“تغريبة القافر” أسطورة قرية عمانية صغيرة (2)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كما ذكرنا في المقال السابق .. تحكي الرواية حكاية “سالم بن عبد الله بن جميل” الملقب بـ”القافر” لقدرته على سماع صوت الماء الجاري في باطن الأرض ومعرفة نقطة الإفراج عنه لتتحول المناطق المقفرة الميتة إلى واحات خضراء. والذي خرج حيًا من رحم أمه التي غرقت في بئر عميقة. بعدما شقت جدته –عمة والدته- بطنها لتخرجه معلنة عن ميلاد أسطورة غيرت حتى معالم الطقس في قريته، فتحول الصيف إلى شتاء لا تكف السماء فيه عن البكاء، ربما فرحة بقدوم الولد، أو حزنًا على غرق أمه.

في روايته “الانطباع الأخير” يتحدث الروائي الجزائري “مالك حداد” عن التحضر فيقدم له مفهومًا ذكيًا مغايرًا للفكرة الشائعة فيقول:

لم يعلن المطر سوى فرحة التلهي… ومن على الزجاج المروي قالت قطرة: إني أنتحب بلا حزن… وأجابت قطرة الماء منفعلة كوريد أو كشعرة مجعدة: الناس الذين نحسبهم متحضرين هم بشر حمقى لدرجة أنهم اعتقدوا أنهم محقين عندما اخترعوا المطريّة (المظلة)…إنني المطر، إنني عارٍ كقنبلة… إنني مطر لأنشودة الأطفال الصغار…فيما مضى كان الفلاح هو الذي ينتظرني وفي يده مقبض المحراث…”.

نعيد في ظل هذه اللمحة الذكية اكتشاف زوايا تحضر ورقي مجتمع قرية عمانية صغيرة كما نقلها لنا “القاسمي”.

المطر في القرية

تحوّل الصّيف فجأةً إلى شتاء قارس، …وبدأ المطر ينهمر بشدّةٍ وكأنّ السّماء قد دلقت نفسها على القرية. جرفت السّيولُ البساتين وذابت جدران البيوت الطّينيّة فتساقطت الأسطح، وهرب النّاس بأمتعتهم وطعامهم إلى مغاور الجبال واحتموا بالكهوف الكبيرة أيّامًا عديدة، ومن هناك ظلّوا يراقبون الماء وهو يغمر البلدة ويأخذ في طريقه كلّ شيء، فصارت بيوتهم أثرًا بعد عين…، …استمرّ المطر في تدفّقه الغزير أُسبوعًا كاملًا…، لم تخلّف الجائحة وراءها شجرةً واحدة قائمة، إلّا أنّ أهل البلدة فرحوا بالخصب الّذي حلّ وقد رأوا امتلاء الوديان والشّعاب، وضجّت جنبات القرية بخرير الجداول وتدفّقت مياه الأفلاج بغزارة حتّى فاضت السّواقي”.

“كانت سنةَ خصبٍ لم يتوان النّاس فيها عن ترميم بيوتهم، واستصلاح بساتينهم، ومع الأيّام عاد إلى القرية رونقها وبهجتها كأنّ شيئًا لم يمرّ بها من قبل”. ص44.

نلاحظ بخلاف تطبيق نظرية “حداد” عن مفهوم التحضر الفكري عند أهل القرية العارفين بقيمة المطر كوسيلة لتخصيب تربة الأرض، أن هذا المطر يهدم كل البيوت بلا أية تفرقة فمادة البناء العمراني واحدة في جوهره لا تفرق بين غني أو فقير.

 المطر في المدينة

نشأت في حيّ عشوائي، المطر جنة الأطفال لحظة هطوله، إلا أنه بتوقفه تتحول الشوارع إلى برك طينية تشل حركة سير وتنقل سكان المنطقة لمدة أيام بسبب سوء البنية التحتية.

نذهب إلى أعمالنا صباحًا وأحذيتنا وأطراف ملابسنا مغطاة وملطخة بطبقة سميكة من الطين، وعادة ما يفصل سور أو كبري مشاة بين أماكن سكننا في المناطق الشعبية والعشوائية ومناطق أعمالنا في الجهة المقابلة الراقية.

نقطع الطريق بين العالمين ونحن نتأفف ونلعن اللطخات التي تميز بيننا أهل العشوائيات المتنقلون على كتف المواصلات العامة، وأهل تلك المناطق الراقية المسفلتة، التي ربما يركد على جوانبها بعض البحيرات المائية الصغيرة، الخالية من الطين.

يعكس المطر بطريقة غير مقصودة في المدينة مشكلة بنية تحتية تؤثر فقط على مناطق قضاء حاجات الفقراء من أسواق خضروات شعبية ومخابز…، يترتب عليها ظهور الفرق الواضح في مستوى معيشة الطبقات الاجتماعية المختلفة. المطر وحده لا يعري تلك المسافة الواضحة بين الطبقات ولكن المطر بطينه يعري التماهي ولا يدع مجالًا للاختباء أو الادعاء.

السلطة ما بين قرية ومدينة

نلاحظ في قرية “القاسمي” ثلاثة أنواع من السلطات، وطريقة تعامل المجتمع معها:

أولا: سلطة الفقيه

اكتشف أهل القرية حركة الجنين في رحم الغريقة أثناء غُسلها: “ساد الوجوم وجوه الناس الحاضرين، ما الذي يتوجب عليهم فعله؟ هل يجوز فتح بطن الميتة واستخراج جنينها أم يجب أن يدفن معها؟“.

قطع حيرتهم: “الشيخ حامد بن علي، وهو الفقيه الذي يستمع إليه كل الناس، قال لهم وقد هب من جلسته في الطرف القصي من الحضرة:
“بو فبطنها أولى به الدفن
“.

ولكن اختلف معه “الشايب بو عيون”، وبعدما اتهمه الفقيه بالجهل والخوض فيما لا يعلم: “عندئذ قام بو عيون من مكانه واتجه إلى حيث يقف الجميع حول الشيخ حامد بن على وقال وهو يشير بعصاه ناحية الجثة المسجاة:

=لكن هذي حياة، تدفن إنسان حيّ في التراب وتحكم عليه بالموت، وتقول شرع؟

وفي خضم النزاع القائم، وغفلة الناس، سحبت كاذية بنت غانم سكينا من حزام أحد الحاضرين، ورفعت ثوب الغريقة، وشقت بطنها ثم أدخلت يديها لتخرج الطفل من الرحم، وما إن قطعت حبل المشيمة ورفعت الطفل كما تفعل أي قابلة متمرسة، حتى سمع الجميع بكاءه“.

فرغم قوة سلطة الفقيه على أهل القرية إلا أنه عندما يخطئ يمكن مواجهته بحكمة كلمة من كبير مثل كلمة “الشايب بو عيون”، تُحَفزّ جرأة محب قوي للفعل مثل فعل “كاذية بنت غانم”.

ولكن في المدينة لا يوجد فقيه واحد يمكنه البتّ في أمر ما، ربما كان لكل واحد منّا فقيه أو داعية بحسب طريقة تديننا أو خلفيتنا المعرفية والثقافية، وسلطة الفقهاء في النهاية شكليه عند البعض، وإلاهية عند البعض الآخر.

ثانياً: سلطة شيخ القرية

بعد سنوات الخصب والنماء توقف المطر وشح الماء، ولم يتبقى في القرية غير نبع “الوعري” الصغير، يتقاسم أهل القرية ماؤه بينهم بالعدل، إلا أنه لا يكفي إلا لحاجة البيوت اليومية، وبالتالي مات الزرع، وتشققت التربة، فكان لزاما على أهل القرية التكاتف والتآزر أمام المحنة، واجتمعوا لمواجهتها على قلب رجل واحد بتتبع مسارات السيول القديمة التي طمسها الطين وتَغَيِّر شكل البناء في القرية على مر السنوات، لحفرها واستخراج مياه المطر المحتبس بداخلها.

عادت الذّاكرة بالوعري إلى الأيّام الّتي طردته فيها أمّه من البيت، عادت إلى الأماكن الّتي جلس فيها، وكان أحدها شريعة الفلج، هناك تمامًا عند انبثاق الماء من الأرض وخروجه، لقد جلس هناك طويلًا، فكيف لا يعرف مكانه، تذكّر الصّخرة الكبيرة الّتي استظلّ بها طيلة النّهار، نظر ناحيتها فإذا هي قد دخلت بطن الضواحي، كانت تلك الضّواحي لأكبر أغنياء البلد، وأكثرهم صيتًا ومكانةً بين النّاس، كانت للشّيخ، شيخهم، فكيف ينسى الشّيخ شيئًا أخذه بلا حقّ وضمّه إليه“. ص108

ولأن “الوعري” مستقلٌ وقادرٌ على قول الحق: “لم يلبث أن أشار بيده ناحية الصّخرة:

-هناك، عند الحصاة الكبيرة.

أطرق الشّيخ رأسه خجلًا، إذ تذكّر كيف تعدّى على حرمة القرية وامتدّت يداه إلى حرم الفلج وأخذ الأرض الّتي تحيط به وهدم كلّ ما حوله، فنظر النّاس إليه ولم ينبس أحدهم بكلمة“. 

غريب علينا في المدينة أولًا/ أن يخجل مسئول سرق حقوق الضعفاء أو أساء استخدامها. وثانيًا/ أن يجد قويًا مستقلًا يعريه من دون مساءلة وعقاب ربما ينهي حياته، أو على أقل تقدير يكلفه سنوات عمره المتبقية متعفنًا في سجن ما.

ثالثًا: سلطة المجتمع

-“الناس لا همّ لهم إلّا لوك الحكايات الجديدة وخلق أحداثٍ غرائبيّةٍ لا أصل لها” كما تخبرك “كاذية” لهذا ينتشر أي خبر:

-“انتشر الخبر، انتشر كما الحريق يبدأ من شرارة في كومة ليف ثمّ تأخذ نسمة هواء خفيفة الشّرار إلى الأشجار والمزروعات الأخرى، وفي لحظة قصيرة من الزّمن يتوهّج المكان ولا تُبقي الناّر ولا تذر”.

ويتم تجنب واضطهاد المختلف خاصة وإن كان صغيرًا من أقرانه، بوصية من الأهل الخائفين الذين يردّون هذا الاختلاف إلى عمل سحر من إحدى الجارات الحاسدات، مثلما ظنت “آسيا بنت محمد” في جارتها التي استكثرت عليها زواجها من “إبراهيم بن مهدي”، بسبب موت بناتها الرضع الخمسة، الواحدة تلو الأخرى.

 أو إلى لبس من الجنّ وسكان الأرض لهذا المختلف كما اعتقدت والدة “الوعري” بعد مرضه طفلًا، وتغير سلوكه بعد استعادة وعيه وصحته لدرجة طردها له من بيتها أثناء غياب زوجها، ثم محاولتها لقتله.

ثم ما تقوّل به الناس على “القافر” صغيرًا بعدما اكتشفوا قدرته على سماع صوت الماء الجاري في باطن الأرض:

وَلد عبد الله بن جميّل يسمع شيئًا في باطن الأرض…، استعاد النّاس حادثة غرق أمّه وقالوا إنّ سكّان البئر في العالم السفليّ أخذوا جنينها ووضعوا أحد أبنائهم بدلًا منه. وهناك من اتهمه بالسّحر، فقال سيكبر وسيسحر الكبير قبل الصّغير“. ص73

ولكن في القرية يمكن تصحيح أو تهدئة وتخفيف ثقل فكرة خاطئة عن شخص بمواجهته مثلما فعلت “آسيا” مع جارتها التي لم تنكر حقدها:

“استغفري ربش، إنّ بعض الظن إثم، أنا صحّ كنت حاقدة على زواجش لكن هذي قسمة ونصيب وهذاك شي وانتهى وقلبي صافي وما أحمل شي عليش ولا على زوجش”. ص55.

ويمكن أيضا مواجهة كلام أهل القرية واستخفافهم بالإصرار على عمل المختلف ما دام الإنسان واثقًا من عمله، كما أخبرت “كاذية” “عبد الله”: “أوّل بيستخفوه وبيضحكوا عليه وبيقولوا مجنون، لكنّهم في التالي بيتبعوه وبيلقيوا الماي“. ص113

أما مجتمعات المدينة فلديها خصائص مختلفة حيث أنها ليست طبقة واحدة، هي عدة طبقات تختلف وطأة سلطتها من طبقة إلى أخرى، ولكن في الشخصية المصرية تحديدا، هناك اتفاق ضمني مجتمعي لتحجيم وتقزيم وتجريف الشخصية، يتجلى بسهولة في أحداث فيلم بعنوان “تيتا رهيبة” بطولة الفنانة القديرة سميحة أيوب والفنان الكوميدي محمد هنيدي.

تتلخص الفكرة في أن كبار السن يعرفون، ويَقْدِرون وأولى بمسك زمام الأمور مجتمعيًا وفكريًا، لهذا مغفور لهم أية إساءة لأبنائهم أو أحفادهم فالأبناء والأحفاد فاقدون للأهلية وإن بلغوا سنّ الأربعين.

الحب، الحرية، وقوة الشخصية

أولا/ في المدينة

التجريف والتقزيم والإساءة المجتمعية للفرد في المدينة في طبقة معينة أو في عدة طبقات أو بالأحرى في عدة مستويات للطبقة الواحدة فالفقراء ليسوا سواء، والأثرياء أيضًا ليسوا سواء. ينعكس ويتجلى في عدد كبير من علاقات حب وزواج مشوهة.

رجل وامرأة يتربيان في أسرة تلغي وتحقر من شخصيتهما، أو تضخم من قيمة الذكر بذكورته، وتحقر من قيمة الأنثى بأنوثتها. كيف سيختار كل منهما زوجه؟

ويضاف إلى هذا التعقيد الاجتماعي وما فرضه من أفكار مغلوطة عن صورة الفرد لنفسه، ظروف اقتصادية طاحنة. يترتب عليها قلق دائم من الغدّ، فيستحيل على غالبيتنا توفير استقلال مادي يغطي احتياجاتنا ولو بأيسر الإمكانيات، فكثير منّا لا يمتلك بيتًا، وإن امتلكه فلا يعني هذا في المدينة أنه سُتر هو وأهل بيته، فهناك الصيانة والكهرباء والمياه ومصروفات التصالح وغيرها من الفواتير التي لا تفنى ولا تستحدث من العدم.

مصروفات المدارس والمواصلات أو بنزين العربات والعلاج… ولكل مستوى اجتماعي كمالياته المرهقة فيضيع جوهر قدرتنا على فهم أنفسنا وبالتالي وعي فكرة أن يُخلق من أنفسنا سكنًا مريحًا يرحمنا عند الخطأ بالستر والتغاضي عن الحكم علينا، كما تسترنا البيوت وتحمينا. كيف لشخص مكبّل تستعبده متطلبات حياة المدينة، ولا يقدّر ذاته، أن يفرق بين الجوهري وغير الجوهري في الزواج؟

ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ” سورة الروم.

الشائع في المدينة أن الزواج مقبرة الحب وأسوأ المؤسسات الاجتماعية، لأننا ببساطة لسنا أحرارًا بما يكفي لنفهم ونختار ونضحي بـ”أنا” لصالح “نحن” عن طيب خاطر.

ثانيًا/ في القرية

انعكست بساطة الحياة في قرية “القاسمي” وبُعدها عن التعقيد على عذوبة العلاقات الثنائية بين أبطاله، وبطلاته:

“عبد الله ومريم”

بعد غرق “مريم بنت حمد ود غانم” يرصد لنا حال زوجها عبد الله بعد وفاتها في لقطة كاشفة: “بعد توقّف المطر، جاء عبدالله بن جميّل إلى بيت كاذية و قد ملأ روحه الحزن ففاض وانعكس على وجهه، وتحوّل لونه إلى السّواد وتهاوت كتفاه على نحوٍ بدا من خلاله كأنّه يخبر بعجزه عن فعل أيّ شيء من دون زَوجته“. 

ثم يعود “القاسمي” فلاش باك لنعرف حالته لحظة اكتشاف أهل القرية لفجيعة غرق أحدهم ولا يدري أنها زوجه: “عندما سمع الصراخ يعلو من الجانب الآخر للوادي، كان مشغولًا بإعداد الغداء، فقد عاد إلى البيت مبكّرًا ولم يجد زوجته، فقرّر أن يعدّ الغداء لها بنفسه، فيريحها من عناء ذلك...”. ص37.

ثم يشاركنا رسالته الأخيرة وروحه ترد إلى باريها: “سلّم على كاذية، قولها ولدِش يسلّم عليش، سلّم على الوعري، ولو فيوم من الأيّام بغيت تكلّمني روح عند قبر أمّك بكون هناك، باه سالم أسمع الماي يجي من بعيد، أسمع كلّ قطرة تبلّل روحي، عطشان يا باه عطشان… عطشان أسمع صوت أمّك، أسمع ضحكتها، باه صوت أمّك جنّة، ويدينها كانت حياة“. ص148

“كاذية والوعري”

لم تتزوج كاذية من الوعري رغم حبها له وحبه لها الصامت، كانت من الضعف أمام كلام الناس الجارح عنه في شبابها، ورغم استعادته لمكانته وسط الناس في كبرهما إلا أنها خجلت من أن يقولوا: عزفت عن الزواج بسبب حبها له فينكشف السرّ.

لكنها في نفس الوقت كانت تعرف من تحب وما تريد، فمضت حياتها وحيدة ولم تقرن نفسها الموهوبة له إلى رجل غيره.

ولهذا استحقت بعد موتها أن: “حزن سلام بن عامور الوعري حزنًا شديدًا على وفاتها، وصار يختار اللّيالي المظلمة ليقضيها جالسًا عند قبرها، يحدّثها عن تلك اللّواعج الّتي عاشت في صدره، ويخبرها بحكاياته الّتي ودّ لو أسمعها إيّاها منذ زمن“. ص151

“آسيا وإبراهيم”

إبراهيم ترك آسيا وحيدة بعد وفاة البنات ولم يكن يعلم بحملها الأخير، تحملت هجره، وفي رأيي سبب هذا التحمل له ثلاثة أبعاد جوهرية عكستها حياة القرية الصحية البسيطة.

البعد الأول هو مفهوم إبراهيم الشخصي عن علاقة زواجهما، وأتي هذا المفهوم بكليته على شكل ذكرى في ذهن آسيا: “في الأيّام الأولى كان صوته يرنّ في أذنيها، تأتيها خيالاته وهو يشرب الماء بقربها ثمّ يقول لها: كلّ حدّ يسقيه الله فهالدنيا من روح إنسان ثاني، كلّ حدّ عطشان الين يلقى لماه. ويلفّ ساعده حول رقبتها، ويجذبها إليه بلطفٍ لتستكين تحت كتفه ثمّ يقبّلها ويختتم مقولته: أنتِ عطشي وأنتِ لماي“. ص33

البُعد الثاني هو استقلال أسيا الفعلي ماديا، كباقي نساء القرية، فمتطلبات المعيشة هناك لا تقتضي مظاهر اجتماعية مكلفة مثل المدينة، وكلهن إما يعملن في التطريز مثل “مريم” أو يربين الأبقار مثل كاذية أو الأغنام مثل أسيا، أو يربينها ويغزلن صوفها مثل “نصرا”.

حتى أنها عندما وصلت لزوجها المريض وجدته يعيش تحت شجرة سدر فما كان منها إلا أن: “بنَتْ آسيا سياجًا من سعف النّخيل حول السدرة، ثمّ رتّبته ونظّفته حتّى صار مقبولًا للسّكنى“. ص56

في القرية لا يحتاج الإنسان إلا لقطعة أرض صغيرة يحاوطها سعف نخلٍ ليبني بيتًا آمنًا.

البُعد الثالث حريتها ومنبعها قدرتها على الاختيار، فهي لم تكن مجبرة على السفر خارج قريتها لأول مرة في حياتها. كان خوفها الوحيد ليس ترددا في السفر بحد ذاته ولكن حرصها على علاقة الأمومة بينها وبين “سالم”. حرية تدفعها إلى أن تعفو لقدرتها، قدرة تجعلها كريمة ومعطاءة لدرجة عدم العتاب أو التجريح والانتقاص من مريض لا حول له ولا قوة.

“نصرا وسالم”

يحبس سالم تحت الفلج، فيقرر الناس أنه مات وهو يستميت للخروج، ونصرا تشعر بذلك، وكيف لا يشعر السكن بحال ساكنيه؟:

كانت نصرا بنت رمضان تسمع صوته، تصلها أنفاسه، يكاد جسدها يحسّ بزغب ساعديه وصدره، وكلّما حرّكت يدها بدت لها أصابعها كأنّها تتخلّل شعر رأسه الكثّ الّذي لم يحلقه قَطُّ…، يزداد العتاب ويتكاثر الكلام فيملأ صدرها، وتصيغ التفاصيل والكلمات في انتظار عودته، ستقول له كذا وكذا، ستمنعه في المرّة المقبلة من السفر، ستصرخ في وجهه وتغضب، لكنّها تعرف أنه ما إن يعود وتسطع رائحته في أنفها، ويحتضنها حتّى يندثر ذلك الجدار الذي شيّدته في مواجهة غيابه“. ص200

أما في مواجهة الأهل المصرون على موته وتزويجها من غيره، تتحول إلى “بنلوب” الجميلة ملكة “إيثاكا” اليونانية، تقرر غزل صوفها الأبدي الذي يحمل كل خيط منه اسم فلج من الأفلاج التي حفرها زوجها الحاضر الغائب. كأسطورة لا تكف عن التكرار وإبهاج النفس رغم الوجع وألم الفقد، فكل غائب حاضر في قلب وذاكرة محبيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات من نفس القسم