إن المتأمل في المتن الحكائي لهذه الرواية قد لا تعنيه حكاية السارد، وقصص حبه وحالاته الوجدانية والنفسية والوجودية، كما قد لا تعنيه حكايات نسائه، أو حكاياته مع من عشقهن وعشقنه من نساء؛ بقدر ما سيثير انتباهه مكر الرواية ولعبة المتخيل فيها، مما يجعل التأمل في منطق هذه الرواية وطرق تفكيرها في الصنعة الفنية أهم من كل حكاية. ولعل هذا اللعب الروائي، وهو يحاور السرد الأدبي ويداوره، ويستفيد منه ويسخر به/ومنه، أهم لمحة انبنى على أساسها متخيل “وراق الحب”. إننا أمام رواية لا تسرد قصة حب، ولا تتحدث عن مفهوم لهذه القيمة الإنسانية، ولا تحلل عواطف الشخصيات وحالاتها النفسية، فحسب، بقدر ما تدخل القارئ في متاهات سردية غير متناهية، لكن هذه المتاهات تجعل النص الروائي متحققا مكتملا عبر اكتمال حكاية بطله برغم انفتاحها على عوالم غير منتهية.
ولعل اللعب الفني في هذه الرواية يبدأ من عنوانها الذي ينفتح على تأويلات عدة من خلال علاقة مفردتيها : وراق وحب. إن قلب هذه العلاقة إلى “الحب وراق” تمنح القارئ احتمالات أخرى للفهم والتعامل مع النص الروائي. أن نقرأ العنوان كما وضعه الروائي يقدم الفهم التالي: هناك شخصية تبحث في الحب وتسعى إلى إدراك معانيه ودلالاته عبر القراءة وجمع ما كتب في الموضوع، لكن قلب العنوان إلى: “الحب وراق” تبين معان أخرى، من بينها أن الحب مزهر ومثمر ومتعدد. ولعل هذا المعنى هو الذي قصدته الرواية عبر لعبتها السردية الفاتنة، عبر مخاتلتها خط الفهم الواحد الوحيد عن طريق تداخل الحكايات وتعدد أسماء الشخصيات النسائية التي يحكي السارد/البطل عن علاقته بها. إن القارئ بعد الانتهاء من الرواية لا يدرك، وسط تعدد شخصياتها وتشعب حكايات بطلها، الحقيقة من الخيال داخل هذا النص التخييلي الذي تبدو عليه مظاهر صنعة روائية تنتصر للجديد في الطرائق الفنية.
واللافت للنظر أن هذا اللعب في الرواية يبدأ منذ عنوانها الذي يحمل مكر الازدواج والقلب، كما أشرنا، وينطلق من العنوان ليمتد بين ثنايا النص. وإن عبارة: “وراق الحب” التي يمكن تحويلها إلى “الحب وراق”، تكشف عن ازدواج في دلالة العنوان، كما تلمح إلى تعدد حكايات النص و”تورقها”/ تشعبها إلى ما لا نهاية. فإذا كان الحديث في مفتتح الرواية يتمحور عن وراق/ناسخ لكتب العشق والهوى، وهي شخصية مفترضة لتشكيل رواية، نلفي لحكايتها امتدادا لدى الشخصية الأساس في الرواية الشغوفة بقراءة الإبداع الروائي العالمي واستثماره للإيقاع بالنساء، الراغبة في كتابة رواية عن “وراق حب”، وهي شخصية محبة لاستظهار مقاطع من الروايات التي قرأتها مع إعادة كتابتها وتوظيفها في سياقات جديدة؛ فإن الافتراض الثاني للعنوان: “الحب وراق” يلمح إلى معنيين تحملهما لفظة وراق، وهما: الإيناع والانتشار. والمعنى الأول دال على التعدد والإزهار والكثرة، وهذا ما تعرفه تجربة السارد/ بطل الرواية، ولكن المعنى الثاني الانتشار قد يرتبط بهتك الأسرار وفضحها، وفي لغتنا الدارجة المغربية تحمل كلمة “وراق” هذه الدلالة ذات المغزى: نقول “ورَّقه” بمعنى فضحه وكشف طواياه. وبهذا يصبح الحب بهذا المعنى فاضح لصاحبه وفضاح لأسراره وأحواله النفسية والوجدانية.
ينبني الحدث الرئيس في النص على لعبة سيناريوهات محتملة لعلاقات حب لا يعرف القارئ مدى واقعيتها ومنتهى جديتها، بل إنه يدخل متاهات حكايات افتراضية متخيلة إلى حد اختلاط الأمر عليه والتباسه بالنسبة إليه، إن لم نقل غموضه وإغلاقه. ولكن هذه اللعبة الفنية تعد استراتيجية روائية هدفها تكسير نمطية السرد الروائي، وخلط أوراق القارئ، وبعثرة أوراق الحكاية إلى حدودها القصوى. إن أول سيناريو يطالع المتلقي يتمثل في رغبة السارد في تأليف رواية عن شخصية متخيلة تهتم بجمع ما قيل وما كتب عن الحب والفراق والموت. ويقود هذا السيناريو السارد إلى سيناريوهات أخرى: التعرف على فتاة في المكتبة الظاهرية بدمشق تتعدد بعدها اللقاءات، لكن سرعان ما نجد أنفسنا أمام فتاة أخرى لا علاقة لها بالأولى، وأمام سارد آخر لا علاقة له بالأول سوى الرغبة في كتابة رواية وحب الاطلاع والقراءة. ونفاجأ، أيضا، بنساء أخريات يبرزن في حياة هذا السارد الملتبس الغامض. والملاحظ أن الرواية أصرت على “نصب الفخاخ” روائيا للشخصيات السردية وللقارئ معا، بحيث تدخل في طقوس متاهية تتميز بالتوتر والإيقاع السريع المتلاحق.
إن الانتقال بين المكتبات بحثا عن الكتب التراثية التي تناولت موضوع الحب والعشق، أتاحت للسارد فرصا للقاء بنسائه اللواتي يتحدث عنهن، كما أنه – عبر الغوص في تفاصيل هذه اللقاءات ووقائعها- يتيح لنفسه إمكانية بناء متخيله السردي الفاتن. في المكتبة الوطنية سيجد نفسه في حضور أنثى سبق أن رآها في المكتبة الظاهرية، كما أشرنا سابقا، لكنه في هذا الفضاء الجديد سيقتحم خلوتها إلى الكتاب، ويدخل عالمها لتبدأ قصة أخرى من قصص السخرية بالتراث السردي وتشكيل ملامح بارودية للسرد الروائي. إن الفتاة طالبة ماجستير لغة عربية تحضر بحثا عن “طرائق السرد في التراث العربي وتأثيرها على الرواية العربية الحديثة”، وهو البحث الذي اختزله السارد/البطل في لمحات مختزلة ونبرة وثوقية، يقول راويا ما دار بينه وبين الفتاة :
“.. أجبتها: “مكتبتي تحت تصرفك، لدي عشرات المصادر في هذا الاختصاص. وبإمكانك اختزال المسألة بثلاث أو أربع طرق. قالت: “وما هي هذه الطرق؟” أجبت: “زعموا أن في كليلة ودمنة لابن المقفع. وبلغني أن أيها الملك السعيد في ألف ليلة وليلة. ويحكى أن في المقامات. وقال الراوي في السير الشعبية كالسيرة الهلالية وسيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة عنترة، وهناك عشرات الروايات التي تقلد هذه الأساليب. عند هذا الحد أحسست أنني وقعت واقفا. فقد كانت تنظر إلي كالبلهاء. من جهتي استغللت الموقف بأن مددت يدي نحو طرف فمها وكأنني ألتقط نقطة سوداء عالقة، ثم قلت برصانة: “هل تجدين صعوبة في إعداد البحث؟” هزت رأسها موافقة، ثم طرحت عليها سؤالا آخر: “من هو الدكتور المشرف على بحثك؟”، وقبل أن تكمل اسمه الثلاثي أجبت جازما: “حيوان”. قالت متعجبة: “هل تعرفه؟”. قلت: ” أقرأ أبحاثه أحيانا في المجلات الأدبية، وليس لديه ما يقوله، إنه مجرد ببغاء في قفص التراث”. انفردت أساريرها قليلا، وقالت: “إنه معقد”. فأضفت: “جنسيا”. أحست بالخجل من العبارة، فقلت: “هذا حقيقي. ألم يحاول الإيقاع بك مرة؟”. هزت رأسها موافقة، ثم نظرت إلي بإمعان، وقالت:” ما هو عملك بالضبط؟”. أجبت وأنا أمزمز الرشفة الأخيرة من فنجان قهوتي بكل وقاحة الغجر: “روائي”…”(ص.58- 59)
يكشف هذا المقتطف من الرواية عن سخرية واضحة من التراث السردي العربي الذي اختزله بطل الرواية في صيغ أربع تتحدد بالراوي، ولم يكتف بذلك، فحسب، بل إنه وجه نقده اللاذع إلى الرواية العربية التي “تقلد” هذه الطرق، ولم تتمكن من مجاوزتها. ولعل هذه السخرية، هي التي أبانت لنا منذ مفتتح الرواية عن إعجاب بطلها بنمط آخر من السرد لا يمت بصلة إلى السرد العربي القديم، ولا إلى عشرات الروايات العربية التي تقلد تلك الطرق؛ إنه يولي وجهه نحو سرد بلاد أخرى، وإلى كتاب مرموقين يشهد لهم الأدب الحديث بالتجديد والابتكار في فن السرد وأساليبه، وهو لا يصرح برأيه مباشرة، بل يجعل المتلقي يكتشف بذاته هذه الحقائق عبر لعب سردي دال. يقول السارد في مشهد دال على هذا اللعب الماكر الذي يوحي بظلال معان تنتصر للسرد الحديث وتشجب كل أشكال التقليد:
” وحين عدت إلى قراءة “مائة عام من العزلة” بعد عشر سنوات تقريبا، شغفت بها بشكل لا يوصف، واكتشفت دون عناء سبب عشقي لهذا الروائي العظيم، ولقريته العجائبية ماكوندو بغجرها وبشرها المهملين وأسرارها وقدرها المحتوم في الفناء، وانتابني إحساس مباغت أن ماكوندو لا تختلف كثيرا عن قريتي في عزلتها التي تجاوزت ألف عام، لكن ما ينقصني هو شخصية مبهرة مثل الكولونيل أوريليانو بوينديا، فطوال حياتي، لا أذكر أن أحدا، مر بهذه القرية أو وطأ أرضها برتبة تتجاوز رتبة مساعد أول، وكان الدرك حين يأتون إلى القرية في فترات متباعدة، يثيرون الهواء الراكد في باحة بيت المختار، وقد جاؤوا لتبليغ الشباب البالغين للالتحاق بالجندية، وهو ما يثير مناحة لدى الأمهات، فمن يذهب قد لا يعود إلا محمولا في تابوت…”(ص. 14-15)
إذا كان النص الأول الذي انطلقنا منه يسخر من السرد العربي القديم ويختزله في كليشيهات محدودة، فإن السارد يبدي ولعه بالرواية الحديثة التي تكتب في أصقاع عالمية مختلفة. وإن اتخاذ الباروديا الساخرة من التراث السردي كان وسيلة للسخرية من الواقع العربي المعاصر بتناقضاته واضطراباته. وهذا ما لمسناه في النص الأول من خلال السخرية من مؤسسة الجامعة لما تحولت إليه من عقم معرفي وعلمي، وإنتاج أناس مرضى معقدين، أما في النص الثاني، فإن السخرية تطال المجال العسكري وفقر الواقع العربي ومتخيله مقارنة بغنى واقع إنسان أمريكا اللاتينية ومتخيله. وبهذا، فإن محاورة رواية “مائة عام من العزلة” تعد استراتيجية سردية لقول ما لم يُقل في السردية العربية، وهي جزء من تشكيل متخيل “وراق الحب” الذي ينطلق من المحكي الروائي الإنساني في بلاد أخرى لنسف “تقاليد” محكي عربي تقليدي نمطي عبر توليد إيهامات جديدة. وفي نفس الآن شجب حال مترد على جميع الأصعدة وفي شتى مناحي الحياة. وهذه المداورة، وهذا الذهاب في اتجاهات شتى من بين الألاعيب السردية التي انبنى على أساسها متخيل الرواية.
وما يجسده نص رواية “وراق الحب” عبر لعبه الفني هو سحر الرواية ذاتها، ومكرها بالقارئ في لعبة جدية لاهية، وفي سياق حوار سردي يجريه السارد مع تراثه السردي العربي، ومع بعض ما أنجزه السرد الغربي والإنساني في العصر الحاضر؛ فإلى جانب ماركيز تحضر أسماء أخرى منها: فارغاس يوسا، ميلان كونديرا، وأنطونيو سكارميتا، وإيتالو كالفينو، وبورخيس، وتولستوي، وفلوبير، وزولا، وبلزاك..
غير أن هذا الحضور يتبدى في مستويات مختلفة لا تطال الرواية العربية في العصر الحديث بالسخرية والتجريح، فقط، وإنما تمس الذات الساردة نفسها بالسخرية، إذ تجسد حالة تيهها بين البحث في التراث، والتخطيط لكتابة روايتها المفترضة واستنادها إلى آراء الروائيين وتنظيراتهم لكتابة فن الرواية، فضلا عن انغماسها في علاقات نسائية تزيد هذا التيه تجذرا واستفحالا. ولعل حضور كالفينو عبر وصاياه، وماركيز عبر نصائحه، وكونديرا عبر تنظيراته، وبورخيس عبر هذياناته، مع تجسيد السارد حيرته أمام كثرة هذه الآراء، وذهابه بعيدا عنها عبر توظيف اللعب السردي، والانفتاح على الافتراض والتخييل المتحررين، يعد نمطا آخر من السخرية بالإرث الغربي ذاته، ودعوة من الانعتاق من أسر النصائح والوصايا والتنظيرات والهذيانات إلى تشكيل متخيل جديد قوامه النسبية واللايقين والانفتاح اللانهائي على الافتراض والتعدد في بناء سيناريوهات الحكاية بحيث تنتفي كل حكاية ثابتة، وتتسلسل الحكايات مثل “جريان الماء” الذي يرتبط بمعنى الفعل “روى”. وإن هذا البناء السردي الذي يتميز بسرعة جريانه وإيقاعه يتشكل عبر التداعي والهذيان والافتراض، وعبر حضور متعدد للشخصيات النسائية التي تعرف إليها السارد ( ثريا، لمياء، سناء حسن، بهجة الصباح)، وعبر تعدد أوجه السارد ذاته الذي يدعي أنه أمين مكتبة في وزارة التربية، وأنه محرر صحافي، وعامل في مؤسسة سينمائية، وأنه روائي…
وإلى جانب ذلك تعد بنية التداعي، في تشكيل المتخيل الروائي، عنصرا جوهريا في كسر الأنماط السردية المألوفة سواء في التراث العربي أو في المنجز الروائي الغربي، وإن بنية الاحتمال من أهم استراتيجيات هذه البنية السردية، ومن أهم التحويرات التي يجريها السارد على المتون الروائية التي يحاورها وينطلق منها. يقول في مقطع دال من الرواية يجسد حالة من حالات انغماسه في التحضير لكتابة روايته المفترضة عن “وراق الحب”:
“… وها هو أجمل منتحل في العالم يطرق بابي بعنف، وكنت أتوقع أن يداهمني ماريو خمينث في أية لحظة ويفرض حضوره بقوة على مخيلتي، إذ طالما أجلت هذه اللحظة الاستثنائية، منذ أن بدأت التحضيرات الأولية لروايتي خوفا ألا أمنحه التحية التي يستحق بجدارة، فساعي بريد نيرودا الشخصي كائن خرافي لا مثيل له، اخترعته مخيلة أنطونيو سكارميتا ليهديني وملايين القراء الآخرين كما أجزم واحدة من الروايات التي لا تنسى، مثل أول قبلة مسروقة، أو لقاح الجدري، أو الوشم الذي يميز أبناء القبائل البدائية بعضها عن بعض(..) لمدة ثوان استعدت شريطا كاملا من أحداث الرواية، وكنت أود لو أسجل الصفحات المئة والثلاث والثلاثين كاملة لولا أنني سأتهم بأكبر عملية انتحال أدبية ارتكبها مؤلف مجهول، ورغم ذلك لم أتمكن من المقاومة أمام سطوة هذه المقاع التي تدور بين بياتريث وأمها..” (ص.39).
هكذا يكشف النص لعبة الكتابة التي لا تستدعي فقط بعض الشخصيات والوقائع، وإنما تحفز مخيلة السارد على الانتحال، بل الاقتباس المباشر من نص آخر لتشكيل متخيله الخاص، وبناء عوالمه السردية الفاتنة. ومن ثم الانجراف في استراتيجية التوليد والتداعي لصوغ النص الروائي. وبهذه الشاكلة تمكن خليل صويلح من محاورة السرد العربي القديم، ومن محاورة السردين الروائيين العربي والغربي المعاصرين على السواء، وبالتالي مداورتهما ومخاتلتهما قصد تشكيل نص روائي جديد لا يخضع إلى أي معيار جاهز، ولا يؤمن سوى بمنطق اللعب الفني، والاحتمال الجمالي منطلقين لكتابة الرواية. وبهذه الكيفية استطاع خليل صويلح صنع نص روائي يتميز بالجدة، ويقترح أفقا فنيا آخر للرواية العربية.