابنه ماتت أم ابنه صبح يوم الأربعاء، ووقفتى أمام الصاحب مرذولة- إسكافى المودة ص3) إلى المقطع الافتتاحى الأخير، على لسان الإسكافى (كنا أربعة.. ولم نعد أربعة.. وفى الذى جرى قولان وجرم له دافع وجنون حاصد.. وفى الذى جرى أسوأ ختام- إسكافى المودة، ص 51) تتضح لنا مفاتيح الدورة الوحيدة، التى يقوم عليها عالم “تصاوير..”، والتى تبدأ بالموت وتنتهى به. كما تتضح لنا، من ناحية أخرى، الإشارة إلى الرحلة الموازية التى قطعها الإسكافى من بداية الرواية إلى نهايتها، بكلامه بضمير المتكلم المفرد (وصاحبى- ووقفتى) إلى كلامه، أخيرًا، بضمير الجمع أو الجماعة (كنا لم نعد). وعبر مقاطع الإسكافى الأحد عشر، داخل الرواية، لن نجد استخدام ضمير الجمع سوى فى هذا المقطع الأخير، ولكن المقطع الأول يشير إلى هذه الرغبة فى الوقوف بجانب الصاحب، (وهى رغبة تنطوى على نزوع للتضامن الجماعى). وتتوزع أوجه الخطاب – فى اقتطاعات الإسكافى- بين المونولوج الذى يحدث فيه الإسكافى نفسه، وبين الخطاب الموجه لأشخاص قصصيين (أى لأشخاص هم جزء من “الجماعة” التى يكون الإسكافى، بنهاية الرواية، قد أصبح يتكلم بضميرها)، وبين الخطاب التعليقى لشخص غير محدد.
وفى المقاطع السردية، الخمسة والعشرين، التى تنتمى للراوى، والتى تتراوح أطوالها بين ثلاثة سور (المقطع الثالث)، وعدة صفحات (المقطع الخامس والعشرين)، تتداخل مستويات متعددة للسرد مما يجعل هذه المقاطع تتناول العلاقة بين الفرد والجماعة بمنظور أكبر من منظور الشخصية الواحدة كما أشرنا، وفى هذا المنظور الأكبر يتحقق العالم الاحتفالى فى الرواية على مستويات متنوعة، تشمل الشخصيات والأحداث والمكان والزمان واللغة السردية والحوارية جميعًا.
(3-1)
الإسكافى الذى بدا فى عالم “الحقائق القديمة..”، مراقبًا غير مبالٍ “يستمتع بسخريته الكلبية وبتعاليه المستتر المحاذر على كل ما يدور تحت بصره من وقائع وأحداث”، يتغير قليلاً هنا ليصبح “إسكافى المودة المشارك المقهور، ربما بسبب تخليه عن المشاهدة ومحاولته أن يفعل شيئًا” ، وهذا التغير يترتب عليه، فى الرواية، تجاوز التركيز الكامل على شخصية الإسكافى كشخصية محورية.
إن الإسكافى الفرد الذى لم يكن صريحًا مع أحد، متحايلاً على الجميع، فى عالم “الجحيم”، فى “الحقائق القديمة..”، يدخل فى علاقة حميمة مع “قاسم” و”رجب” و”فتح الله”، ويقوم فى عالمى “الجنة” و”الجحيم” معًا- بتعرية نفسه أمام هذه الشخصيات، ويقوم بمشاركتها بالتخطيط لتحايلاته وتنفيذها. وإذ يتخلى الإسكافى عن كذبه الخاص، وتحايلاته الخاصة، فى تعامله مع هذه الشخصيات، فإنه يتخلى عن أية مسافة يقيمها بينه وبينهم، فالكذب فى مثل هذا السياق، هو “معنى من معانى المسافة التى يقيمها “الأنا” بينه وبين الآخرين” .
ويرتبط نفى المسافة، بين الإسكافى وبين قاسم ورجب وفتح الله، بنفى المسافة بين كل منهم والآخرين، بما يشبه محاولة تحقيق “وحدة جماعية”، تنهض على تجسيدها الرواية، وهى وحدة تقترب فى تفاصيلها من فكرة “الخير فى الجماعة” على نحو ما تناولتها بعض الحكايات الشعبية القديمة وتقترب من فكرة “المؤاخاة” الشعبية فى الوقت نفسه.
فى خمارة مخالى، مع وصول الإسكافى وقاسم ورجب إلى ذروة الطقس الاحتفالى، بعد أن “تهدمت كل الحوائط: لحمة مشوية وخمرة وألفة جمعت أبناء مصر واليونان” (الرواية، ص 17)، “مد الثلاثة الأيدى فتشابكت، وأقسموا بالحى والميت والملح والخبز والخمرة- أن يعيشوا من اليوم حتى الممات أخوة واحدة وعصا واحدة فى مواجهة الغير والعدوان” (الرواية، ص 20)، ثم أقسم هؤلاء الثلاثة، فيما بعد “أن فتح الله الأخ الرابع والصاحب” (ص 48).
هذه الوحدة، أو هذه المؤاخاة التى تقوم على فكرة أولية لمواجهة التناقض الذى يواجهه الإنسان، بين “كونه “أنا” محدودة وكونه جزءًا من الكل فى الوقت نفسه” ، تتحقق فى عالم الرواية من خلال منحى خاص، لدى كل شخصية من الشخصيات الأربع، فالمؤاخاة بين هذه الشخصيات، فضلاً عن كونها مرتبطة باحتياج كل منها لقهر الانفصال، فى مجتمع قائم على التنافس الفردى الذى يصل إلى حد الافتراس، وبمحاولة كل منهم أن يقيم توازنًا بين فرديته ووجوده المحدود فى عالم كبير، وأيضًا فضلاً عن كونها وسيلة ما- فى تصور هذه الشخصيات- لدفع “عدوان الغير”، فإنها تتحقق أيضًا، فى الرواية، بوصفها اختبارًا للقيم الأخلاقية التى يتم تمثلها بمستويات وبأشكال مختلفة، لدى كل شخصية من هذه الشخصيات.
(3-2)
يبدو الإسكافى، من بين الشخصيات الأربع، الأكثر وعيًا بوطأة العالم من حوله، وبما تفرضه هذه الوطأة من ضرورة التضامن الجماعى، وهو يؤمن بأن هذا التضامن لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال عالم الخمر.
يشير الإسكافى فى مفتتح الرواية الأول، إلى أن “الناس بالناس، والناس للناس” (ص 3)، ويؤكد هذه الفكرة، مرة ثانية، عندما يؤكد لرجب أن “قاسم وحيد.. والوحدة مرة وصعبة، والناس للناس” (ص 12)، ولكنه لا يرى أن كون “الناس للناس” حقيقة يمكن أن تتحقق فى مكان آخر غير الخمارة أو بوسيلة أخرى غير الخمر، وفى تشبثه بهذه الفكرة يقتاد قاسم، ثم رجب، إلى الخمارة، ثم يقسم الثلاثة قسمهم على أن يكونوا أخوة ويدًا واحدة، ويضيفون فيه إلى القسم المعروف على مستوى الممارسات الشعبية بـ”الخبز والملح” عنصرًا ثالثًا، هو الخمر، التى يرى الإسكافى أنها وحدها القادرة على أن “تبعد الوحدة” (الرواية، ص 12).
على جانب آخر، يرى “فتح الله” أن الحشيش، وليس الخمر، هو الذى يمكن أن يكون ضروريًا لاكتمال عالم الاحتفال، ويدخل مع الإسكافى فى نقاش سجالى حول مزايا كل من الخمر والحشيش (الرواية، ص 41، 42)، وهو نقاش سجالى حول مزايا كل من الخمر والحشيش (الرواية، ص 41، 42)، وهو نقاش يعبر عن فهمين متباينين- عند كل من الإسكافى وفتح الله- لإمكانية اكتمال طقس الاحتفال الجماعى. وفى هذا الإطار يبدو، من ثم، رفض الخمر رفضًا للجماعية كما يفهمها الإسكافى، ويبدو رفض الحشيش رفضًا للجماعية كما يفهمها فتح الله.
إن تعليق تحقق “الجماعية” على وسيلة وهمية ما، خمرًا كانت أو حشيشًا، هو إشارة إلى الطابع الوهمى الذى تتحقق به هذه الجماعية فى الرواية. ويلوح موت قاسم فى نهاية الرواية، فى هذا الإطار، توكيدًا لعبثية هذه الوحدة الجماعية الوهمية، إذ يندفع قاسم، تحت تأثير هلوسات الخمر والحشيش معًا، إلى حيث تصدمه سيارة، وترميه تحت أقدام أصحابه “كتلة” من اللحم والدم” (الرواية، ص 56)، فيجبر أصحابه على أن يخرجوا خروجًا كاملاً، من جنتهم الوهمية المؤقتة، بخمرها وحشيشها جميعًا.
(4)
عبر تناقضات ومفارقات الواقع الطبقى الذى تحياه الشخصيات فى رواية “تصاوير..” التى يتخلل رصدها (بجانب الطابع الساخر الذى وضح فى “الحقائق..”) طابع مأساوى ما تتجسد وطأة العالم على هذه الشخصيات التى تبدو عاجزة عن التكيف مع هذا الواقع فى كل مستوياته، كما تبدو رافضة له حتى لو لم يكن رفضها أكثر من رفض لأشكال المعاناة الشخصية الواقعة عليها، أى أن هذا الرفض لم يصل إلى وعى متبلور شامل، يدفعها إلى تغيير واقعها. فهذا الرفض، برغم أنه يرتبط بقدر من الوعى بتناقضات الواقع، لا يخلو من تسليم يائس لقوة ما، مهيمنة، تكرس هذه التناقضات، وتدعمها، وتدافع عن وجودها.
وعى الشخصيات فى الرواية، “القائم” أو “الفعلى”، والذى لا يرقى إلى أن يصبح “وعيًا ممكنًا” ، يربط معاناتها بما حولها من أشكال للمعاناة المحيطة الواقعة على الفقراء المقهورين من حولها، ويمثل خطوة متقدمة قليلاً عن دجة الوعى المتحققة فى “الحقائق القديمة..”، ولكن من ناحية أخرى يظل هذا الوعى مرتبطًا بنبرة يأس مطبق إزاء تصور إمكانات تغيير الواقع، بحيث تبدو المعاناة وكأنها حكم مفروض لا يمكن الفرار منه. هنا، فى الرواية، إشارات عدة لقوة متسلطة باطشة، لا راد لها، ممثلة فى “الحكومة”، وهى إشارات تعد امتدادًا لإشارات أخرى فى عالم “الحقائق القديمة..”، حيث الإلحاح، هناك فى “الحقائق..”، على صورة “عيون الحكومة” التى ترى وآذانها التى تسمع، و”يده القوية” التى “من حديد” لما تعاقب ، وحيث الإلحاح، هنا فى “تصاوير..”، على إشارات متكررة إلى أن الحكومة مثل “السيف”، و”القانون حكومة والحكومة قانون” (الرواية، ص 21)، وإلى ضرورة الابتعاد عن “شر الحكومة” (ص 22)، وإلى صورة “المخبر” بوصفه قوة باطشة مستمدة من قوة الحكومة (ص 32)، وإلى أن الحكومة “صاحية ولها رجال فى كل مكان” (ص 32)، وإلى أن الحكومة “صاحية ولها رجال فى كل مكان” (ص 37) ولكل ذلك يجب تجنب هذه الحكومة، وكل رموزها، وكل ما ينتمى إليها وإن كانت الجماعة القصصية، فى نهاية الرواية، تجبر على أن تدخل “بيوت الحكومة المسماة مستشفيات” فى محاولة لإنقاذ حياة أحد أفرادها، وبصيغة تبدو أقرب لتجاوز خوفها المقيم من الحكومة، وها نحن فى يوم البلاء هذا نخوض معركتنا مع الموت من أجل حياة رابعنا بقلوب لا تخاف الحكومات” (الرواية، ص 57).
(5)
تشير أحداث رواية “تصاوير..” إلى زمن إطار، أو زمن مرجع، بعينه، وتنص على وقائع محددة، تنتمى لفترة بعينها، بحيث نجد نوعًا من تداخل الوقائع السياسية خصوصًا، مع بعض أحداث الرواية، فتعرف مثلاً أن رجب قد حصل على جهاز تسجيل (هو أغلى ما يملك، ويترتب على امتلاكه، أحداث روائية كثيرة) من ليبيا عندما سافر إليها، وأنه لا يستطيع أن يسافر إليها “الآن”- فى الزمن الروائى- بعد أن وقع السادات “معاهدة السلام” (فى كامب ديفيد) مع إسرائيل، وبعد أن أصبح الطريق إلى كل بلدان العرب مسدودًا ومحظورًا “وتقف على حدوده جيوش مصرية” (الرواية، ص 20)، أو نعرف أن قاسم “كريم العين”. كان قد فقد إحدى عينيه أثناء مشاركته فى الاعتصام بالجامعة مع إحدى الانتفاضات الطلابية (عام 1972 غالبًا).. وهكذا.
تحاول الشخوص الروائية أن تنأى عن كل ما يربطها بهذا “الزمن الإطار”، وأن تحيا زمنها الاحتفالى الخاص. فى بداية احتفالها، فى “خص رجب”، ترتبط بالزمن الإطار من خلال جهاز “راديو” ينقل لها بموجاته وأصواته و”محطاته” المتعددة- ما يدور بالعالم الخارجي، فى مصر والوطن العربى.
ولكن هذا الارتباط بالعالم الخارجى سرعان ما ينتفى، إذ إن هذه الجماعة “يركبها الرعب” من أن “تُضبط” وهى تستمع إلى بعض محطات الجهاز، فتطبق عليه ليهمس، ثم بدخولها فى طقس الاحتفال لا يصل همسه إلى آذانها، وبذلك تنقطع كل آصرة تربطها بالزمن الإطار.
(6)
لم تعد “الخمارة” فى “تصاوير..”- كما كانت فى “الحقائق…”- المكان الوحيد الذى يمكن أن يكون موازيًا لساحة الاحتفال القديم، بل أضيف إليها “خُصُّ” رجب. ففى الخمارة، وخص رجب معًا، تتجسد جنة العالم، بينما يرتبط جحيمه بكل الأماكن الأخرى.
فى الخمارة جنة العالم تسقط كل المواضعات الرسمية، والتحفظات، ويكتمل طقس التعرية بين الشخصيات، فيبوح قاسم “بنفس صافية قطرتها الخمر (…) بسر لم يبح به للراحلة شريكة عمره” (الرواية، ص 16)، كذلك يبوح الإسكافى “بسر يكتمه” (الصفحة نفسها)، وفى الخمارة يمكن أن يتحقق الضحك، بوصفه عنصرًا احتفاليًا: “ضحك الاثنان.. ضحكا بدموع.. فهاهما فى الحياة.. فى خمارة مخالى قاعدان يشربان” (الرواية، ص 17).
وعند الخروج، أو بالأحرى “الطرد” من “الخمارة- الجنة”، يكون الإسكافى قد قذف به فى قلب الجحيم يعانى قهر الانفصال وعدم التحقق، حيث يجلس على حائط متهدم- لاحظ الدلالة- بنته الحكومة فى سنوات الحرب مع إسرائيل، يخالب نفسه، ويلعن مخالى الذى طرده من الخمارة: “دنيا بلا خمارة لا تسمى دنيا يابن الكافرة” (ص 24) ويلعن الدنيا والناس، ثم يتحايل، مع رجب وقاسم، للعودة مرة أخرى إلى الخمارة.
وفى خص رجب الذى يمكن نقل “أدوات” الاحتفال إليه، يحضر فتح الله، مع “الحشيش” الذى يجب تدخينه، زجاجة خمر. وفى هذا الخص يكتمل، أيضًا، طقس التعرية والاعتراف (يعترف رجب، مثلاً بأنه يسرق حتى أكفان الموتى، بل حتى أكفان الأطفال الموتى)، ويتحقق الضحك الاحتفالى: “كانوا يشربون ويدخنون ويلقون النكات” (ص 55).
(7-1)
تقوم رواية “تصاوير من التراب والماء والشمس”، كما قامت “الحقائق القديمة..” على علاقة متنوعة بالموروث القصصى، وتتأسس على مستويات لغوية متعددة، يتم المزج بينها بصيغة احتفالية واضحة.
على مستوى العلاقة بأشكال متعددة من الموروث القصصى تقوم “تصاوير..” على ما لاحظناه فى “الحقائق” من صياغة الشخصية التى تستفيد من مناطق متعددة فى الموروث، كما تستفيد استفادة واضحة من بعض المواقف والتقنيات التى تنتمى “للمقامة” العربية القديمة. يتجلى هذا مثلاً فى الاهتمام بما يسمى بـ”النقد الاجتماعى” لبعض التجار وأسلوبهم فى الحياة، حيث يستطرد الإسكافى فى الحديث عن “زعتر”، البخيل الشحيح، الذى امتلك ثروة كبيرة من خلال استغلال الآخرين (انظر الرواية ص 37).
كما تتضمن الرواية، بنوع من اعتماد منطق “القص التفريعى” (الذى يحكم بناء القصص الفرعونى، والبنجاتنترا، وكليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، وحكايات كانتربرى)، الاستشهاد ببعض حكايات الحيوان.
ويرتبط بهذا علاقة “تصاوير…” بتراث “المساجلات” والمناظرات، التى ترتبط أحيانًا بمنحى ساخر، فى بعض أشكال الموروث العربى القديم، والتى وضحت فى بعض حكايات “ألف ليلة وليلة” .. ويتضح هذا فى النقاش السجالى، بين الإسكافى وفتح الله، حول تفضيل الخمر وتفضيل الحشيش (راجع الرواية ص 52)، وفى النقاش حول النسق الأخلاقى الذى يتمثل كل فرد من أفراد الجماعة، وهو نقاش تزدحم به الرواية، ويدور حول “الحلال”، و”الحرام”، والعدل والظلم، والمنفعة والطمع، والسرقات التى يحاسب الله عليها، والتى لا يحاسب عليها.
(7-2)
وتتصل لغة الرواية بمستويات عديدة تتمثل “علامات” لغوية فى الموروث القديم، مثل لغة الخمريات، ولغة الحوليات التاريخية، وبعض المستويات اللغوية القديمة التى ارتبطت ببعض الجماعات والحرف والفئات، فضلاً عن الاستشهاد بالأمثال الموروثة والعبارات المسكوكة، كل ذلك جنبًا إلى جنب اللغة التى تحيل إحالات واضحة للصياغة اللغوية الرسمية السائدة فى الزمن الإطار للرواية.
ومع كل هذه المستويات اللغوية، التى تمتد إلى أشكال متعددة من الموروث، وتجمع ألوانًا متعددة متنافرة من لغات العصر، تنهض لغة الرواية على مستوى مهم، مرتبط بحاضرها الزمنى، نجده واضحاً فى حضور بعض الصيغ اللغوية، الرسمية، فى فترة السبعينيات، مثل الإشارة إلى “معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التى وقعها باسم الله وبحمد الله الثلاثة الكبار كارتر والسادات وبيجن”، وإلى بعض عبارات مسكوكة، تعبر عن المؤسسات الرسمية، فى هذه الفترة: “رفع العناء إذا ما حل السلام”، و”لعن الحقد والحاقدين”، و”دولة العلم والإيمان” (راجع الرواية، ص 53).
(7-3)
فى تفاعل هذه المستويات اللغوية المتعددة، تتجسد اللغة السردية والحوارية فى الرواية، لغة احتفالية أساسًا، يتم الجمع فيها بين مستويات تنتمى إلى القديم والجديد، و”السامى والوضيع”، بكلمات باختين، كما ترتبط بانتماءات متناقضة (لغة المؤسسة الرسمية مع اللغة التى تتمثل صياغات ومفاهيم شعبية). وبجانب هذا نجد بعض الحوارات، فى الرواية، تتشبع بمنحى احتفالى خالص، حيث يتحاور الإسكافى ومخالى، فى مساومتهما حول ثمن جهاز رجب الذى يشتريه مخالى، حوارًا مبتسمًا يتم التلميح فيه إلى الدين بروح احتفالية.
يضاف إلى ذلك أن بعض العلاقات اللغوية، مثل “التكرار” أو “التوليد”، يتم توظيفها فى بعض المواقف الروائية لتأكيد هذا العالم الاحتفالى، بحيث لا تبدو هذه العلاقات كأنها مستهدفة بحد ذاتها، فيرصد الراوى “الطقس الاحتفالى” الذى كان قد اكتمل فى الخمارة عندما وصل إليها رجب، حيث كانت “كل الحوائط قد تهدمت”… إلخ (انظر الرواية ص 18). إن توليد بعض الصور من البحر، فى هذا المجال، ثم تكرار صفة “البعيد” هما تكثيف لغوى للحالة التى دخلها رجب، بعد أن دخلها أصدقاؤه، وهى حالة تمثل مرحلة متقدمة من مراحل الطقس الاحتفالى، وهذه اللغة التى تنتفى الفواصل بينها، بحيث تبدو جملة واحدة متصلة، وتتتابع فيها الأفعال بما يقرب من اللهاث، هى ما نجدها فى اكتمال الطقس الاحتفالى الأخير، فى خص رجب: “على صوت المغنيات والمغنين والخطباء والزعماء والطير والريح وأقدام المارة وأحذية الحرس المسلح وجدال الممثلين ودق الموسيقى، كانوا يشربون ويدخنون ويلقون النكات” (الرواية، ص 55). إن الفواصل التى تسقط، على مستوى عناصر متباعدة فى العالم الخارجى بمواضعاته، تسقط هنا فى اللغة السردية الاحتفالية، أو تسقط بفضل هذه اللغة السردية الاحتفالية.
(8)
يتصل هذان العملان من أعمال يحيى الطاهر عبدالله، إذن، ويتكاملان، فى تجسيدهما لمحاولة الخروج على المواضعات، تجسيدًا فنيًا، بعينه، يتجاوز مواضعات الكتابة التقليدية. ويصل هذان العملان بخاتمة “تصاوير من التراب والماء والشمس”، إلى أفق يغلقه الكاتب أمام محاولة الهرب نحو جنة متوهمة، بعينها، وربما أمام كل جنة متوهمة، وذلك من خلال فعلين مفارقين لكل جنة، ولكل توهم: بالموت الفعلى (كنقيض لـ”خلود” كل جنة)، وبالمواجهة (كتجاوز للتوهم، وكنقيض للهرب).
إن الإسكافى الذى يلخص حقيقة الموت لمن حوله: “حولنا القبور مفتوحة بشواهد (الرواية، ص 20)، مع قاسم المطارد بالموت (موت من حوله: ابنه، ثم زوجه التى تطارده صورتها فى زمنه الاحتفالى، ثم موته هو شخصيًا)، مع كل من فتح الله ورجب اللذين يعيشان حياة خطرة، استثنائية، تكاد تكون حياة على حافة الحياة، يجبرون جميعًا فى خاتمة العالم الاحتفالى كله، على أن يواجهوا كل ما كانوا يهربون منه.
ويبدو خروج هذه الجماعة الصغيرة، من الجنة الوهمية، نوعًا من الموازاة للتحول القديم: من آدم مغمض العينين، الذى لا يعرف التساؤل ولا الخجل، إلى آدم “الأرضى”، الذى بدأ يفتح عينيه على سوءات العالم، بما فيها سوءاته هو، والذى بدأ يعى طبيعته الأرضية الطينية، كأنها بشارة بجنة أخرى، غير جاهزة، جنة لا بد للإنسان أن يحرث أرضها، ويزرعها بنفسه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب _ جامعة القاهرة 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي art 14
Uncategorized
موقع الكتابة

انتحار