د. نعيمة عبد الجواد
ظهرت سينما العنف والبلطجة، أو ما أطلقت عليه فيما سبق اسم الفن الأسود، كتعبير مرئي مباشر لحركة القوى السوداء Black Power Movement في المجتمع الأفريقي-الأمريكي بالولايات المتحدة، والتي ظهرت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كحركة سياسية واجتماعية آمن مؤيدوها بأن بالرغم من الظروف الاجتماعية والسياسية المتردية التي تسود المجتمع الأفريقي-الأمريكي، لكن أفراد هذا المجتمع يشكلون قوة. وعلى هذا فإن جميع ما يشوب المجتمع الأفريقي-الأمريكي من خصال مجتمعية وفردية يمجها المجتمع الأبيض المهيمن، و يعتبرها وصمة عار، ما هي إلا الخصال التي تشكل مصدر قوتهم وهويتهم كمجتمع متفرد. ومن ثم، نادت حركة القوى السوداء Black Power Movement بالفخر العرقي والاكتفاء الذاتي وتحقيق المساواة لجميع من ينتمي لأصل أسود وأفريقي. وبسبب قوة الحجة التي أقيمت من أجلها حركة القوى السوداء Black Power Movement ، وجد أفراد المجتمع الأفريقي-الأمريكي أنه بالرغم من كل المشكلات التي تثقل كاهلهم، يجب وجود تكاتف بين جميع أفراد المجتمع الأفريقي-الأمريكي لتفكيك القوة البيضاء، وومن جراء ذلك لسوف تتوافر على الساحة الاجتماعية مكان ولو لصوت سياسي أسود واحد من شأنه خلق قوة سوداء جماعية. ومن جراء هذه المعتقدات، غالباً ما يتم تمثيل حركة القوى السوداء Black Power Movement على أنها حركة عنيفة ومناهضة للمجتمع الأبيض، وكذلك مناهضة للقانون. ولقد عمل الفنانين وذوي المواهب على تمثيل حركة القوى السوداء بشكل فني، حيث تواجدت في: إلقاء الوعظ ، والصور الفوتوغرافية, والرسومات، وكذلك صناعة الأفلام التي تعبر بشكل مرئي عن المجتمع الأفريقي الأمريكي، وكفاحه، بالرغم من كل ما يحيطه من ظروف مجخفة.
ومن الأفلام التي تعبر ليس فقط عن المجتمع الأفريقي-الأمريكي، ولكن أيضاً عما يعج به هذا المجتمع من عنف وجريمة، فيلم “من كومبتون مباشرة ” Straight Outta Compton وهو فيلم يصنف على أساس كونه من أفلام السيرة الذاتية، فهو يحكي سيرة واقعية لصعود فريق غنائي أفريقي-أمريكي كان له دوي الصدى بالرغم من أن أعضاء الفريق جميعاً من الخارجين عن القانون. والفيلم يقدم بالدليل العملي أن الجمال والموهبة والرقي قد تنبت من أسوأ الظروف، فالذي يميز إنسان عن الآخر ليس بيئته النظيفة، أو حتى رقي علمه، ولكن مدى إصراره على التغلب على ظروفه السيئة؛ للوصول للنجاح.
ويؤرخ الفيلم قصة صعود الفريق الغنائي الأفريقي-الأمريكي الشهير إن دبليو إيه (NWA) والذي هو اختصار لعبارة “زنوج ذوي موقف” Niggaz wit Attitudes. ومما يميز اسم الفريق الجنوح إلى الفخر العرقي؛ فلقد كان من غير لائق بالماضي، قبل ظهور حركة القوى السوداء Black Power Movement، أن ينعت أحدهم أي شخص أسود البشرة بلفظ “زنجي”، لكن كما هو واضح من اسم الفريق، أن هذه التسمية لا تؤثر على أفراد المجتمع الأفريقي-الأمريكي بالسلب، بل على العكس، صارت المعبر عن هويتهم التي لا يريدون أن يطمسونها. أضف إلى ذلك، الطريقة التي تمت بها كتابة اسم الفريق باللغة الانجليزية ما هي إنعكاساً لكيفية نطق الأفريقيون –الأمريكيون لهذه الكلمات، فيما يعني وجود مصداقية على كل المستويات.
والفريق الغنائي الأفريقي-الأمريكي الشهير إن دبليو إيه NWA يعد من الفرق الشهيرة التي ظهرت في مدينة كومبتون بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة، واستمر نجاحه في الفترة من 1986 إلى 1991. ومن الطريف، أن أعضاء الفريق ما هم إلا جماعة من الشباب الذين يعملون في تجارة المخدرات، ويمارسون بكل أريحية جميع أعمال العنف والعربدة والرذيلة تماماً مثل أي زنجي خارج عن القانون، وساقط اجتماعياً. لكن أعضاء الفريق بالرغم من كل تلك الظروف المحيطة، اكتشفوا أن لديهم موهبة الغناء والتأليف. فكانت طريقة غناءهم وموضوعات أغانيهم ما يميزهم ويضعهم على صدر قوائم أشهر وأهم الفرق الغنائية التي سادت تلك الفترة حتى يومنا هذا.
فمن وسط كل هذا الحضيض، صاغوا طريقة جديدة للغناء بأسلوب الراب تم تسميتها ب “راب رجال العصابات” والتي تمجد أغانيها المخدرات وتعاطيها، وتحتقر النساء، وتعادي عنف رجال البوليس. ومن ثم صارت هذه الفرقة بسبب أغانيها مثار لجدل واسع.
ويعج الفيلم بالعديد من المشاهد الرائعة التي تضع الموهبة الفذة جنباً إلى جنب مع عالم الجريمة. فالاحتفال بنجاح الأغاني متلازم مع اقتراف الجرائم الأخلاقية مثل خيانة الأصدقاء، والتعارك بأشرس الأسلحة النارية الفتاكة. وأما الغناء على المسرح بكلمات أغاني تموج بألفاظ نابية تدون تجربة أعضاء الفريق مع اضطهاد رجال البوليس لهم، يصحبها من جانب الجماهير التي تصفق بحرارة من فرط الانفعال بغنائهم والعشق لكلمات أغانيهم، ومن جانب آخر مشهد رجال الشرطة الغاضبين المنتظرين انتهاء وصلتهم الغنائية لوضع الأصفاد في أيديهم.
ومن الناحية الإخراجية، يلاحظ أنه طوال مشاهد الفيلم، هناك تركيز بشكل متوازن على كل من أعمال العنف وحمل السلاح من ناحية، ومن ناحية أخرى، على الغناء والنجاح المهني. ولقد توج هذا التوازن مشهد عمل لقاء صحفي مع أعضاء الفريق من قبل مراسلين وصحافيين من أشهر الجرائد والمجلات. وبسؤال أعضاء الفريق عن تقييمهم لأنفسهم، نجدهم وبكل بساطة يجيبون بأنهم يعلمون مدى موهبتهم في الغناء، وفي نفس الوقت، يعلمون أنهم مجرد جماعة من المجرمين، فيقول قائد الفريق لأحد الصحافيين: “هذا النجاح مكانه على خشبة المسرح فقط، لكن إذا رأيتنا في الشارع خارج خشبة المسرح لسوف تميزنا على أننا من رجال العصابات.”
فالفن الأسود في المجتمع الأفريقي-الأمريكي ذو طبيعة خاصة جداً؛ فهو لا يبحث عن العنف من أجل العنف، بل تنطوي جميع أفلامه على رسالة واحدة يرغب صناع السنيما السوداء في توجيهها ليس فقط للمجتمع الأفريقي-الأمريكي، بل أيضاً لجميع المجتمعات على الصعيد العالمي، ألا وهي: قد ينبت من العنف والفساد، الخير والحق والجمال، وتحقيق ذلك ليس بالمستحيل حيث أن العنصر الأساسي لبلوغ هذا الانجاو هو الاصرار على النجاح، وقهر جميع الصعاب التي تحول دون تحقيق ذلك.